ولم يفرط في واحدة من هذه الرسائل التي سجلت تاريخ أكبر هزة عنيفة امتحن بها شبابه، فجمعها في رزمة، وحفظها في حق عاجي جميل، ووضعها في مكان أمين وانتظر.
جاءته رسالة مقتضبة من عائدة نفسها تعلنه بقدومها، وترجو أن يذهب للقائها في موعدهما المعهود عند العصر.
وفكر من أمره طويلا، تفكير من تسيطر عليه عاطفة مسمومة ونفس جريحة حتى انتهى من أمره إلى تدبير، فذهب إلى الموعد في الساعة المعهودة، ولم ينتظر هذه المرة لأنه وجدها في انتظاره، واستقبلته بيدين مفتوحتين وابتسامة مشرقة، فضمها بين ذراعيه ولثم شفتيها وهو يبتسم ابتسامة كلفته غاليا من الجهد وضبط النفس.
وجلسا إلى نفسيهما كما كانا يفعلان في الأيام الخوالي السعيدة، وسمعها تقول بفرح فائض: وأخيرا.
فردد قولها «وأخيرا»، ثم نظر إليها بعينين مبتهجتين تخفيان دهشة، وقال لنفسه: يا عجبا! ما أقدركن أيها النساء على إخفاء مشاعركن وتكلف ما ليس بكن!
وانطلقت هي تقول: أستطيع أن أخبرك كم ثانية غبتها عني طوال هذه المدة الثقيلة لا أرجعها الله. - الذي يبدو لي أن استغراقك في حساب الزمن شغلك عن الكتابة إلي. - أتسخر مني؟ .. آه لو تعلم كم كانت تكلفني الرسالة التي أكتبها إليك!
كنت أتسلل إلى مكان قصي بالبيت كي أخفي نفسي عن أعين أبناء عمي .. فيجدون في أثري ويهددون عزلتي، ويفزعون أخيلتي المنسجمة وعواطفي الحارة، فإذا انتهيت منها احترت كيف أسلمها إلى صندوق البريد. - ألم يكن الخروج هينا عليك؟ - أحيانا مع عمي. - لم لم تخرجي في الصباح وعمك في عمله والجو خال؟! - لو فعلت لكان أمرا مثيرا .. والشبان هناك جائعون أرذال عديمو الشرف. - يا سلام! - نعم يا عزيزي. - أرى عذرهم بينا .. فمن يطالع هذا الوجه الجميل ولا يقهر على الحب قلبه؟ ولكن ماذا صنعوا معك حتى استحقوا عندك هذا الحكم القاسي؟
فصمتت لحظة ثم قالت: إنها صغائر مألوفة لا يني عنها الشبان .. ولكنها ليست بذات بال .. فلندع هذا الآن .. فاعتقادي أنه لدينا ما يلذ لنا حديثه أكثر من هذا. - طبعا .. طبعا .. ولكن وا أسفاه قد قدر علي أن أحرم هذه اللذة الليلة .. لأن أمي مريضة وينبغي أن أكون إلى جانبها سريعا، فلنؤجل هذا الحديث الممتع إلى المرة القادمة.
فنظرت إليه قلقة وسألت: ما لك؟ لست كعهدي بك! تقول إن أمك مريضة؟ لا بأس عليها، أمضطر إلى الذهاب إليها حالا؟
إنه يحس برغبة شديدة تدفعه إلى الانفجار لينفس عن صدره بعض غليانه المكتوم وحقده المدفون، ويود لو يجبه هذا الرياء بما يمزق قناعه ويهتك ستره ويفضح شناعته؛ ولو فعل ما جنى على الرحمة والعدالة، فمن حقه أن يصب جام غضبه، ويثأر لآلام قلبه، ويمحق الخيانة والمكر السيئ.
نامعلوم صفحہ