[2.38]
{ قلنا اهبطوا منها جميعا } ليس هذا تأكيدا للهبوط السابق فى قوله { قلنا اهبطوا } لأن الهبوط الأول مقيد بحال عداوة بعضهم لبعض، والكون فى الأرض إلى حين. والثانى مقيد بتفريع اتباع الهدى، وعدم اتباعه، فالهبوط ولو كان واحدا لكن تعددت صفته، وهم ينزلون تغاير الصفات منزلة تغاير الذات، فلم يكن المذكور ثانيا مع القول المذكور معه تأكيدا للهبوط والقول المذكورين أولا فلا وجه لكون ذلك من باب التأكيد، ولو صححه بعضهم، اللهم إلا أن نجعل قوله { فإما يأتينكم } غير مفرع على { اهبطوا منها جميعا } بل على
اهبطوا بعضكم لبعض عدو
وعلى
ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين
أو مستأنف، وهذا ضعيف، والتحقيق ما ذكرته لك من التأسيس للتغاير بالصفة ولأن فى ذكر الإهباط مرتين، وحكايته ما ليس فى ذكر الإهباط وحكايته مرة، لأن فى ذكرهما مرتين تلويحا إلى أن مخافة الإهباط المقرون بعداوة بعض لبعض وحدها، أو مخافة الإهباط المقرون بلزوم التكليف باتباع الهدى وحدها، تكفى العاقل الذى يعرف صلاح نفسه، ويضبط أمره فى الردع، عما يوجب أحد الإهباطين، وهو معصية الله - تعالى - فكيف المخافتان معا؟ وإن كل واحد يكفى مزيد الاتعاظ نكالا، وقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثانى من السماء إلى الأرض، ويضعفه عدم استقامة المعنى، مع جعل الاستقرار والتمتع إلى حين قيدا من الهبوط الأول، لكن لا مانع من كونه قيدا له، بواسطة الإهباط الثانى، كأنه قيل اهبطوا هبطة يترتب عليها بعد هبطة ثانية استقرار فى الأرض وتمتع إلى حين. وجميعا حال مؤكدة لصاحبها، وهو واو اهبطوا، كأنه قيل اهبطوا منها كلكم، وليس معنى كون جميعا حالا، أن زمان هبوطهم واحد، بل اتصاف كل بالهبوط مطلقا، فإن لفظة جميعا لا تدل على اتحاد الزمان، فكما لم تدل عليه فى جاءوا كلهم أجمعون لا تدل عليه فى ذلك. وليس كما قيل إنها تدل عليه فى جاءوا جميعا. وإذا ورد مثله متحد الزمان، فالدال على الاتحاد المشاهدة أو غيرها لا لفظ جميع، وإنما الدال عليه لفظة مع ومعا، والخطاب فى قوله { اهبطوا منها جميعا } لمن خوطب بقوله
اهبطوا بعضكم لبعض عدو
وإن قلت فهل قوله { فإما يأتينكم } دليل على عدم دخول عدو الله فى الخطاب؟ قلت نعم، لأنه ولو كان مكلفا لكنه قد خوطب أولا بالسجود فكفر، فكان علينا مبعدا عن أن يوجه إليه كلام فى كتب الله مصرحا له بأنه جهنمى منظور إلى قيام الساعة، وهو مع ذلك معاقب بالفروع والأصول، لكنه كمشرك دعى للإسلام فأبى، أو كمرتد استتيب فأصر، فإنه لم يبق له بعد ذلك خطاب، بل القتل فقط، فليس الأمر كما قيل من أن كونه مخاطبا بالإيمان، يدل على أن الهدى يأتيه فيدخل فى قوله { فإما يأتينكم منى هدى }.
فيدل على دخوله فى الخطاب فافهم. وقد وجدت فى الكشاف أن أكل آدم من الشجرة صغيرة، نزع بسببها لباسه، وأهبط من الجنة إلى الأرض. كما فعل بإبليس ونسب إلى الغى والمعصية ونسيان العهد وعدم العزيمة، والحاجة إلى التوبة تعظيما للخطيئة وتفظيعا لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفا له ولذريته فى اجتناب الخطايا، واتقاء المآثم، والتنبه على أنه أخرج من الجنة بخطيئة واحدة، فكيف لا يدخلها ذو خطايا جمة؟ انتهى. فرد عليه بعض المالكية أو غيره كيف قال لا يدخلها ذو خطايا جمة؟ كان هذا الرد يظن أن الزمخشرى يعتقد أن الخطايا الكثيرة لا يدخلها وإنما أراد الوعظ والزجر، كيف يسترسل الإنسان فى الخطايا ويتمنى الجنة تمنيا كاذبا، واعتراضه أيضا كيف وصفه بالصغيرة، مع أن الأمة اختلفت فى ذلك. ومع جواز أنه أراد بالصغيرة خلاف الأولى فى حقه. { فإما يأتينكم منى هدى } إما هى إن الشرطية وما المؤكدة، أبدلت النون ميما وأدغمت الميم فى ميم ما، ولذلك ساغ تأكيد المضارع بالنون بعدها مع أنه ليس فى الطلب. لكن ما أكدت جانب الوقوع ورجحته، على جانب عدمه، وذلك أن إن بحسب اللغة، والعرف للشك، وهو يحتمل الوقوع وعدمه، وإتيان الهدى ولو كان واجبا لا محالة، بمقتضى وعد الله، لكنه فى نفسه غير واجب، لأنه لو لم يبعث رسلا ولا كتبا، لوجب الإيمان من العقل كما قال
وفى أنفسكم أفلا تبصرون
نامعلوم صفحہ