أى فكأنه قيل اتركوا كونكم أول كافر. أو قال لباقيهم فى القرية السابقة فى الكفر لا تكونوا أول كافر، أى لا تتموا كون أهل بلدكم أول كافر به، أو المعنى لا تكونوا يا أهل الكتاب مثل أول كافر بالقرآن من مشركى العرب، فتستووا بهم جهلا مع تقدم التوراة وغيرها لكم، فحذف المضاف، أو حذفت فى الكاف عن التشبيه البليغ، كقولك لا تكن مع أخيك أسدا، وإنما أخبر بأول كافر وهو مفرد عنهم الواو، وهو ضمير الجماعة. لأن المراد بكافر القوم أو الفريق أو الفوج أو نحو ذلك، ما لفظه مفرد، ومعناه جمع. قال ابن هشام إن أضيف اسم التفضيل إلى نكرة وحد وذكر هو وطابقته هى نحو الزيدان أفضل رجلين. والزيدون أفضل رجال، وهند أفضل امرأة. فأما { ولا تكونوا أول كافر } ، فالتقدير أول فريق كافر به.. انتهى. قال الفراء وجدت أنها فى معنى الفعل أى أول من كفر. وقال محمد بن مسعود فى البديع النكرة المضاف إليها اسم التفضيل، يجب إفرادها. نحو أنتما أفضل رجل، وأنتم أفضل رجل. ومنه ولا تكونوا أول كافر به. وذلك هو القياس، لأن النكرة تمييز له، وقد خفضت بالإضافة، فأشبه مائة رجل وقد أجازوا قياسا لا سماعا، أن تثنى وأن تجمع.. انتهى. والمشهور وجوب المطابقة فتأول الآية بنحو ما قال ابن هشام، أو بأن المراد لا يكن كل واحد منكم أول كافر به، فيكون ذلك كلية لا كلا، كقولك كسانا حلة، أى كسا كل واحد منا حلة. وأول اسم تفضيل كما علمت من كلام ابن هشام، لكن لا فعل له. وقيل أصله أوءل بهمزة بعد الواو، أبدلت واوا، وأغمت فيها الواو. وذلك لإبدال تخفيف غير قياسي، والفعل وال بهمزة مفتوحة بعد الواو، وياء أى لجا أو سبق، كوعد بعد وقيل أصله أأول بهمزة بين همزة أفعل، والواو فقلبت واو، أو أدغمت فيه الواو بعدها، والفعل ال يؤول بمعنى رجع وصار إلى كذا وكذا، وكل شىء يرجع إلى أوله، وهذا القلب تخفيف غير قياسى كذلك، وقال الكوفيون هو فاعل من وال فقدمت الهمزة إلى موضع الفاء، وزيدت الواو وأدغمت، فوزنه على لفظة عفول وقال بعضهم هو فاعل من وول قلبت الواو الأول همزة، وزيدت بعددها واو وأدغمت. ويرد القولين استعماله بمن التفضيلية، وتصريفه كتصريف اسم التصريف، قال الشيخ خالد وأصل أول على الأصح أوال ومعناه أسبق، فهو اسم تفضيل ممنوع الصرف، لوزن الفعل، والوصف بصرف إذا كان بمعنى قيل، ومنه قولهم أولا وآخرا. { ولا تشتروا بأياتى ثمنا قليلا } أى لا تستبدلوا بآياتى التى فى التوراة وغيرها الدالة على محمد، ونعته عوضا يسيرا من الدنيا، تكتموها أو تمحوها أو تحرفوها بالتأويل أو بالتبديل، فتأخذوا على ذلك الكتم أو التحريف أو التأويل أو التبديل عوضا، وذلك أن اليهود كرهوا انتقال النبوة، من ولد هارون إلى ولد إسماعيل، فكان علماؤهم مثل كعب بن الأشرف ومن تقدم ذكره أول السورة يسعون فى إخفائها وإزالتها عن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويكرمون على ذلك.
