فأتوا بسورة من مثله
وليس ذلك تكليفا بالإنباء، فضلا عن أن يستدل به على جواز التكليف بالمحال، كما قيل ولو سلمناه لقلنا غير محال باعتبار الإمكان. { إن كنتم صادقين } فى قولكم إنكم أحق بالخلافة والمكث فيها لعصمتكم، فان قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }؟ بمنزلة قولك أتستخلف عصاة ونحن معصومون عن العصيان أحقاء بالاستخلاف؟ كقول المسكين لصاحب الوليمة أتدعو الأغنياء لها، ونحن محتاجون إليها أحقاء بالدعاء إليها؟ أو إن كنتم صادقين فى قولكم لن يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منا، ولا أعلم لسبقنا له ورؤيتنا ما لم يره. وأنه لن يخلق خلقا إلا كنا أفضل منهم وأعلم. وزعم بعض قومنا عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن معنى الآية { إن كنتم صادقين } فى أن الخليفة يفسد ويسفك، وفيه نظر، لأن الله - جل وعلا - عالم بأن بنى آدم يقع منهم الإفساد والسفك، وعلم الملائكة ذلك بإخبار الله تعالى. فلا يقال لهم { إن كنتم صادقين } لأن هذه العبارة ولو كانت قد تقال لمن علم صدقه كالمطالبة له بدليل لكن أصلها لمن لم يصدق أو لم يعلم صدقه. وليست الآية مطالبة لهم بالدليل على وقوع الإفساد والسفك. ولعلهم أرادوا وقوع السفك والإفساد من دم ومن يأتى منه، قبل أن يعلموا أنه يخلقه الله نبيا ورسولا معصوما عن الكبائر، فقال لهم { إن كنتم صادقين } فى أنه يفعل ذلك وأرادوا بقولهم { أتجعل... } إلخ، مجرد كون نبى الله نبيا رسولا معصوما عن الكبائر، فقال لهم صادقين فى تسبيحكم وتصديقكم، فإن الصدق فيهما ينافى المعارضة فى جعل الخلافة، ولسنا نقول إنهم غير صادقين فيهما، ولكن حق الله لا يفى به أحد، ولو اجتهد ما اجتهد، فأدبهم بهذا الكلام ليزدادوا خيرا، فإن معارضتهم شىء لا ينبغى. أو إن كنتم صادقين فى جواب السؤال عالمين بالأسماء أى إن كانت لكم أهلية للجواب والعلم بها، فإن ادعاءهم للأحقية بالاستخلاف كادعاء العلم بها والصدق فيها، فقال لئن كنتم صادقين أو المعنى إن كنتم صادقين فى قولكم إن خلق الخلائق واستخلافهم، مع أن صفتهم الإفساد والسفك لا يليق بالحكيم، وإنما يقولون هذا على التعجب، وطلب العلم بحكمة ذلك لا ردا وإنكارا.
كما أن قولهم نسبح بحمدك ونقدس لك، عجبا وتفاخرا. وهم وإن لم يقولوا لا يليق ذلك بالحكمة تصريحا، لكن تضمنه قولهم { أتجعل فيها.. } إلخ. ويستلزمهم الصدق والكذب يتطرقان لما يتضمنه الكلام ويستلزمه، كما يتطرقان إلى صريح الكلام، فلو أذن المؤذن للصلاة قبل وقتها أو بعد خروجه، لكان فى حكم الكاذب، لأن التأذين بمنزلة أن الوقت قد حضر. ولو قلت لإنسان. قم نتلق المسافر ولا مسافر قادم لكنت فى حكم الكاذب، وكذا لو قلت مشير لعبد لا تملكه اعتقت هذا على طريق الإنشاء للعتق. وإن قلت ما معنى قوله { إن كنتم صادقين }؟ وجوابه محذوف مدلول عليه بما قبله. كأنه قيل إن كنتم صادقين فأنبئونى بأسماء هؤلاء. وما وجه الارتباط؟ قلت قال السعد فى حاشية الكشاف، معناه إن كنتم صادقين فيما زعمتم من خلوهم عن المنافع والأسباب الصالحة للاستخلاف، فقد ادعيتم العلم بكثير من خفيات الأمور فأنبئونى بهذه الأسماء، فإنها ليست فى ذلك الخفاء. والله أعلم. وعندى أن المؤمن أفضل من الملك لأن له موانع عن العبادة، من شهوة طبيعية ونفس وهوى وشياطين الجن والإنس، فعبد الله مع ذلك وعصاهم. ولأن الملائكة خدمهم فى الجنة، ولأن الملائكة لما قالوا لن يخلق ربنا أكرم منا ولا أعلم، خلق آدم وذريته، وجعلهم خلائف، ولأنهم أمروا بالسجود له، ولأنه علم ما لم يعلموا فعلمهم إياه، والأعلم أفضل لقوله تعالى
هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون
والمعلم أفضل من المتعلم، وفى ذلك دليل على شرف الإنسان، ومزية العلم وفضله على العبادة، إذ فضل آدم به لا بها، وإن العلم شرط فى الخلافة بل عمدة فيه.
[2.32]
{ قالوا سبحانك } نزهناك تنزيها عن الاعتراض عليك، وإنما سؤالنا تعجب وطلب لبيان الحكمة لا اعتراض. وقد علم الله ذلك. وعن أن تفعل غير الحكمة، وعن أن يعلم أحد لم تعلمه. كما يدل عليه ما بعد، وهو اسم مصدر، لأن الفعل سبح بالتشديد، كما قالوا نسبح، فالمصدر التسبيح، وهذا أولى من أن يقال هو مصدر سبح الثلاثى بمعنى النزيه، لأن سبح بالتخفيف بمعنى التنزيه قليل. وسبحان كثير ينطق به ويشدد ولا يخفف. فالجمهور على أنه اسم مصدر، وهو لازم للإضافة على جنس التسبيح. وشذ عدم إضافته، وإذا لم يضف كان أيضا غير منون، لأنه علم زيدت فيه ألف ونون فى آخره. ومن عدمها قول الأعشى يمدح عامر بن الطفيل، ويذم علقمة بن علاسة
قد قلت لما جاءنى فخره سبحانه من علقمة الفاخر
والهاء فى فخره عائد إلى عامر بن الطفيل، ومن علقمة جار ومجرور متعلق بسبحان منه أى عجبا منه إذ يفخر. قال فى الصحاح بعد أن ساق هذا البيت العرب تقول سبحان الله من كذا إذا تعجبت منه. وعلقمة هذا صحابى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو شيخ فأسلم وبايع، واستعمله عمر بن الخطاب على حوران ومات بها. وإنما ذمه الأعشى لأن الأعشى لم يسلم، أو أسلم وذمه عصيانا كما يعصى الموحد، أسلم وذم. أو أسلم وذم علقمة قبل إسلامه، أعنى قبل إسلام علقمة. وقد قيل إن الأعشى قدم مكة ليأتى المدينة فيسلم ويبايع، فصده أهل مكة بأنه يحرم الزنى فقال لا حاجة لى فيه. فقالوا إنه يحرم الخمر، فقال أتروى منها عامى، ثم أجنبه، فمات قبل. ولكن أشعاره نص فى إسلامه إذ قال
نبى يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمى فى البلاد وأنجدا
نامعلوم صفحہ