نبذة عن المؤلف
إهداء
الجزء الأول
1 - احتراق، احتراق
2 - هل يمكنني مساعدتك في شيء؟
3 - الرقص في الظلام
4 - تصريح بعدم الوجود
5 - تعال إلي إذن
الجزء الثاني
1 - مدينة هالو، ألف
2 - حديقة الآلات الصغيرة
3 - مدينة هالو
4 - مقهى افتراضي
5 - أخبرني حين تنال كفايتك
6 - طبيعة بوذا داخلك
الجزء الثالث
1 - تشغيل تجريبي
2 - الكون
3 - العقل، أشبه بمنطاد غريب، يرتفع إلى آفاق لا نهائية
4 - فوضى
الجزء الرابع
1 - في الأعماق السحيقة
2 - طيران، موت، نمو
3 - إعادة كل شيء
الجزء الخامس
1 - حديث، حلم، قتال
2 - سكرة الحب
3 - خارج البيضة
4 - بيزنطة
نبذة عن المؤلف
إهداء
الجزء الأول
1 - احتراق، احتراق
2 - هل يمكنني مساعدتك في شيء؟
3 - الرقص في الظلام
4 - تصريح بعدم الوجود
5 - تعال إلي إذن
الجزء الثاني
1 - مدينة هالو، ألف
2 - حديقة الآلات الصغيرة
3 - مدينة هالو
4 - مقهى افتراضي
5 - أخبرني حين تنال كفايتك
6 - طبيعة بوذا داخلك
الجزء الثالث
1 - تشغيل تجريبي
2 - الكون
3 - العقل، أشبه بمنطاد غريب، يرتفع إلى آفاق لا نهائية
4 - فوضى
الجزء الرابع
1 - في الأعماق السحيقة
2 - طيران، موت، نمو
3 - إعادة كل شيء
الجزء الخامس
1 - حديث، حلم، قتال
2 - سكرة الحب
3 - خارج البيضة
4 - بيزنطة
هالو
هالو
تأليف
توم مادوكس
ترجمة
محمد فتحي خضر
نبذة عن المؤلف
توم مادوكس، كاتب خيال علمي أمريكي، معروف لدوره في بدايات حركة «السايبر بانك». نشرت أولى رواياته «هالو» في عام 1991 بواسطة دار نشر تور بوكس. وقد ظهرت قصته «عينا الأفعى» عام 1986 في مجموعة «ظلال المرآة» القصصية التي حررها بروس ستيرلنج. أكثر ما يشتهر به هو كونه صديقا لويليام جيبسون وشريكا له في الكتابة؛ إذ كتبا معا حلقتين من مسلسل «الملفات الغامضة» (إكس فايلز)، بعنوان «مفتاح القتل» و«التصويب بمنظور ذاتي». مادوكس هو مبتكر مصطلح «إلكترونيات التدابير المضادة للاختراق». ووفق مادوكس فقد صك هذا المصطلح في مخطوطة شقصة غير منشورة أراها لويليام جيبسون في مؤتمر للخيال العلمي في بورتلاند بولاية أوريجون. طلب جيبسون الإذن باستخدام الاختصار ووافق مادوكس. بعد ذلك استخدم المصطلح في قصص جيبسون المبكرة وفي النهاية اشتهر بفضل رواية «نيورومانسر»، التي نسب فيها فضل صك المصطلح إلى مادوكس على نحو لائق. رخص مادوكس أعماله بموجب رخصة المشاع الإبداعي، فجعل جزءا كبيرا منها متاحا على موقعه الإلكتروني: Tom Maddox Fiction and Nonfiction Archive. المصدر: ويكيبيديا.
إهداء
إلى ذكرى والدي جورج مادوكس، وصديقي بول كوهين، وكل الأعزاء الذين واراهم الثرى على مر الزمن.
الجزء الأول
كل شيء مقدر له أن يعاود الظهور كمحاكاة.
جان بودريار، «أمريكا»
الفصل الأول
احتراق، احتراق
ذات صباح ممطر في سياتل، كان جونزاليس مستعدا لدخول البيضة. قبل هذا اليوم بأسبوع كان قد عاد من ميانمار، الدولة المعروفة سابقا باسم بورما، والآن، بعد يومين من تعاطي العقاقير والصوم، كان مستعدا: لقد صار غريبا، يشعر بالألفة في مكان بعيد.
