وعطف العمل الصالح عليه فى مواضع لا تحصى، ونطق اللسان من العمل الصالح وقرنه بالمعاصى كالاقتتال والقتل والظلم فى نحو
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
كتب عليكم القصاص فى القتلى
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
مع ما فى ذلك من قلة التغير عن معناه اللغوى، ومن قربه إليه وبدل لذلك تعديه بالباء، فإنه يتبادر منه التصديق، وبدله له إنا إذا رأينا من أحد أمارة المؤمنين حكمنا بإيمانه، وأزلنا عنه حكم الشرك، وكذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلم أن الإيمان فى القلب، وأنه بأى علامة كشف عنه حكمنا به، سواء كشف عنه اللسان أو غير اللسان، ولست فى ذلك قاصد لمخالفة أصحابنا رحمهم الله، ولكن ذكرت ما أدى إليه اجتهادى. وأما أحاديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا... إلخ " فقد يستدل بها على أن الإقرار جزء من ماهية الإيمان، لكن قد يقال إن النطق إنما هو شرط لإجراء أحكام الإسلام، بدليل أنه رتب عليه حقن الدماء والأموال إلا بحق دون النجاة فى الآخرة، بل وكل أمرهم إلى الله عز وجل، فإن خالف اعتقادهم نطقهم أو عملهم أو طابق فهو العالم بذلك المجازى عليه، وإن قلت لا يتصور لمعتقد ألا يقر، قلت يتصور لأنه يمكن أن يصلى بسورة ليس فيها تصريح بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، مع الفاتحة، وأن يسلم من التحيات قبل أن ينطق بذلك، بل لو لم يتصور له ذلك فى حال فالكلام عليه قبل تلك الحال، غير أن جمهورنا كما علمت إلا قليلا جدا، وجمهور قومنا أيضا يقولون لا إيمان بلا إقرار، ومن لم يشترط الإقرار فهل يحكم بإيمانه بدون أن يحكم بمعصيته بعد الإقرار أو لا يحكم بمعصيته؟ قولان لمن لا يشترط الإقرار، بل قال النووى تلميذ ابن مالك صاحب الألفية والتسهيل فى العربية، والحديث والتفسير فى شرح مسلم أن أهل السنة من المحدثين والفقهاء، والمتكلمين، اتفقوا على أن من آمن بقلبه ولم ينطق بلسانه مع قدرته أن مخلدا في النار، ولكن يرده ما ثبت أن لكل واحد من مالك وأحمد والشافعى وأبى حنيفة قولا بأنه مؤمن عاص بترك التلفظ، بل ذكر ابن حجر كالكمال بن الهمام وغيره أن جمهور الأشاعرة وبعض محققى الحنفية، أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فحسب، حتى زعم بعضهم أنه لو أجريت عليه لنطقه بلسانه وهو كافر باطنا، كنكاح مسلمة، وأخذ ميراث قريب مسلم ثم زال كفره القلبى، احتمل حل الوطء وأخذ الإرث لقيام التلفظ به لإجراء الأحكام عليه، والصواب عدم حل النكاح إلا بعد تجديده، وإنما حلله بعد التجديد، مع أنه زان بها إذ جامعها وهو مشرك، للأثر الوارد المشرك الزانى بامرأة، إن أوله سفاح وآخره نكاح، غير أن المرأة هنا مسلمة، لكنها لم تدخل على نية الزانى بل غرها بتوحيد لسانه، فيجوز لها العود إليه بنكاح جديد، لأنها لا يصدق عليها أنها زانية، وإسلامه هو جب لما صدر منه فى شركه، والصواب أيضا عدم أخذه الإرث المذكور، وذلك لأنا إنما لم نؤاخذه بما فى باطنه أولا لعدم ظهوره لغيره، وأما بالنسبة له فهو كظاهره ونظيره الحكم بشاهدى زور فى النكاح، فإنه لا يحل لمن علم بالزور العمل بقضية ذلك الحكم عندنا وعند جمهور قومنا، وهو الصواب الموافق للكتاب والسنة، واتفق من لا يشترط الإقرار ولا يجعله شرطا، على أنه لا ينفعه اعتقاده إلا إن نوى أنه متى طولب بالإقرار أو حضر له أمر لازم متوقف على الإقرار أقر، فإن طولب أو حضر ذلك فامتنع أو اعتقد أنه لا يقر