[2.52]
{ ثم عفونا عنكم } حين تبتم من عبادة العجل، والعفو عدم المؤاخذة بالجريمة، المؤاخذة شبيهة بالأثر فى الأرض أو غيرها، والعفو شبيه بمحو ذلك الأثر أو هو مأخوذ من عفا الشىء إذ اندرس، وعلى الوجهين العفو ذهاب الحال الأول من الذنب كما هو المراد هنا أو من غير الذنب. وقال عياض لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا فى الذنب. { من بعد ذلك } الاتخاذ اتخاذ العجل إلها. { لعلكم تشكرون } أى لتشكروا عفوه. فلعل هنا تعليلية، ويجوز بقاؤها للترجى باعتبار نظر المخلوق. أى عفونا عنكم عفوا، يقول المتفكر من الخلق لعلكم تشكرون، والشكر فى أصل اللغة ضد الكفر، والكفر الستر، فالشكر إظهار النعمة والشكر شكر القلب وهو تصور النعمة، أعنى استحضارها فى القلب واستحضار صورتها فيه، وشكر اللسان وهو الثناء على النعمة وذكرها وشكر سائر الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها، غير أن شكر الله لا يقوم به قائم بكله وحقيقته إلا بمسامحة الله فى جعله قليل شكره كثيرا أو كلا كما روى أن موسى عليه السلام قال إلهى أنعمت على النعم السوابغ وأمرتنى بالشكر، وإنما شكرى إياك نعمة منك فأوحى الله تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذى ما فوقه علم، حسبى من عبدى أن يعلم أن ما به من نعمة هى منى، وكما روى أن داود عليه السلام قال سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة، ولذلك قيل حقيقة الشكر العجز عن الشكر، وقيل الشكر لمن فوقك بالطاعة والثناء كما هو حال المخلوق مع الخالق، وكما هو حال العبد مع سيده، وأحاد الرعية مع الملك ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال، فشكر الله الطاعة بالقلب واللسان والجوارح سرا وعلانية، لأن القلب واللسان والجوارح نعم منه تعالى، وفيهن نعم فشكره استعمالهن بالعبادة وعدم استعمالهن فى المعصية، فانهن خلقن للعبادة. وقد قيل شكر النعمة ذكرها بالقلب ليستشعر أنه مقصر فى حق من أنعمها عليه، وذكرها باللسان ليقوى تصورها بسماع الأذن والملائكة والجن والإنس، ولينبه السامع فيشكر لأنه لا مخلوق إلا والله فيه نعم لا تحصى، وقيل شكر النعمة ألا يتعلق قلبه بتعظيمها فى مجرد ذاتها، بل يتعلق بالمنعم وتعظيمه، فإذا تذكرها توصل منها إلى تعظيمه وانتقل منها إليه.
[2.53]
{ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان } الكتاب هو ألفاظ التوراة، والفرقان هو التفريق بها بين الحق والباطل، كقولك خلق الله اللغة ومعانيها، وأعجبنى زيد وحسنه. والحاصل أنه ذكر الشىء وما يتحصل به، وليس ذلك من عطف النعت النحوى على منعوته، ولا من زيادة الواو فى النعت، كما قال من قال إن الفرقان نعت للمبالغة أو للتأويل بالمفرق، أو لتقدير مضاف أى ذا فرقان، ولا عطف تفسير كما قيل، لأن لفظ الكتاب ليس موضوعا لمعنى الفرقان فضلا عن أن يفسر به، وقد يقال على اعتبار معنى وصف الكتاب إنه من عطف صفة على أخرى وهو جائز، كقولك جاء زيد الفقيه والعالم، تريد جاء زيد الجامع بين الفقه وسائر العلوم، كأنه قيل وإذ آتينا موسى التوراة التى هى من كلام جامع للحدود، والأحكام مفرقة بين الحق والباطل، فكأنه قيل التوراة المشتملة على الجمع والتفريق، تقول جاءك الفرح والمستبشر، أى زيد الجامع بين الصفتين الفرح والاستبشار، أو الفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل فى الدعوى، فإن عصاه ويده مثلا مبطلتان لدعوى فرعون، محققتان لدعوى موسى الرسالة، أو بين الإيمان والكفر، ويجوز أن يكون الفرقان بمعنى الشرع الفارق بين الحلال والحرام، وهو ما تضمنته ألفاظ التوراة من المعانى، ولا شك أن المعنى غير اللفظ فصح العطف، وهذا الوجه من وادى الوجه الأول، ويجوز أن يكون الفرقان بمعنى النصر الذى فرق بينه وبين عدوه كما قيل فى قوله تعالى
يوم الفرقان
إنه بمعنى يوم النصر وهو يوم بدر، وقيل الفرقان فرق البحر. { لعلكم تهتدون } أى لتهتدوا بتدبر الكتاب الذى هو التوراة والتفكر فى المعجزات، وتتركوا الضلال، فلعل للتعليل، ويجوز بقاؤها للترجى باعتبار المخلوق كما مر.