كان دماغه مليئا ببراعم نارية، وقد أضاءت أوراقها البيضاء المتفتحة بلون أصفر، مركزا لعالم يحترق. وعلى الباب ذي اللطخات السوداء المصنوع من خشب البلوط تراقصت أجنحة ملائكية في لهب أزرق، وقد ارتسمت على وجوهها البهجة وسط النار الباردة. وبينما كان جونزاليس يحدق في الأشكال المحفورة المتحركة فكر في نفسه قائلا: «إن النار في عقلي، في دماغي.»
دفع إلى الأسفل مقبضا مقوسا على شكل حرف
S
من النحاس الأصفر، ثم دلف عبره إلى الرواق، دون أن يصدر حذاؤه - المشقوق من عند إبهام القدم والمصنوع من القطن الناعم - وطرف ثوبه صوتا عند احتكاكهما بالأرضية المصنوعة من البلوط المبيض. وعبر الباب المفتوح في نهاية الرواق رسم ضوء الصباح المار عبر الزجاج الملون أنماطا تجريدية من اللونين القرمزي والأصفر الزبدي. وداخل الغرفة، كانت شاشة عرض زرقاء معلقة على الجدار البعيد، وقد توهج عليها شعار شركة سينتراكس، بينما كانت البيضة الموضوعة في منتصف الغرفة، بنصفيها المشطورين المصنوعين من الصلب المكسو بالكروم، مشققة وفي حالة انتظار. كان نصف البيضة مليئا بأنابيب لونها بيج وعدد من الكابلات البصرية، بينما كان النصف الآخر مليئا ببلاستيك قوي أسود اللون يتدلى على القشرة الخارجية.
فرك جونزاليس عينيه ثم سحب شعره إلى الوراء وجمعه في لفة واحدة أحاطها بحلقة مطاطية. مد يده إلى وسطه، ثم أمسك بالحاشية السفلية للتي-شيرت الأزرق الداكن الذي يرتديه، ثم جذبه من فوق رأسه. وبعد أن ألقاه على الأرضية خلع حذاءه وبنطاله الواسع القمحي اللون، ثم خلع سرواله الداخلي القطني ووقف عاريا، وقد التمع جلده الشاحب بفعل طبقة رقيقة من العرق. شعر بسخونة في جلده، وبأن ثمة غبارا في عينيه، وبحرقة في معدته.
خطا داخل نصف البيضة المكسو بالكروم، ثم ارتعد واستلقى بينما تدفق سائل في درجة حرارة الجسد داخل البلاستيك المتدلي، والذي بدأ ينتفخ من تحته. أمسك بكابلات في سمك الإصبع وأدخل أطرافها في تجاويف موجودة في مؤخرة عنقه. وبينما واصلت البيضة الامتلاء ثبت قناعا على وجهه، وشعر بالحواف تنغلق بإحكام، ثم تنفس. تحركت قسطرتان نحو منفرج ساقيه، وانغرست إبر وريدية في عروق ذراعيه. انغلقت البيضة وملأ السائل حيزها الداخلي.
طفا في صمت، منتظرا، وهو يتنفس ببطء وبعمق بينما أخذ شعور النشوة يشق طريقه بين خليط المشاعر العشوائي الذي ولدته العقاقير والتأمل والبيضة. لا يهم أنه كان على وشك أن يعيد معايشة مخاوفه الخاصة؛ فقد كان هذا هو ما يحركه: الدخول إلى عوالم متعددة من الخبرات البشرية؛ السفر عبر المكان والزمن والاحتمالات، كل ذلك في آن واحد.
كانت ماكينات الواقع الافتراضي منتشرة في كل مكان - فكانت هناك إجازات افتراضية، وعلاقات جنسية افتراضية، وشهرة افتراضية، كل ما تشتهيه النفس - غير أنها مقارنة بالبيضة لم تكن تعدو محض ألعاب فيديو عالية الدقة أو عروضا سحرية. كانت ماكينات الواقع الافتراضي تستخدم مجموعة متنوعة من الحيل كي تحاكي الحضور البدني، غير أن مركز الإحساس بالذات داخل الدماغ لا يمكن خداعه إلا بدرجة محدودة، وحين تدخل إحدى ماكينات الواقع الافتراضي فأنت تكون واعيا بذلك، ومن ثم فإن استدامة الوهم تعتمد على توقفك المتعمد عن إنكاره. لكن في حالة البيضة أنت تنخرط انخراطا تاما عبر كل الأطراف الحسية؛ وقد كانت العوالم التي دخلها الناس شديدة الإقناع لدرجة أنهم حين كانوا يستيقظون كانوا يبدون تائهين في عالم الواقع، وكأنهم في حلم.
