وقيل إن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما تعظيما لهما، وكان السعى قبل ذلك عبادة، أصله قصة هاجر، وروى البخارى ومسلم عن عاصم بن سليمان الأحول أنه قال قلت لأنس كنتم تكرهون السعى بين الصفا والمروة. فقال نعم، لأنهما كانا من شعائر الجاهلية، حتى أنزل الله { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وأراد بقوله كنتم خطاب الصحابة إجمالا أو الأنصار إجمالا، وإلا فأنس صحابى صغير السن، ليس قبل نزول الآية بحيث يحج ويكره الطواف بين الصفا والمروة. وفى رواية كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى نزل { إن الصفا والمروة من شعائر الله } وقال أبو عبيدة بلغنى عن عروة بن الزبير، أنه قال قلت لعائشة زوج النبى، صلى الله عليه وسلم، وأينا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فما أرى على أحد شيئا أن يطوف بهما؟ قالت عائشة كلا لو كان الأمر كما تقول كان فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، وإنما نزلت هذه الآية فى الأنصار ، كانوا يهلون بمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك، فنزلت هذه الآية. قال الربيع مناة حجر بقديد كان أهل الجاهلية يعبدونه، وقال البخارى فى روايته كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التى كانوا يعبدونها عند المشلل كمعظم جبل يهبط منه إلى قديد. قال ابن حجر يهلون يحجون، ومناة بفتح الميم وتخفيف النون صنم فى الجاهلية، وقيل كانت صخرة نصبها عمرو بن لحى لهذيل يعبدونها، والطاغية صفة إسلامية. قال البخارى وكل من أهل منهم يتحرج أن يطوف بهما. قال ابن حجر ظاهره أنهم كانوا لا يطوفون بينهما، ويقتصرون على الطواف بمناة، فسألوا عن حكم الإسلام فى ذلك، وذكروا آيات كلها صريحة فى عدم الطواف منها إنا كنا لا نطوف بينهما تعظيما لمناة، ومنها أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة، فتحرجوا أن يطوفوا بينهما، وكان ذلك سنة فى آبائهم، من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة.
وأخرج مسلم من طريق أبى معاوية هذا الحديث مخالفا ما تقدم ولفظه إنها كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون لصنمين على شط البحر، قال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما لما كانوا يصنعونه قبل هذه الرواية، تقتضى أن تحرجهم إنما كان لئلا يفعلوا فى الإسلام شيئا مما كانوا يفعلونه فى الجاهلية، لأن الإسلام أبطل أفعالها إلا ما أذن به الشارع، فخشوا أن يكن ذلك مما أبطله، فذكروا آيات تدل على أنهم كانوا يطوفون بينهما، فلما جاء الإسلام تحرجوا، فأنزل الله الآية، فذكروا أن الصنمين كانا على الجبلين حتى تحرجوا، فنزلت الآية فأزيلا عنهما وطافوا. وذكر عياض أن قوله فى الرواية المتقدمة لصنمين على شط البحر وهم فإنهما ما كانا قط فى ذلك، وإنما كانا على الصفا والمروة، قلت لا يلزم مما قال لجواز أن ينقلا إلى الشط من الصفا والمروة من الشط، ثم إنه يحتمل أن الأنصار فى الجاهلية منهم من يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبى معاوية، ومنهم من لا يفر بهما على ما اقتضته رواية الزهرى، واشترك الفريقان فى الإسلام فى التوقف عن الطواف بينهما، لكونه كان عندهم جميعا من أفعال الجاهلية، وأشار إلى ذلك ابن حجر كالبيهقى، وفى القواعد أن سبب السعى بينهما أن إسماعيل، صلى الله عليه وسلم، لما حضر هنالك طفلا مع أمه هاجر عطش، فقامت أمه تطلب له الماء من ناحية الصفا والمروة مترددة بينهما إلى أن أنبع الله لها عين زمزم من تحت قدمه، وجعل الله الطواف بينهما من شعائر الله. انتهى. ولا منافاة بين كون مناة حجرا بقديد وكونه حذو قديد، أى مقابله، لجواز الجمع بأنه قريب منه، فسماه أنه فيه، وقديد بالتصغير قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه، وذكر البخارى أنها بالمشلل بضم الميم وفتح الشين المعجمة، واللام المشددة وبعدها لام وهو ثنية مشرفة على قديد، ولعلها المسماة الآن بعقبة السكر، وأجمعوا أن الطواف بين الصفا والمروة مشروع بالقرآن والسنة، فذهب جمهور أصحابنا إلى أنه سنة تجبر بالدم، وفى الإيضاح أنه