[2.54]
{ وإذ قال موسى لقومه } الذين عبدوا العجل. { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } إلها. { فتوبوا إلى بارئكم } الفاء للسببية فإنهم أمروا بالتوبة بسبب ظلمهم أنفسهم، وجاز كونها عاطفة أنكم ظلمتم أنفسكم، ولو كان أحدهما أمرا والآخر إخبارا فى الأصل، لأن ذلك محكى لأن الجملة تصير بالحكاية مفردا، والمعنى. ارجعوا رجوعا صحيحا وثيقا بقلوبكم وجوارحكم عن عبادته إلى الله الذى برأكم، أى خلقكم براء من التفاوت، وميز بعضكم من بعض بصور وهيئات وأصوات مختلفات، وأصل مادة برئ الخروج من الشئ كبرئ المريض أى خرج من مرضه، وبرئ المديون أى خرج من دينه، والتخريج كبرأ الله آدم من الطين، أى أنشأه منه، وإنما لم يقل إلى خالقكم أو إلى منشئكم لما يصرح به لفظ بارئكم من التبرئة من التفاوت، وتمييز بعض من بعض الدالين على غاية اللطف والصنعة والحكمة، كأنه قيل تتركون عبادة الصانع الحكيم الذى خلقكم عقلاء مميزون، وتعبدون البقرة التى هى مثل فى الغباوة، تقول العرب فلان أبلد من الثور، وقرئ باريكم بالياء ساكنة مشبعة بها الراء، وهى قراءة حكيت عن السبع، وقرأ أبو عمرو بالهمزة مختلسا بحركتها، كأنه يميل إلى الياء، رواه البغداديون عنه وهو اختيار سيبويه، وروى عنه البرقيون إسكان الهمزة وهو قراءة أبى عمرو الدانى على الفارسى عن أبى طاهر، وقرأ نافع وباقى السبعة بهمزة مكسورة كسرا صحيحا خالصا، وكذا فى بارئكم فى الآية بعد ويأمركم ويأمرهم وينصركم ويشعركم فى تمكين حركة الراء فى الأربعة واختلاسها وإسكانها، واعلم أن من لم يعرف حق المنعم حقيقا بأن تسترد منه نعمته، فلما لم يعرفوا نعمة الله تعالى فى خلقهم عقلاء براء من التفاوت متميزين، استرد الله منهم نعمته التى هى خلقه إياهم وتركيبه إياهم بإيجاب القتل الذى هو هدم البنية المركبة، إذ عبدوا ما لا يقدر على تركيب ولا حل، وبلغوا غاية الجهالة والغباوة بذلك، كما قال الله جل وعلا { فاقتلوا أنفسكم } هذه الفاء للتعقيب المجرد عن التسبب والعطف على توبوا. والقتل تمام التوبة أو على محذوف، أى اعزموا على التوبة فاقتلوا، وأجيز كونها للتعبير، والمعنى اقتلوا بعضكم بعضا من عبد العجل، ومن لم يعبده ولم يعتزل عمن عبده، وقيل ليقتل من لم يعبده واعتزل من عبده، ومن لم يعبده ولم يعتزل. وقيل لم يؤمر إلا بقتل من عبده، وإنما استحق من لم يعبده القتل على القولين الأولين، لأنهم لم يغيروا المنكر، وقيل أمر كل واحد أن يقتل نفسه قتلا خالصا بنحو خنجر لا قتلا بالهم، لأن الهم ضرورى لا حسى، فليس كما قيل إنهم أمروا أن يقتلوا أنفسهم بالهم، وقيل المراد بالقتل قطع الشهوات كما تقول العامة مت تحى، وكما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها، ومن لم يقتلها لم يحيها، والمشهور أنه القتل الحقيقى.