اخترقت إبرة غشاء يقع في أحد الكابلات العصبية، وحقنت خليطا من الببتيدات العصبية. وهكذا نقل جونزاليس. •••
كان ذلك هو اليوم الأخير في إقامة جونزاليس التي امتدت لثلاثة أسابيع في باجان، المدينة الواقعة في وسط ميانمار، والتي نقلت إليها الحكومة سجلاتها منذ عقود خلت، في أعقاب أعمال الشغب العرقية التي نشبت في يانجون. جلس جونزاليس مع جروسباك، رئيس فرع شركة سينتراكس في ميانمار، إلى طاولة مركزية مصنوعة من خشب الورد في قاعة الاجتماعات الرئيسية. كانت الحاسبات التي صممت باستخدام ألواح من الزجاج مستطيلة الشكل مثبتة في الطاولة، يكتنفها الظلام والصمت أمامهما.
كان جونزاليس قد أتى إلى ميانمار بغرض إجراء مراجعة وتدقيق للمعلومات. وقد زودت مجموعة سينتراكس المحلية دولة ميانمار الاتحادية بكل منشآت المعلومات الأساسية الخاصة بها: كل سجلات العاملين والمعدات والأجهزة وكل المعاملات التي جرت بينهم. قبل هذا التاريخ بشهر واحد كانت تقارير فرع شركة سينتراكس في ميانمار قد دفعت برامج تدقيق الحسابات في مقر الشركة الأم إلى إطلاق إنذارات تدعو إلى «تفقد الأمر»، وتعين إرسال جونزاليس ومعه أحد أجهزة التدقيق المعروفة باسم «ميميكس»، إلى هناك من أجل فحص البيانات الأولية عن كثب.
وهكذا على مدار عشرين يوما متتالية، استكشف جونزاليس وجهاز «الميميكس» هياكل البيانات ومحتوياتها، واختبرا العلاقات الوظيفية الاسمية في مقابل التطبيق الواقعي؛ فأينما وجدت حركة للمعلومات أو الأموال أو المعدات أو الأفراد، وجدت سجلات، ثم كان يأتي بعد ذلك دورهما. كانا يبحثان عن آثار المعاملات النقدية، وطابقا أوامر الشراء مع الخدمات والمعدات، وتحققا من مطابقة توقيعات الإيصالات مع سجلات الموظفين، وطابقا سجلات الموظفين مع قواعد البيانات الحكومية، وتتبعا خلفيات الموظفين الذين تمثلهم هذه السجلات وتحركاتهم، وقرآ العقود وتتبعاها وصولا إلى المناقصات وعمليات الاستحواذ، كما تحققا من صحة سجلات المعاملات اليومية.
كان عملا شاقا مضنيا، يتطلب الصبر والانتباه إلى التفاصيل، وإلى الآن لم يكشف عن وجود أي مخالفات عدا تلك المعتادة المتعلقة بقلة الكفاءة؛ فلم يكن جروسباك يدير عملياته بتنظيم محكم، لكن حتى تلك اللحظة لم يكن يبدو أن ثمة شبهة فساد في الأمر. ومع ذلك لم تكن ساحته أو ساحة فرع شركة سينتراكس في ميانمار قد أبرئت بعد، فسوف يصدر تقرير جونزاليس النهائي في وقت لاحق، بعد أن يحلل هو و«الميميكس» السجلات في روية.
بسط جونزاليس ذراعيه وفرك عينيه. وكما هو معتاد في نهاية المهام الشاقة القصيرة الأمد كهذه المهمة، كان يشعر بالتعب والإنهاك والرغبة في الانصراف. قال لجروسباك: «يجب أن ألحق بطائرة الشركة المتجهة عصرا إلى بانكوك، وبعد ذلك سأكمل رحلتي في أي طائرة تجارية متاحة هناك.»