إذا طولب أو حضر ذلك، فهو مشرك كما لو سجد لصنم أو استخف بنبى أو بالكعبة، أو حضر ذلك فهو مشرك كما لو سجد لصنم أو استخف بنبى أو بالكعبة، أو نحو ذلك من المكفرات، واستشكل الحكم بكفره بأحد هذه المذكورات مع كونه مصدقا بقلبه لما يلزم عليه أن تعريف الإيمان بالتصديق غير مانع لصدقه على هذا، مع انتفاء الإيمان عنه، وجوابه يعلم من تقرير مهمات يتعين التفطن لها، وهى أنهم اختلفوا فى التصديق بالقلب الذى هو تمام مفهوم الإيمان عند الأشعرية، أعنى أنه ماهية الإيمان أو جزء مفهومه عند غيرهم كما هو عند أصحابنا، أعنى أنه جزء الماهية والجزء الآخر الإقرار، فقيل هو من باب العلوم والمعارف، ورد بأنا نقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقيقة رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، قال الله تبارك وتعالى
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وبأن الإيمان مكلف به والتكليف إنما يقع بالأفعال الاختيارية، والعلم بصدق مدعى النبوة عن وجود سببه، وهو مشاهدة المعجزة حاصل قهرا عليه. وقال إمام الحرمين وأبو الحسن الأشعرى إنه كلام النفس، وإن المعرفة شرط فيه، إذ المراد بكلام النفس الاستسلام الباطن، والانقياد لقبول الأوامر والنواهى، وبالمعرفة إدراك مطابقة دعوى النبى - صلى الله عليه وسلم - للواقع، أى تجليها للقلب وانكشافها له، وذلك الاستسلام إنما يحصل بعد حصول هذه المعرفة، ويحتمل أن كلا من هذين المذكورين ركن، فلا بد من المعرفة إن جعلناها شرطا أو ركنا، ومن ضم الاستسلام لها لما من ثبوتها مع الكفر، وقهرا على النفس، وأما تعلق التكليف بها مع ثبوتها قهرا فى قوله تعالى
فاعلم أنه لا إله إلا الله
فانما أريد به تحصيل أسبابها من القصد إلى النظر فى آثار القدرة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وتوجيه الحواس إليها، وترتيب المقدمات المأخوذة من ذلك على الوجه المؤدى إلى المقصود، وظاهر كلام شارح المقاصد أنه لا يكتفى بذلك العلم القهرى، بل لا بد من تحصيله بعد بطريق الاستدلال، ورد بأن حصول الاستسلام الباطن بعد حصول العلم القهرى حصول للمقصود إليه، فالوجه الاكتفاء بحصول القهرى المنضم إليه الاستسلام، والتكليف بتعاطى الأسباب مغن عن استحصاله بتعاطى أسبابه، إنما هو لمن لم يحصل له ذلك العلم القهرى، وأخذ بعضهم من أنه لا بد من ضم الاستسلام إلى المعرفة، أن مفهوم الإسلام لغة الذى هو هذا الاستسلام جزء من مفهوم الإيمان، وأطلق بعضهم اسم المرادف عليها. والأظهر كما قال بعض المحققين إنهما متلازمان مفهومان، فلا يعتبر شرعا فى الخارج إيمان بلا إسلام، ولا عكسه وأن التصديق قول للنفس مغاير للمعرفة وإن نشأ عنها، إذ هو لغة لنسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل وهو فعل وهى ليست فعلا، بل من قبيل الكيف، فكل منها ومن الاستسلام خارج عن مفهوم التصديق لغة وإن اعتبر شرعا فى الإيمان، ثم اعتبارهما فيه شرعا إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعا أو شرطان لاعتباره، وهو الراجح، لأن الأول يلزمه نقل الإيمان عن معناه اللغوى إلى معنى شرعى، والنقل خلاف الأصل فلا يصار إليه بغير دليل، بل الدليل على خلافه، لأنه كثير فى الكتاب والسنة طلبه من العرب، ولم يستفسر من أجاب إليه عن معناه اللغوى ووقوع استفساره عن بعضهم، إنما هو عن متعلقه بدليل أن جبريل عليه السلام لما سأل عنه أجابه - صلى الله عليه وسلم - بذكر المتعلق، إذ قال
نامعلوم صفحہ