وقيل كان علماؤهم يأخذون من عامتهم وسفلتهم فى كل عام شيئا معلوما، من زرعهم وثمارهم وأنعامهم وهدايا، فخافوا أن يبينوا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتبعه اليهود ويتركوهم فتفوتهم تلك المآكل، ففعلوا ذلك المذكور من الكتم أو ما بعده. وقيل كانوا يحرفون ما صعب من حكم الله لملوكهم وعظماتهم، ولمن هووه بالتأويل أو بتبديله بما يسهل، أو يكتمونه أو يمحونه، فيكرمون على ذلك. وقال الحسن كانوا يزيدون فى التوراة ما ليس فيها ويكتبونه. ويأخذون على ذلك مالا، مثل قوله تعالى
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا
وقيل كانوا يأخذون الرشا فى حكمهم بين الناس، فيحرفون الحق ويكتمونه. وقيل كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك. وفى كتبهم علم مجانا كما علمت مجانا، أى بلا أجره، وقال قوم الآية نهى عن المعاصى كلها، لأن من تبع هواه وارتكب معصية، كان بائعا لدينه بما ارتكب، فالثمن القليل وما يجنونه من لادنيا، ومالو إليه وتركوا حكم الله - جل وعلا - فيه . والأوجه السابقة قبل هذا. والأول مانع من حمل الآية على تلك الأوجه السابقة دفعة، وليس قوله { ثمنا قليلا } قيد مجيز للاشتراء بالثمن الكثير بل هو لبيان الواقع، لأن الدنيا كلها قليل فيما يأخذونه شىء قليل جدا، من شىء قليل. ولو كان فى حد ذاته كثيرا ففى ذلك تلويح بأن الكثير هو الآخرة. فالدنيا وإن كثرت وعظمت، قليلة بالنسبة إلى نعيم الآخرة، فأقل قليل من نعيم الآخرة أفضل وأكثر لذاته ولدوامه، وإنما فسرت الاشتراء بالاستبدال لمكان قوله { ثمنا قليلا } وقوله { بأياتى } فإن الثمن لا يكون مشترى، وإنما يكون مشترى به، والياء لا تدخل على الثمن، بل على الثمن شبه استبدال الرئاسة، التى كانت لهم بآيات الله باشتراء الشىء بالشىء، وأعار له لفظ الاشتراء إعارة تحقيقية أصلية تصريحية، واشتق من لفظ الاشتراء المعار لفظ تشترى على طريق الاستعارة التصريحية التحقيقية التبعية، والقرينة التعبير عن المشترى بلفظ الثمن، فإن الاشتراء الحقيقى لا يكون فيه المشترى ثمنا فيه، تعلم أن الاشتراء بمعنى الاستبدال، والياء تدخل فى الاستبدال على العوض والمعوض عنه. { وإياى فاتقون } احذروا عصيانى فى أمر محمد أو فى الحق، أو احذروا عقابى على ذلك، فآمنوا به، واتبعو الحق، وأعرضوا عن الدنيا، ولا تشتروها بآياتى. ذكر هناك الرهبة وهنا التقوى، لأن الآية التى فيها الرهبة مشتملة على ما هو كالمبدى لما فى الآية الثانية التى فيها التقوى والرهبة مقدمة التقوى، لأن الرهبة خوف مع حزن، واضطراب لوعيد بالغ كما مر، والتقوى الحذر ما خيف منه، أو جعل النفس فى الوقاية منه، ولأن الأولى خطاب للعالم والمقلد فأمرهم فيها بالرهبة التى هى مبدأ السلوك، والثانية خطاب للعالم فأمر فيها بالتقوى، التى هى منتهى السلوك، فان الإنسان يرهب الوعيد على المعصية، فيقلق منه فيحذرها لئلا يقع فيها.