ابتسم جروسباك، وكان واضحا أنه مسرور لمغادرة جونزاليس. كان جروسباك رجلا نحيلا، من أصول ألمانية وتايلاندية، ذا بشرة بنية فاتحة وشعر أسود وملامح رقيقة. كان يرتدي ملابس ملائمة لسياق العمل على الطريقة البورمية القديمة؛ تنورة سوداء تسمى لونجي وقميصا قطنيا أبيض.
خلال الوقت الذي قضاه جونزاليس هناك تعامل معه جروسباك ببرود وكياسة من وراء قناع البروتوكول المؤسسي والسيطرة على النفس. فكر جونزاليس: لا بأس بهذا؛ فقد كانت مهمته موضع تشكك، وكذلك كان هو نفسه. وعلى أي حال يبغض الناس هذه التدخلات الخارجية في كل مرة تقريبا، وكان جونزاليس، الذي يمثل إدارة الشئون الداخلية، مسئولا فقط أمام رئيس القسم الذي يعمل به، إف إل تراينور، ومجلس إدارة سينتراكس، وهذا جعل الجميع تقريبا يشعرون بالتوتر.
سأله جروسباك: «هل ستغادر من مطار مياونج يو؟» «كلا، لقد طلبت أن تقلني طائرة إلى جنوب المدينة.» شأن أي شخص آخر كان سيرتب الأمر، لم يكن جونزاليس ينوي السفر من مطار باجان الرسمي؛ حيث أقدمت جماعات المقاتلين على إسقاط الطائرات في أكثر من مناسبة. بالتأكيد كان جروسباك يعلم ذلك.
سأله جروسباك: «ماذا ستذكر في تقريرك؟»
أجاب جونزاليس مدهوشا: «أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أخبرك شيئا عن هذا الأمر.» بل إن ذكر الموضوع نفسه كان مصدر إحراج؛ فضلا عن كونه انتهاكا لبرتوكول الشركة يستدعي الإبلاغ عنه. كان هذا الرجل إما غبيا أو يائسا.
قال جروسباك: «لم تعثر على شيء.»
ما خطب هذا الشخص؟! قال جونزاليس: «لدي بيانات تحتاج عاما لفحصها قبل أن أتمكن من إصدار أي تقييم.»
قال جروسباك وقد اكتسى وجهه بتعبير بارد: «وأنت لن تخبرني بما سيبدو عليه تقريرك المبدئي.» «كلا.» هكذا أجاب جونزاليس، ثم وقف وقال: «علي الانتهاء من حزم الأمتعة.» كان يريد وقتها الخروج قبل أن يفعل جروسباك شيئا لا رجعة فيه، كأن يهدده أو يعرض عليه رشوة. قال جونزاليس: «وداعا.» ولم ينبس الرجل الآخر ببنت شفة، بينما كان جونزاليس يغادر القاعة. •••
عاد جونزاليس إلى فندق تريبيتسايا، وهو عبارة عن مجموعة من الأكواخ الخفيضة المنفصلة المبنية من البامبو والخرسانة المسلحة، وكانت تطل على نهر إيراوادي. كانت الغرف مزينة على نحو بائس بنسخة ميانمارية بالية من الديكور السياحي الآسيوي؛ بامبو مدهون بالورنيش على الجدران، إلى جانب مجسمات هولوجرامية لتنانين قافزة، ومزينة وطاولات ومقاعد وفراش كلها مصنوعة من خشب الساج الأسود، ومروحة سقف ضلت طريقها إلى هنا من القرن العشرين، وفكر جونزاليس أن الهدف من كل هذا هو منح المواطن العادي شعور الإثارة المرتبط بالشرق الساحر. ومع ذلك فقد أعيد بناء الفندق منذ أقل من عقد مضى؛ ومن ثم فقد كان جونزاليس، وفق المعايير المحلية، يتمتع بوسائل ترف؛ مكيف هواء وميكروويف وثلاجة.
بطبيعة الحال لم يكن مكيف الهواء يعمل في ليال كثيرة، وكان جونزاليس يستلقي في حالة أقرب إلى فقدان الوعي، والعرق يغمره طوال ليال حارة رطبة ثم تحييه بعد الفجر بقليل السحالي التي تحرك طياتها الجلدية العنقية كالمروحة وترفع أجسادها وتخفضها وكأنها تمارس تمارين الضغط.
