[2.21]
{ يا آيها الناس اعبدوا ربكم } لما ذكر المؤمنين والمشركين والمنافقين وخواص هؤلاء الفرق الثلاث، ومصارف أمورهم كصرف المؤمنين حواسهم إلى الحظوظ الآجلة، والمشركين والمنافقين حواسهم إلى العاجلة، أقبل عليهم بالخطاب على طريق العرب، فى التفاتها من الغيبة إلى الخطاب، تحريكا للسامع وتنشيطا له، واهتماما بأمر العبادة وتفخيما لشأنها، فإن التفنن فى الكلام والخروج فيه من تصنيف إلى تصنيف ما يستدعى زيادة إصغاء، هذا كما تقول لمخاطبيك إن من فعل كذا أو كذا لحميد وإن جزاءه من الخير كذا وكذا، وإن من فعل كذا وكذا لذميم، وإن عقابه كذا وكذا يا بنى فلان أنه حق عليكم أن تنظروا لأنفسكم ولا تهملوها وتلزموها طريق النجاح لتفوزوا عن الهلاك إلى الفلاح، ولما كان فى عبادة الله - عز وجل - مشقة يلزم الشيطان ساحتها، ويقوى ما ضعفت منها جبرها الله - جل وعلا - بخطابه الناس، لأن فى خطابه إياهم لذة وإيناسا. وإنما ناداهم بيا وهى للبعيد والله - سبحانه وتعالى - أقرب من حبل الوريد، لأنهم بسهوهم وغفلتهم منزلون بمنزلة البعيد، وللتأكيد فى النداء إيذانا بإنما يتلو النداء مما يهتم به الغافل، والبعيد يعتنى بأمره خوفا عليه أكثر مما يعتنى بالقريب، وأما دعاؤنا الله بيا فاستبعاد لأنفسنا واستقصار لها عن مظان الزلفى الموسومة للمقربين، وهضم لها وإقرار بالتفريط فى جنب الله، ومبالغة فى الدعاء وطلب الإجابة، وأى اسم جنس مبهم جعل وصلة لنداء ما فيه أل، لأن حرف النداء وأل متماثلان، ولا يجتمع تعريفان، وهى نكرة مقصودة، ولما كان اسم جنس مبهما لزم بعده اسم جنس آخر مقرون بأل يزيل إبهامه، أو ما يجرى مجرى اسم الجنس نحو يا أيها الزيدون، ويا أيها ذا، ففى ذلك فائدة الإيضاح بعد الإبهام، وهو نوع تأكيد، وها للتنبيه جاء بها تعويضا عما يستحق أى من المضاف إليه، والتنبيه تأكيد، فهذا تأكيد آخر، فذلك ثلاث توكيدات النداء بياء والتنبيه والإيضاح بعد الإيهام، ولا يقطع ما بعد أنها عن الضم إشعارا بأنه المقصود بالنداء، والضمة فيه أو نائبها مناسبة للفظ أى وهو مقدر النصب بفتحة أو نائبها لا إعراب ولا بناء، لكن لما كانت حركة المنادى وحرفه النائب عنها كحركة الإعراب أو نائبها لحدوثها بحرف النداء اتبع فيه المنادى، وهذا أولى من أن يجعل ذلك فى تابع أيها إعرابا على نية أن المنادى نائب الفاعل تقدير الفعل النداء مبنيا للمفعول، كقولك فى الإنشاء يدعى الناس وللتوكيدات الثلاث فى ذلك كثر النداء بمثل ذلك فى القرآن فى كل أمر عظيم حقيق بالتفطن له والإقبال عليه، والأصل فى أل العموم فاذا لم يدل دليل على العهد أو غيره حملت على العموم أو الجنس، سواء دخلت على الجمع كالملائكة أو اسم الجمع كالناس أو المفرد كالإنسان، ولذلك صح الاستثناء منها والتوكيد بما يؤكد الجمع نحو
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
والعصر إن الإنسان لفى خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
، وما زالت الصحابة يستدلون بعموم ذلك، فالناس فى الآية يعم الموجودين وقت النزول عموما ظاهرا متبادرا من لفظ النداء والخطاب، ويعم من سيوجد عموما ملحقا تنزيلا منزلة الموجودين لما تواتر أن ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - شامل لمن يأتى بعد إلى قيام الساعة، إذ لا نبى بعده إلا ما خصه الدليل بمن فى زمانه أو بمن بعده، وقال الرازى عموم من سيوجد من دليل خارج لا من الآية، وهو المتواتر المذكور والمشهور الأول، والله - عز وجل - قد أمر فى الآية الكفار والمؤمنين بالعبادة، أما العبادة التى أمر بها الكفار فالإيمان بالله والرسول والأنبياء والكتب والبعث وغير ذلك مما يجب الإيمان به، وعمل الفرائض من وضوء وصلاة وصيام وزكاة وغير ذلك وترك المعاصى كالزنى والسرقة والغصب وغير ذلك، وأما العبادة التى أمر بها المؤمنين فالثبات على الإيمان وعلى عمل الفرائض وترك المعاصى والارتياد من ذلك، وإن شئت فقل التى أمر بها المؤمنين ما ذكر، والتى أمر بها المشركين أداء الفرائض فعلا وتركا، وهو أمر يستلزم من الأمر بالإيمان، إذ لا تتم عبادتهم إلا به، فإن الأمر بالشىء أمر بها لا يتم الشىء إلا به، فالأمر بالعبادة أمر بتقديم الإيمان عليها، كما أن الأمر بالوضوء أمر بتقديم غسل النجس عليه، وكثيرا ما يذكر النجس فى كتب الفقه والحديث، ويقتصر على ذكر الوضوء دون ذكر غسل النجس، لما علم أنه لا يصح وضوء مع وجود نجس، وكما أن الأمر بالصلاة أمر بالوضوء قبلها، فالشرك لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب تركه والاشتغال بها بعد تركه، وعن ابن مسعود وابن عباس وعلقمة والحسن أن كل شئ نزل فيه { يا أيها الناس } فمكى، و
يا أيها الذين آمنوا
فمدنى، ولم يصح رفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا فضلا عن أن يكون حديثا حسنا أو صحيحا، وقد تقرر أن البقرة مدنية وقد ذكر فيها { يا أيها الناس } وكذا النساء والحجرات اتفقوا على أن الثلاث مدنيات، وقد ذكر فيهن { يا أيها الناس } وسورة الحج مكية، وقد ذكر فيها
يا أيها الذين آمنوا
، إلا أن يقال إن { يا أيها الناس } مكى، و
يا أيها الذين آمنوا
نامعلوم صفحہ