والله ورسوله أحق أن يرضوه
على وجه، وإما يحاربون الله ورسوله فأحسن مثل لو أريد بالمحاربة حقيقة القتال، لكن المتبادر أنها المخالفة، ويحتمل أن يراد من كان عدوا لملائكته فذكر الله ليدل على أن معاداة الملائكة معاداة له تعالى، وصرح بذلك فى الجواب كقولك لمن قال لا أحب عبدك لا تأتينى إذ كرهتنى وكرهت عبدى تشير أنه كراهة عبدك كراهة لك، وذكر جبريل وميكائيل مع دخولها فى لفظ الملائكة تشريفا لهما ولمزيتهما، بوصف منزل لمغايرتهما به للملائكة منزلة تغاير الذات، حتى كأنهما من غيرهم فعطفا عليهم، ولأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما ، فذكر لئلا تقول اليهود إنا لم نعاد الله وجميع الملائكة، وللتنبيه على أن معاداة الله أو أحد من ملائكته معاداة لله وملائكته جميعا، إذ موجب الولاية أو العداوة واحد، هو تنزيل الوحى والقرآن، وتنزيلهما كان بأمر الله ورضا من جميع الملائكة وحبهم، وقد ذكر الله لأنه أعظم، ومنه الوحى والتنزيل اللذان هما سبب عداوة اليهود، ثم الملائكة تمهيدا لتشريف جبريل وميكائيل بذكرهما، بعد عموم لفظ الملائكة لهما، ولأن تنزيل الكتاب والوحى بتنزيل جنس الملائكة، وقدم جبريل لأنه أشرف من ميكائيل لأنه ينزل بالوحى وكتب الله، وذلك غذاء للأرواح، ودعاء لمعرفة الخالق وعبادته المخلدة فى النعيم الدائم المنجية من العذاب المقيم، وميكائيل ينزل بالأمطار وهى غذاء للأبدان، وغذاؤهما إنما قصد الغذاء الأرواح لا بالذات، وفصل بين الملائكة وجبريل وميكائيل بالرسل إيذانا بأن الرسل كبعض الملائكة، وكأنهم ملائكة لأن الصدق جامع لهم أو للإشارة إلى أنهم أفضل من جبريل وميكائيل، وكانوا أفضل منهما فأفضل من سائر الملائكة بالأولى، وتقديم الملائكة لا ينافى هذا لأنه للتمهيد المذكور، وكون التنزيل بحبهم كما مر ولتعم الرسل بينهم حتى كأنهم بعض الملائكة السابق تعظيمها إلى النفس. وزعم صاحب الكشاف أن الملائكة أفضل من الأنبياء وعداوة الله تعذيبه للعاصى، وذلك من التغيير بالسبب الملزوم فى الجملة، فإن العداوة بين المخلوقين سبب لتعذيب الغالب منهما للمغلوب، وملزومة للتعذيب فالتعذيب أثرها والكافرون هم اليهود، ومقتضى الظاهر أن يقال فإن الله عدو لهم ولكن عبر عنهم بالظاهر موضع المضمر، لينبه على عداوته لهم لعلة كفرهم، فإن لفظ الكافر مشتق، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن لعليته، وعلى أن عداوة الملائكة والرسل كفر. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وعاصم فى ميكال بإسقاط الهمزة واتصال اللام بالألف، وقرئ ميكائيل بهمزة وياء، وميكائيل وميكئيل بالهمزة وإسقاط الألف قبلها، وميكئيل كذلك لكن بياء بعد همزة.