في أيام عديدة كهذه كان يستيقظ ثم يسير عبر مسارات العربات التي كانت تخترق السهول المحيطة بباجان، مارا بالمعابد وهياكل باجودا البوذية المقدسة بينما كانت الشمس تشرق وتحول شبورة الصباح إلى غلالة ضخمة من اللون الوردي الساطع، تبرز خلالها الأبراج وكأنها قلاع خرافية. كانت المعابد منتشرة في كل مكان في باجان؛ إذ كان يوجد آلاف منها، وكانت حديثة ومزدهرة وقت أن كان ويليام الفاتح ملكا. أما الآن فقد ملأت المباني السكنية السريعة التجهيز التي تضم هيئات حكومية المساحات الواقعة بين معابد الباجودا التي يبلغ عمرها ألف عام، والتي لا يزال بعضها في حالة شبه مثالية، مثل معبد تاتبيينو، بينما لم يتبق من كثير غيرها سوى أطلال وأسماء منسية. كان المرء يكسب المكانة عن طريق بناء معبد باجودا، وليس عبر الاعتناء بالمعابد التي بناها شخص آخر مات منذ زمن بعيد.
كانت ميانمار، شأن غيرها من دول جنوب شرق آسيا، لا تزال تحاول التعافي من الأوضاع السياسية التي سادت في أواخر القرن العشرين، وفي حالة ميانمار تمثل هذا في العقود الطويلة التي حكمت فيها الديكتاتوريات العسكرية بصورة دورية والفوضى التي كانت تعقب حكمها. وكما هو الحال دائما في الدول غير المستقرة سياسيا، ظلت الدولة تقيد الدخول إلى الشبكة العالمية، على مدار مختلف أنواع الحكومات؛ إذ وجد قادتها أن فكرة التدفق الحر للمعلومات غير مقبولة. كانت هوائيات كا-باند باهظة الثمن، وكانت لا تستخدم إلا بترخيص يكاد يستحيل الحصول عليه. ونتيجة لذلك كان جونزاليس وجهاز «الميميكس» أشبه باثنين من آكلي اللحوم تقطعت بهما السبل في بلد من النباتيين؛ إذ عجزا عن الحصول على ما يسد رمقهما.
كان قد فصل جهاز «الميميكس» هذا الصباح، وبقي الجهاز خامدا، داخل واحدة من حاويتيه المقاومتين للصدمات والمصنوعتين من الألياف والألومنيوم، جاهزا للنقل. أما الصندوق الآخر فاحتوى على صناديق الذاكرة التي تضم سجلات فرع شركة سينتراكس في ميانمار.
حين يعودان إلى الوطن، سيعلم جونزاليس جهاز «الميميكس» بآخر الأخبار عن جروسباك، وكيف أنه فقد السيطرة على نفسه في اللحظة الأخيرة. كان جونزاليس واثقا من أن جهاز «الميميكس» سيشاركه الرأي حول فساد جروسباك حتى النخاع وهلعه الشديد من أن يكتشفا ذلك. •••
عند حافة حقل رملي جنوب باجان، انتظر جونزاليس طائرته. كان يرتدي زي السفر الدولي المعتاد لديه؛ بذلة سمراء من قطعتين من القماش الجبردين، وتحتها قميص كتاني أبيض ذو ياقة مفتوحة، وحذاء بنيا من النوع الذي لا يحتاج إلى ارتداء جورب تحته. كان قد جمع شعره على هيئة ذيل حصان وربطه بحلقة فضية مصنوعة من حلي على شكل سحالي يتصل رأس كل منها بذيل الحلية التالية لها. وإلى جواره استقرت حقيبة جلدية بنية لينة وحاويتان مقاومتان للصدمات.
أمامه ظهر معبد باجودا ذو أبراج متدرجة تعلوها قمة مستدقة مذهبة ومزينة بالأحجار الكريمة تشير إلى السماء. جلس على درجاته، وإلى جوار كف ضخم لأسد حجري، راهب في وضعية اللوتس، وكان وجهه يغطيه ظل تمثال الحيوان الضخم المكتنز الذي تظهر ملامح وجهه تعبيرات غضب ضار. كان جانبا الحيوان مصبوغين بلون برتقالي بفعل غروب الشمس، بينما كانت شفتاه ملطختين بلون الدم الجاف. مرت دقائق، وسمع دمدمة الراهب، بينما كان وجهه غارقا في الظلال.