سنة واجبة معمول بها، وقيل فريضة أيضا من تركه لزمه دم، وكذا من ختمه بالصفا وانصرف على ستة أشواط وحل لزمه دم، وكذا ذكر الشيخ إسماعيل فى مناسكه، وذكر أن بعض أصحابنا يقولون إنه فريضة، وكذا قال أهل الكوفة والحسن وقتادة، وقال أبو حنيفة إنه واجب يجبر بالدم، وفى القواعد أن القول بفرضه هو قول عائشة والشافعى وأحمد ومالك وإسحاق، ولا حج لمن لم يسع عندهم، ولزمه من قابل أى إذا لم يسع حتى وطئ النساء، أو أخرج وقته إن كان له وقت كالطواف عند بعض وذهب قوم إلى أنه تطوع، واحتج من قال بوجوبه بما روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يسعى ويقول
" اسعوا فقد كتب الله عليكم السعى "
بأن الأصل فى هذه العبادة أن تحمل على الوجوب حتى يدل الدليل على خلافه، وقيل الوقف على فلا جناح وما بعده إغراء يوجب التطوف بالصفا والمروة. قال ابن هشام يرده أن إغراء الغائب ضعيف كقول بعض، وقد بلغه أن إنسانا تهدده عليه رجلا ليسى ثم إيجاب التطوف بها لا يتوقف على كون عليه إغراء، بل كلمة تقتضى ذلك مطلقا، فلو جعل الوقف على { فلا جناح } وجعل { عليه } خبرا وأن يطوف مبتدأ لا، فإن الوجوب انتهى بإيضاح وعمدة، من لم يوجبه قوله تعالى { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ، معناه فلا جناح عليه فى ألا يطوف بهما، وقراءة ابن مسعود ألا يطوف بهما كقوله تعالى
بين الله لكم أن تضلوا
معناه لئلا تضلوا قبل، وحمل الأولون الآية على ظاهرها، وأن السعى من أفعاله، صلى الله عليه وسلم، واستدل من لم يوجبه برفع الجناح، وما فيه من التخيير بين الفعل والترك، كقوله فلا جناح عليهما أن يتراجعا وبقوله تعالى { ومن تطوع خيرا } كقوله
ومن تطوع خيرا فهو خير له
ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير، وتنصره قراءة ابن مسعود { فلا جناح عليه ألا يطوف بهما }. وتقدم كلام ابن الزبير ومع عائشة فى رواية أبى عمر والربيع بن حبيب عن أبى عبيدة، وفى البخارى عنه عن ابن الزبير، فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بهما، قال ابن حجر محصله أن عروة يعنى ابن الزبير احتج للإباحة باقتصار الآية على رفع الجناح، فلو كان واجبا لما اكتفى بذلك، لأن رفع الإثم علامة المباح، ويزداد المندوب بإثبات الأجر، ويزداد الوجوب عليهما بعقاب التارك، ومحصل جواب عائشة أن الآية ساكنة على الوجوب وعدمه، مصرحة برفع الإثم عن الفاعل، والمباح يحتاج إلى رفع الإثم عن التارك، والحكمة فى التعبير بذلك مطابقة جواب السائلين لتوهمهم من كونهم كانوا يفعلون ذلك فى الجاهلية ألا يستمروا فى الإسلام، فخرج الجواب مطابقا لسؤالهم، والوجوب مستفاد من دليل آخر، ولا يلزم من نفى الإثم عن الفاعل نفيه عن التارك، فلو كان المراد مطلق الإباحة لنفى الإثم عن التارك فذكر قراءة ابن مسعود وأبى بن كعب، وتأولها على زيادة لا، وأن الشاذ لا يحتج به إذا خالف المشهور، وممن قال بوجوبه ابن عمرو وجابر بن عبدالله والحسن. وروى عن ابن عباس وابن سيرين أنه تطوع لا دم على تاركه، وكذا روى عن مجاهد وعطاء كما هو قول ابن الزبير، وروى عن أحمد أن من تركه لا حج له، وروى عنه أنه حج حجة، ولا دم عليه تركه عمدا أو سهوا، ولكن لا ينبغى أن يترك، ونقل الأكثرون عنه أنه تطوع.
والصحيح عندى وجوبه لقول عائشة لابن الزبير لو كان غير واجب كما قلت لقال ألا يطوف بهما، وتقدم ذلك، وتقدم أن قراءة عبدالله ابن مسعود ألا يطوف شاذة أو أن لا زائدة، ولقول حبيبة إحدى بنى عبدالدار دخلت مع نسوة من قريش دارا لبنى حسين ننظر إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرايته يسعى وأن مئزره ليدور من شدة السعى، حتى لأقول إنى أرى ركبته، وسمعته يقول " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعى " رواه الشافعى بسنده، وصححه الدارقطنى، ولرواية مسلم عن جابر فى حديثه الطويل فى صفة حجة الوداع قال ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله } أبدأ بما بدأ الله، فبدأ بالصفا. فإذا ثبت أن النبى، صلى الله عليه وسلم، سعى وجب علينا السعى، لقوله تعالى { فاتبعوه } ، ولقوله صلى الله عليه وسلم
" خذوا عنى مناسككم "
نامعلوم صفحہ