[2.99]
{ ولقد أنزلنا إليك } يا محمد. { آيات بينات } قال ابن صوريا من اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ما جئتنا بشئ نعرفه، وما نزلت عليك آية بينة فنتبعك بها، فأنزل الله عز وجل { لقد أنزلنا إليك آيات بينات } رواه بعضهم عن ابن عباس، ومعنى قوله بينات واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام، وأشار الله سبحانه وتعالى إلى فسق ابن صوريا خصوصا وغيره عموما، وإلى أنه قد كفر بهن بقوله { وما يكفر بها إلا الفاسقون } المبالغون فى الخروج عن الطاعة الذين توغلوا فى العناد، وإن قلت مم استفدت ما ذكرت من المبالغة والتوغل؟ قلت من قول الحسن البصرى إذا استعمل الفسق فى نوع من المعاصى وقع على أعظم ذلك النوع من شرك وما دونه من الكبائر، وهذا أصله عندى وفى مادة الفسق دلالة على ذلك، لأنها فى اللغة الخروج عن الشئ، وكان المتلبس بالشرك بكبيرة دون الشرك خارج عن الإيمان بالكلية، والملتبس بالشرك الأشنع الأقبح خارج عن حده ألا تراهم أشركوا وبين أيديهم التوراة وعاندوا وقد استيقنت أنفسهم، ثم كان يطلق عندنا على كل كبيرة، وال فى { الفاسقون } للجنس ويجوز أن تكون للعهد مشارا بها لليهود، على معنى أنه لا يكفر بها إلا من فسق منهم وهم الأكثرون دون من آمن منهم ودون من آمن من غيرهم.
[2.100]
{ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } قال سيبويه الواو للعطف دخلت على ألف الاستفهام، انتهى. وهو محتمل لأن تكون الهمزة من المعطوف بالواو لكن قد حلت على الواو، والعطف على { وما يكفر بها إلا الفاسقون } ومحتمل لأن تكون على محذوف معطوف عليه، أى كفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا عهدا، والعطف على الأول عطف إنشاء على أخبار، وعلى الثانى عطف أخبار على إنشاء، وعندى يجوز كون الواو للاستئناف والهمزة مما بعدها، وأصل واو الاستئناف العطف عندى، وقرأ ابن السمال بسين مهملة وميم مشددة ولام بعد ألف أو كلما بإسكان الواو، فهى أو العاطفة، وهى لتنويع من يكفر بها، وكأنه قيل وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مرارا كثيرة، كلما عاهدوا نقضوا، لا بمعنى بل، وقال الكوفيون وأبو على وأبو الفتح وابن برهان إنها للإضراب كبل، أى كلما عاهدوا. ذكره ابن هشام. وإنما يجوز هذا عند سيبويه أن تقدم نفى أو نهى، وأعيد مع العامل نحو ما قام زيد أو ما قام عمر، ولا يقم زيد أو لا يقم عمر، ونقله ابن هشام عن ابن عصفور عن سيبويه، وكل ظرف متعلق بنبذ على حد ما مر، وقرئ عوهدوا، وقرئ عهدوا، أى كلما عاهدوا الله عهدا، أو كلما أخذ الله منهم العهد أن يؤمنوا بمن يبعث الله رسولا وينصروه على المشركين، ويعملوا بما أوحى إليه، أو كلما عاهدوا نبيا بعد إرسال الله إياه أن يعينوه على المشركين. وقال العهد الذى أخذ عنهم ونبذوه هو ما أخذ عليهم فى التوراة من أمر النبى، صلى الله عليه وسلم، ومعنى نبذوه طرحوه، والنبذ الطرح، والغالب استعماله فما ينسى، والمراد الإعراض والترك لذلك العهد ونقضه، وقد قرأ ابن مسعود أو كلما عاهدوا عهدا نقضه فريق منهم، أى من اليهود. ومحط الاستفهام التوبيخ الإنكارى، هو قوله { نبذه } وإنما قال فريق لأنه منهم من لم ينقض وهم قليل، وإطلاق الفريق على الأكثر جائز، فإن الأكثر هم الناقضون كما قال الله جل وعلا { بل أكثرهم لا يؤمنون } وفيه إشارة إلى إشارة إلى أنه لم ينبذ سرا لأن ما يفعله جمهور القوم من شأنه الشهرة والظهور، وبل للانتقال، والمعنى ليس من شأن أكثرهم الإيمان، أو لايؤمنون بالتوراة فلا يأخذون الوفاء بالعهد ديانة، وهونوا نقضه ولم يروه ذنبا، ودأب اليهود نقضه، وكم أخذ منهم ومن آبائهم فنقضوه، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا. قال الله جل وعلا
الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم فى كل مرة وهم لا يتقون
قال ابن عباس رضى الله عنهما لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ عليهم من العهود فى محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به، قال مالك بن الصيف والله ما عهد إلينا فى محمد عهد فنزلت الآية { أو كلما عاهدوا عهدا } ومن عهودهم قولهم أظل زمان نبى مبعوث فى كتابنا.
