هل يتمنى الإنسان على الله أكثر من أن يهبه زوجة حسناء وثروة طائلة، ويمتعه بصحة سابغة وبنين، ويبوئه مركزا اجتماعيا فذا؟ وقد فاز حضرة صاحب العزة جمال بك ذهني بأولئك جميعا؛ كانت له زوجة شابة حسناء يعزي وجهها الحسن عن أحزان الدنيا جميعا، ووهبه الله أربعة من الأبناء كالورود صحة وجمالا، وترقى في مراتب الدولة حتى ولي كرسي الاستشارة في أكبر هيئة قضائية، وورث عن والديه ثروة طائلة ما بين عقار ومزارع، ومع ذلك فمن كان يطلع على وجهه ذلك اليوم إذ هو جالس في شرفة قصره المطلة على شارع السرايات يأخذه العجب لهذا الاكفهرار الذي يظله، وتلك النظرة القلقة التي تحار في عينيه منذرة بالشقاء!
ولا سبيل إلى إبطال هذا العجب ما لم نلم بماضيه؛ لأن حاضر الإنسان يقع غالبا من ماضيه موقع النتيجة من المقدمات، وإن كانت لا تدعم العلاقة بينهما في الحياة بما تدعم به في المنطق من الضرورة والأحكام. ومهما يكن من الأمر فقد كان ماضي صاحب العزة حافلا بالشباب المرح السعيد، والعقل النزيه، والذكاء الوقاد، والمغامرات التي تجعل من الشباب ديوان شعر غنيا بالذكريات العذبة؛ لأنه كان من الرجال القليلين الذين يصادفهم أجمل التوفيق وأسعده في دنيا النساء، فعشق عددا وافرا من الممثلات والراقصات وربات القصور المصونات غير متردد ولا حرج، ورشف من كئوس الهوى خمرا صافية أعمته نشوتها عن طي الأعوام، فما يدري يوما إلا وهو يصحو على عاذل يقول: «أتبلغ الخامسة والأربعين ولما تتزوج؟» الخامسة والأربعون .. أحقا ذهب الشباب الناضر وولى؟ أحقا تسنم ذروة الكهولة؟
ووجد نفسه يفكر في مسألة الزواج تفكير شاب يهدف للثلاثين، ويكاد الزواج أن يكون كالموت نهاية كل رجل، وإلا فلمن يترك هذه الثروة الطائلة التي يمتلكها؟ ومن يؤنس وحشته إذا احتجزه البيت يوما؟ ومن يعينه على متاعب الشيخوخة وأهوال الكبر إذا تألبت عليه عوامل الفناء؟
ولكنه لم يغفل عن أنه مغامر عشاق، ومثله يستطيع أن يقرأ قلب المرأة كما يقرأ الكتاب المفتوح، ويعرف طبيعتها معرفته لبديهيات الحساب؛ لذلك رأى أن الحكمة تملي عليه ألا يختار زوجة شابة تفصل بينها وبينه عشرات الأعوام، وصحت عزيمته على الزواج من أرمل أو مطلقة في الثلاثين على أدنى تقدير؛ حذرا من أن يقضى عليه بما قضى على ضحاياه الكثيرين.
ولكنه شاء غير ما شاءت الأقدار، وما حيلته في ذلك؟ لم يكن هو الذي يبرم الأقدار حين دعي يوما إلى حفل زفاف، فراح مالكا لفؤاده وعاد مسلوب الفؤاد والإرادة، ولم يكن هو الذي يخلق الأعمار؛ إذ كانت التي سلبته فؤاده في العشرين من عمرها، ربما قلت إنه ينبغي له أن يغلب الحكمة والعقل على الهوى، ولكن وا أسفاه فإن هذا القول وأمثاله لا يجدي فيمن تسيطر عليهم الشهوات؛ فجميعهم - أيا كانت الشهوة التي تتحكم فيهم - لا يرون في العقل سوي وسيلة لتحقيق شهواتهم، يستوي في ذلك منهم من يعبد الله أو يعبد المال أو يعبد النساء؛ فلم يتردد جمال بك عن سلوك سبيله المحتوم، وخطب الآنسة حياة إلى والدها الأستاذ محمد عويس الخبير بالمجلس الحسبي، وتمت الزيجة، وأثمرت على الأيام أربعة من الأبناء أكبرهم في المدرسة الثانوية وأصغرهم في الروضة.
ولكن للزمن حكمه الصارم كذلك؛ فقد أحيل المستشار في هذا الأسبوع إلى المعاش وأذن النذير بمجيء الخامسة والستين بكوارثها المعهودة من نضوب الأعصاب، وبرودة الاضمحلال، وتنكر معالم الدنيا وتألب أمراضها، وما كان به من ظمأ ولا جوع؛ فقد ارتوت نفسه من لذائذ الدنيا، وأخذ نصيبه كاملا من متاعها الغرور، ولكن دب بقلبه دبيب القلق الذي تعود بواعثه إلى تلك الزوجة الحسناء التي يعطيها الزمن - الآخذ منه - نضجا وكمالا، ويزيدها كل يوم حسنا على حسن، وما كانت مخاوفه أوهاما ولا محض حذر تمليه مغامراته الماضية، ولكنه شاهد هذا الصباح في شرفة الفيلا التي تواجه قصره ضابط بوليس شابا، يتألق جماله في بذلته الرسمية المزدانة بالنجوم الذهبية، وتنفخ صدره قوة الشباب وغروره، وتعبث أنامله بشاربه الأنيق الصغير؛ فانقبض صدره لمرآه، وتوجس منه خيفة لغير سبب بين. عجب كيف أنه لم يره قبل اليوم، وهل يقيم في هذه الفيلا يا ترى من زمن بعيد، وهل هو متزوج أو أعزب. وكان يستطيع أن يسأل زوجه عما يحيره، ولكنه نفر من هذا نفورا عجيبا، وآثر عليه الجهل والحيرة.
وكان قلقه غريبا لدرجة أنه ود لو يستطيع أن يحمل زوجه على نقل حجرة النوم إلى الجهة الأخرى من القصر المطلة على شارع القشلاق وإحلال المكتبة محلها، ولكنه لم يدر كيف يعلل طلبه، وأبت كبرياؤه عليه أن يفاتحها بشأنه.
ووجد في حياة الفراغ الجديدة فرصة طيبة لمراقبة «غريمه» في صمت وحذر، فلاحظ أنه يتناول الشاي كل صباح في شرفته، وأنه يعود فيجلس بها عند الأصيل ساعة أو نحو ذلك، وفي تلك الأثناء يصادف أن تدخل زوجه إلى الشرفة فيديم الشاب النظر إليها، وخيل إليه أن بصرها يتجه أحيانا إلى شرفته، نعم يحتمل ألا يكون وراء هذه النظرات أي معني سوء، ولكن يتعذر عليه أن يتصور أنه من الممكن أن ينظر شاب إلى مثل زوجه الحسناء نظرة بريئة لا يشوبها طمع.
وضاق بصمته المرهق، فأشار يوما إلى شرفة الضابط وسألها: من يقيم في هذه الفيلا؟
فقالت: جار جديد، أظنه مفتشا في الداخلية.
نامعلوم صفحہ