[2.42]
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } عطف على ولا تشتروا بآياتى ثمينا قليلا، أى لا تخلطوا الحق الذي هو التوراة ونحوها، بالباطل الذى تفترونه أنتم وغيركم أو أسلافكم ألا تقرءوه فى قراءة التوراة ونحوها، ولا تكتبوه فى كتابتها، ولا تأولوها به، فإنهم إذا فعلوا ذلك التبس الحق بالباطل، أى اختلط به حتى يشتبها ولا يميز بينهما الجاهل والعامة، والباطل هو تغييرهم الأحكام الصعبة بسهلة، وتبديلهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها، كما روى أنه لما بعثه الله عز وجل حسده اليهود وقالوا ليس هو الذى ننتظره، وإنما هو المسيح بن داود يعنون الدجال، وكما روى أبو العالية أن اليهود قالوا محمد نبى مبعوث لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وقولهم إلى غيرنا باطل، وكما قال قوم من اليهود والنصارى إنه رسول إلى العرب خاصة، فقولهم إلى العرب خاصة باطل، وقيل معنى الآية لا تلبسوا الإسلام باليهودية والنصرانية، والباء للتعدية والإلصاق كما رأيت، وهو أكثر وأظهر كقولك خلطت الماء باللبن، ويجوز كونها للاستعانة أو السببية، أى لا تجعلوا الحق بسبب خلط الباطل به غير متميز عنه، أو لا تستعينوا بخلط الباطل معه على خفائه وعدم تميزه. { وتكتموا الحق } على الجهلة والعامة، وهو أحكام الله عز وجل، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم. { وأنتم تعلمون } إنما أنزل الله من الأحكام، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، أو تعلمون أنكم كاتمون لابسون، والجملة الاسمية حال، وفيها إشعار بتغليظ الذنب على من وقع فيه من العلم بأنه ذنب وأنه أعصى من الجاهل، وأن استقباح اللبس والكتم ازداد بالعلم، فإنه أقبح، إذ الجاهل قد يعذر فى بعض المواضع وصورته صورة عذر ولو لم يعذره الله، ولو كان عذاب الجاهل أضعاف عذاب العالم، لأنه ضيع فرضين فرض العلم وفرض العمل به، والعالم ضيع فرضا واحدا وهو العمل، هذا ما ظهر لى فى القياس وهو كذلك فى بعض روايات قومنا، وقد يقال عذاب العالم أضعاف عذاب الجاهل، لأنه أعظم تهاونا، إذ علم بأمر عظيم فتهاون به، ولأنه أكثر نعمة بالعلم، فالشكر عليه أعظم وجوبا، فقد روى الربيع بن حبيب عن أبى عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ويل لمن لم يعلم ولم يعمل مرة، وويل لمن يعلم ولم يعمل مرتين "
وله رواية أخرى أكثر مضاعفة، وهى
" ويل لمن لم يعلم ولم يعمل سبع مرات، وويل لمن لا يعلم مرة واحدة "
ويمكن الجمع بين الروايتين بأن لفظ مرة ومرتين فى الأولى من كلام الصحابى الراوى، بأن يكون قد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل لمن لم يعلم ولم يعمل ولم يقل مرة، فحمله الراوى على الويل الواحد، إذ لا دليل على أكثر، ويقول ويل لمن لم يعلم ولم يعمل، ويل لمن يعلم ولم يعمل ذكره مرتين ولم يذكر مرتين، فحمل ذكره مرتين على الكثير وهو السبعة كما بينته الرواية الثانية، فكأن الراوى قال إنه صلى الله عليه وسلم قال مرة واحدة ويل للجاهل، وقال مرتين ويل للعالم، غير العامل، وكثيرا ما تذكر التثنية أو يكرر اللفظ بعطف أو دونه، فيراد الكثير نحو قولك علمته الكتاب بابا بابا، أو مسألة مسألة، وجاءوا رجلا رجلا، ودخلوا الأول فالأول، وزيد يحيا مرة بعد أخرى، ولبيك وسعديك وحنانيك، قال الله تعالى { كرتين } وقولك جاءت الستة اثنين اثنين، ولا يخفى أن الخطاب فى الآية، ولو كان لبنى اسرائيل لكن هم وغيرهم فيه سواء، فعلى كل أحد ألا يلبس الحق بالباطل ولا يكتمه، وقوله { تكتموا } مجزوم عطفا على تلبسوا، أى ولا تكتموا الحق، أو منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الواو، الجمعية الواقعة بعد النهى كالنصب فى لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أى لا يكن منكم لبس الحق بالباطل وكتمانه، أى لا تجمعوا بين اللبس والكتم، لكن ليس المراد جواز إفراد أحدهما، بل المعنى انتهوا عن هاتين الخصلتين الشنيعتين اللتين تجمعون بينهما، وفى هذا الوجه نهى عليهم بالجمع، بخلاف وجه الجزم، ولو كان أبلغ فى النهى، ويدل على النصب قراءة عبدالله بن مسعود { وتكتمون } بإثبات النون، وكذا كان يقرأ.
نامعلوم صفحہ