[2.101]
{ ولما جاءهم رسول من عند الله } وهو محمد صلى الله عليه وسلم. { مصدق } بما معه من القرآن والوحى. { لما معهم } من التوراة والوحى إلى موسى ونبوة موسى عليه السلام وقيل إن التوراة مصرحة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلما بعث كان مجرد بعثه مصدقا للتوراة، ويجوز أن يراد بالرسول عيسى فإنه مصدق للتوراة بالوحى والإنجيل. { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } التوراة. { كتاب الله } التوراة لما كفروا بذلك الرسول وما معه كانوا كافرين بها لأنه وما معه مصدقان للتوراة، ولأنه مذكور فى التوراة ومبشر به موسى، وإذا كفروا ببعض التوراة كانوا كمن كفر بها كلها، ومن كفر ببعض كتاب صدق عليه أنه كافر به، فالرسول وبعض ما معه ووجوب الإيمان بالرسل مذكورة فيها، وإنما قال { من الذين أوتوا الكتاب } ولم يقل منهم ليشنع عليهم بأنهم أوتوا الكتاب فلم ينتفعوا به، ففعلوا ما فعل غيرهم من الكفرة الذين لم يؤتوه، وكتاب الله هو الكتاب الأول معرف بأل، والثانى بالإضافة والمعرفة المتكررة يراد بها مدلول واحد غالبا، فالمراد بقوله الكتاب، وقوله كتاب الله التوراة، ويدل لذلك لفظ النبذ، لأن طرح الشئ فرع إمساكه، فيطرح بعد الإمساك وهم إنما لا بسوا التوراة وقرءوها، فكانت كشئ فى يد طرح لأنهم لا يعملون بها، فترك العمل بها والإعراض عنها نبذ، ولو كانوا يقرءونها. قال الشعبى الكتاب بين أيديهم يقرءونه لكن نبذوا العمل به. قال سفيان الثورى أدرجوه فى الديباج والحرير، وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، وقيل الكتاب التوراة، وكتاب الله القرآن وضح أنهم نبذوه ولو لم يقرءوه لأن ترك العمل به وتكذيبه نبذ له وإعراض عنه. فالمعرفة الثانية ليست بالأولى، ويحتمل أن يراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، وبالكتاب الجنس الصادق فى كتابين التوراة والإنجيل، ولو كان الضمير فى جاءهم لليهود فقط. كما تقول لما جاء أمير بنى تميم قام إليه بنو تميم، والحجازيون وكتاب الله على هذا الاحتمال القرآن إذ لم يؤمن به النصارى، كما لم يؤمن به اليهود، غير أن النصارى كثر فيهم الإيمان بعد وهو التوراة والإنجيل اللذين أشير إليهما بالكتاب المعروف بأل، أى نبذوا التوراة والإنجيل بعدم إيمانهم بمحمد والقرآن ووحيه، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم مذكور فى التوراة والإنجيل مبشر به فيهما مع القرآن. { وراء ظهورهم } شبه ترك العمل بالقرآن أو بالتوراة والإنجيل أو بهما وعدم الإيمان بما لم يؤمنوا به بما رمى وراء الظهر، وأعرض عنه ولم يلتفت إليه، تقول العرب جعل هذا الامر وراء ظهره ودبر أذنه. { كأنهم لا يعلمون } أن محمدا رسول الله وأنه جاء به، وأن التوراة كتاب اللله، وأن الإنجيل كذلك مع أنهم قد علموا بذلك علما جازما لكن كفروا عنادا ومعادا لمحمد وعيسى عليهما السلام، هذا فى جانب اليهود، وكفروا مع النصارى بمحمد عنادا.
نامعلوم صفحہ