روى عن ابن عباس وغيره أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه فلم يمكنهم المضى لأمر الله، فأرسل الله سبحانه وتعالى ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم اصبروا فلعن الله من مد طرفه أو حل حبوته أو اتقى بيد أو رجل، وتوبة من فعل ذلك من مردودة فيقولون آمين فتقبلوهم إلى المساء حتى كثر القتل، فدعا موسى وهارون وبكيا وتضرعا وقالا يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية، فكشف السحابة ونزلت التوبة فسقطت الشفار من أيديهم وأمروا بالكف عن القتل. قال على بن أبى طالب وكان القتلى سبعين ألفا والاحتباء ضم الساق إلى البطن بثوب أو عمامة أو غيرهما، والحبوة ما تحصل من تلك الكيفية، والبقية منصوب بمحذوف وكرر توكدا، أى اللهم هب لنا البقية البقية أو سلم البقية البقية أو اترك البقية البقية أو أبق البقية البقية أو نحو ذلك. وذلك القتل كفارة لذنبهم بعد ما تابوا كما يفعل الإنسان ذنبا كبيرا فيتوب، وتلزمه الكفارة كالقتل فذلك تمام للتوبة، أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بقتله مطلقا أو ذلك فى توبة المرتدين بعبادة ذلك العجل خاصة، وليس ذلك فى شرعنا بل إن تاب المرتد لم يقتل. وتحملوا شدة القتل لأنه أهون من غضب الله ونار جهنم، ولأن الموت لا بد منه، فلما أمرهم موسى عليه السلام قالوا نصبر لأمر الله فجلسوا محتبين، وسلط عليهم القوم الخناجز والسيوف على حد ما مر، وروى أنه اشتد ذلك على موسى، فأوحى الله إليه أما يرضيك أن أدخل المقتول الجنة، ويكون شهيدا ومن بقى أكفر عنه ذنوبه؟ وروى أن الذين عبدوا العجل والذين لم يعبدوا ولم يعتزلوا لبسوا كلهم السلاح أمروا بقتل بعضهم بعضا، وألقى الله عليهم الظلام ففعلوا حتى بلغوا سبعين ألفا، وقيل وقف الذين عبدوه صفا، ودخل من لم يعبدوه عليهم بالسلاح، فقتلوهم، وذكرت طائفة أن الذين عبدوه جلسوا بالأفنية، وخرج يوشع بن النون ينادى ملعون من حل حبوته، وجعل الذين لم يعبدوه يقتلونهم، وموسى صلى الله عليه وسلم فى خلال ذلك يدعو ويرغب فى العفو عنهم. روى أن موسى قال لهم توبوا. فقالوا كيف التوبة يا موسى؟ قال اقتلوا أنفسكم. قالوا نفعل يا موسى، فأخذ عليهم العهد والميثاق ليصبرن للقتل وليرضون بالقضاء. قالوا نعم. قال أصبحوا فى أفنية بيوتكم كل بنى أب على حدتهم، ففعلوا. فأمر السبعين الذين مضى بهم إلى الميقات فمشوا فيهم بالسيوف فقتلوا من لقوا.
قال الشيخ هود فبلغنا والله أعلم أن الرجل من بنى إسرائيل يأتى قومه فى أفنية بيوتهم جلوسا، فيقول إن هؤلاء إخوانكم أتوكم شاهرين السيوف، فاتقوا الله واصبروا، فلعنة الله على رجل حل حبوته أو قام من مجلسه أوحد إليهم طرفا أو اتقى بيد أو رجل فيقولون آمين. قال ابن عباس رضى الله عنهما إن الله تعالى أبى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التى كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل، وقال قتادة جعل الله تعالى توبة عبادة العجل يعنى تمامها أو كفارتها القتل، لأنهم ارتدوا والكفر يبيح الدم. { ذلكم } أى قتلكم أنفسكم. { خير لكم عند بارئكم } من الحياة لأنه طهارة عن الشرك ووصلة إلى رضا مالك الملك، وسكون الجنة الدائمة. { فتاب عليكم } عطف على محذوف، أى ففعلتم فتاب عليكم التفاتا من الغيبة فى قومه، لأن القوم اسم ظاهر، والظاهر من قبيل الغيبة إلى الخطاب على أن ذلك خطاب من الله تعالى لهم أو رابطة لجواب شرط محذوف، أى إن فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم، وقرن بالفاء مع صلوحه شرطا لتقدير قد أو مبتدأ، أى فقد تاب أو فهو تاب، أو لحذف الشرط فهى دليل عليه وذلك على أنه خطاب من موسى، وعلى كل حال هى الفاء الفصيحة وهى التى يكون ما بعدها مسببا لمحذوف قبلها، سواء كان المحذوف شرطا أو لم يكن شرطا لأنها تدل عليه. { إنه هو التواب الرحيم } الذى كثر توفيقه المذنبين للتوبة، أو الذى كثر قبوله إياها أو الذى يكثر الإنعام عليهم.
نامعلوم صفحہ