يذهبن فى نجد وغور غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
وغورا ظرف مكان أو منصوب على نزع فى أو معطوف على محل مجرور فى. ولو كان محله لا يظهر فى الفصيح من النثر، وذلك للضرورة. وبعض لا يشترطه. ومعنى فواسقا خوارج، وجوائرا بمعنى مائلات، ويقال فسقت الرطبة عن قشرها أى خرجت. وفسقت الفارة خرجت عن جحرها. والفسق شرعا الخروج عن طاعة الله، والمراد فى الآية المشركون والمنافقون الذين آسروا الشرك، لخروجهم عن الإيمان والطاعة، ودخل اليهود فيهم. والمعصية كلها فسق، إلا أنه عندنا إنما تقول فاسق لفاعل الكبيرة دون فاعل الصغيرة، وقيل المراد المشركون، وعليه اقتصر الشيخ هود وقيل المنافقون وقيل اليهود. وللفاسق ثلاث درجات، الأولى التغابى وهو التغافل، وأصله من الغباوة هو أن يترك الكبيرة أحيانا مستقبحا إياها. والثانية الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير ميال بها، وهو فى الحالتين عندنا منافق يسمى ذا إيمان وموحدا ولا يسمى عندنا مسلما ولا مؤمنا بمعنى كامل الإسلام والإيمان، ولا مشركا وأظن ذلك قول قدماء المعتزلة، ولكن لا يسمونه منافقا بل فاسقا، وربما سماه بعض أصحابنا مسلما ومؤمنا، بمعنى موحدا. فإن الإيمان الكامل التصديق والإقرار والعمل. وكذا قال متأخروا المعتزلة، وكذا قال الأشعرية ويسمونه فى الحالتين مؤمنا إيمانا غير كامل، ويسمونه كافر للنعمة. الثالث الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا لها مستحلا مواجهة وهو مشرك، وإن قلت كيف تفعل فى قوله تعالى
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
قلت سماهم مؤمنين باعتبار حالهم الظاهر لنا قبل البغى، أو معناه وإن طائفتان من الموحدين كما سمى البلغ اليتامى باعتبار حالهم قبل البلوغ، وقد مات آباؤهم. ويطلق اسم الفاسق على الثالث، كما يطلق على الأول والثانى. ونزل واصل ابن عطاء - ويكنى أبا حذيفة - الأول والثانى منزلة بين المؤمن والكافر فينبغى أن يحمل على أن المعنى بين كامل الإيمان بالعمل والكافر المشرك لإذعان كل عاقل، إلى أن الفاسق غير شاكر، ومن لم يشكر فقد كفر، فهذا الفاسق كافر كفرا غير شرك. قال واصل بن عطاء كما قلنا إن حكمهما حكم المؤمن، فى أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه، ويدفن فى مقابر المسلمين، وهو كالمشرك فى الذم واللعن والبراءة منه، واعتقاد عداوته وألا تقبل له شهادة. ومذهب مالك والزيدية أن الصلاة لا تجزى خلفه. والله أعلم. وإذا جعلنا الباء فى به، من باب باء الآله، فإسناد الإضلال إلى الله تعالى حقيق، وكذا إذا جعلناها من باب السببية، ولا يظهر لى خلاف ذلك، لأن إضلاله تركه التوفيق.
وزعم الزمخشرى أنه إسناد إلى السبب، لأنه ضرب المثل، فضل به قوم واهتدى قوم، فكان ذلك سببا لضلالهم وهداهم. وعن مالك بن دينار - رحمه الله - أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال عليه، وقيد فقال يا أبا يحيى أما ترى ما نحن فيه من القيود؟ فرفع مالك رأسه فرأى سلة، فقال لمن هذه السلة؟ فقال لى، فأمر بها تنزل. وإذا دجاج وأخبصة، فقال مالك هذه وضعت القيود على رجلك. فأسند وضع القيود على رجله إلى السلة، لما كانت السبب بعد التسبب بشراء المستلذات، والتسبب بوضعها فيها فكانت حرزا لما يستلذ فيعتاده، وكلام مالك من الإسناد للسبب بخلاف الآية، ونسبة الإضلال إلى الفاسقين نسبة إيقاعية. والفاسق مشتق. والنسبة إلى المشتق تؤذن بعلية المشتق، له ففسقهم علة لإضلال الله إياهم بالمثل لأن فسقهم فى سائر اعتقادهم وأقوالهم وأفعالهم، صرف أفكارهم عن حكمة التمثيل إلى حقارة الممثل به، حتى رسخت به جهالتهم، وازدادوا ضلالا فأنكروه واستهزءوا به. وقرأ زيد بن على يضل به كثير ويهدى به كثير وما يضل به إلا الفاسقون ببناء يضل الأول والثانى ويهدى مفعول، ورفع كثير الأول والثانى، ورفع الفاسقين.
[2.27]
{ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } الذين نعت الفاسقين نعت ذم. ذمهم وشنع عليه بترك العهد الذى استوثق الله - عز وجل - عليهم به، وهو العهد المأخوذ بالعقل، وهو ما ركز فى عقولهم من الحجة على التوحيد، لما خلق الله فى عقولهم ما يدركون به التوحيد، لو استعملوا عقولهم صار بمنزلة ما أدركوه، واستوثق الله عليهم ألا يتركوه، وأعنى بالتوحيد التوحيد الكامل، وهو التصديق بالله ورسوله وما جاء به من القرآن والوحى، وقد فسر بعضهم قوله تعالى
وأشهدهم على أنفسهم
بركز الحجة على الحجة على التوحيد فى عقولهم، أو المراد بالعهد ما عهد إليهم فى التوارة والإنجيل، ومن إيجاب التصديق بالرسل للمعجزات المقرونين بها، وعدم كتمانهم. ففى التوراة وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم. وفى الإنجيل سأنزل كتابا فيه أبناء بنى إسرائيل وما أريته إياهم من الآيات، وما أنعمت عليهم، وما نقضوا من ميثاقهم الذى أوثقوا به، وما ضيعوا من عهده إليهم، وحسن صنعى بالذين قاموا بميثاق الله، وأوفوا بهداى ونصرى إياهم، وكيف أنزل بأسى ونقمتى بالذين غدروا ونقضوا. وحرف اليهود اسم النبى محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعلوا باسم عيسى عليه السلام، فذلك الذى ألزمهم الإيمان هو العهد إذا نعموا بقلوبهم وألسنتهم. بل اتضاح الحجة كانها عهد أقروا به إذ لم تبق شبهة تمنعهم من التصديق، أو المراد عهد الله إليهم ألا يتظالموا ولا يتقاطعوا... وقيل العهود ثلاثة عهد على ذرية آدم جميعا. قال الله تعالى
وإذا أخذ ربك..
نامعلوم صفحہ