ثم سمع صوتا يقول: «تعال في جولة بين معابد مدينة باجان العتيقة. شويزيجون، أناندا، تاتبيينو ...» «فلتحلي عني.» هكذا قال جونزاليس مخاطبا عربة الجولات السياحية التي جاءت من خلفه. كانت هذه العربات تحمل نحو اثني عشر سائحا في ثمانية صفوف من المقاعد الخشبية الضيقة، لكنها كانت الآن خالية؛ إذ كان جميع السياح تقريبا قد لحقوا بالجمهور المحتشد على مصاطب معبد تاتبيينو؛ حيث يمكنهم مشاهدة غروب الشمس فوق سطح المعبد.
قالت العربة: «إنها آخر جولة اليوم. وهي رخيصة للغاية، كما أننا نقدم أسعار تحويل عملات جيدة للغاية إكراما منا للزائرين.»
كانت تريد استبدال عملات الدولار أو الين بالكيات؛ ففي ميانمار حتى الآلات كانت تعمل في السوق السوداء. رد قائلا: «كلا، أشكرك.» «أسعار جيدة للغاية يا سيدي.»
قال جونزاليس: «اغربي عني! وإلا سأبلغ بأنك معطوبة.» تحركت الآلة مبتعدة وهي تصدر أزيزا.
شاهد جونزاليس راهبا شابا يراقبه على الجانب الآخر من الطريق، ويتأهب للقدوم نحوه كي يتسول بعض الأقلام أو المال. نظر جونزاليس في عيني الراهب وهز رأسه نفيا. هز الراهب كتفيه وواصل المشي، ورداؤه البرتقالي يتموج.
أين الطائرة بحق الجحيم؟ بعد وقت قصير ستشق شعلات الصيادين السماء المظلمة ذات الهلال الوليد، وستندفع الدرونات الحكومية حول حواف الظلال وكأنها وطاويط عملاقة طافرة. كان الجزء الأوسط من ميانمار على شفير الوقوع في الفوضى؛ إذ يحيط به خليط عرقي من أبناء مناطق كارين وكاشين وشان ذات الاتجاهات السياسية المتعددة، وكلها شرسة وتزدري الحكومة المركزية. كان هؤلاء يقاتلون باستخدام أي سلاح يجدونه، من العصي المدببة إلى الصواريخ المحمولة على الظهر ، وكانوا لا يستسلمون حتى الموت.
تعالى سريعا صوت عويل حاد إلى أن ملأ الهواء. وفي غضون دقائق ظهرت طائرة فضية ذات أجنحة متعددة الأوضاع، ثقيلة الحركة، وكل جناح مستطيل ضخم من أجنحتها مزود بمحرك ضخم بصلي الشكل، على ارتفاع منخفض فوق الكتلة الداكنة للغابة. كانت تومض على نحو متواصل بالضوءين الأحمر والأصفر، وتوقفت فوق الحقل، وقد مالت أجنحتها حتى اتخذت وضعا عموديا وانخفض صوت المحرك حتى بات يصدر هديرا منخفضا. أحدثت كشافاتها دائرة من الضوء قطرها عشرة أمتار أخذت الطائرة تنخفض نحوها، مثيرة سحبا من الرمال أحاطت كالزوبعة بجونزاليس. انخفض هدير المراوح المقلوبة إلى درجة الهمس، وركعت الطائرة مصدرة صريرا على عجلات الهبوط، بحيث صارت مقصورة القيادة في مستوى الأرض تقريبا. أمسك جونزاليس بأمتعته وسار نحو الطائرة. تدلى من الطائرة سلم مصدرا هسيسا هيدروليكيا، وارتقى جونزاليس درجاته إلى داخل تجويف الطائرة.
سأله الطيار: «ميخائيل جونزاليس؟» كان الطيار قد رفع نظارة الطيران متعددة الوظائف إلى جبهته؛ حيث بدت عدساتها البيضاوية العاكسة وكأنها زوج ثان من العيون الخالية من أي تعبير، وقد تدلى خيط رفيع من الألياف الضوئية من إطارها. وأسفل النظارة كان وجه الطيار بنيا ومليئا بالندبات؛ فكر جونزاليس في نفسه قائلا: «لن تجدي أي مساحيق تجميل مع هذا الرجل.» كان الطيار يرتدي قميصا «استوائيا» باليا تتراقص فيه طيور بشروش وردية اللون على خلفية زرقاء داكنة.
قال جونزاليس: «هذا أنا.» ثم لوح بالحاوية المقاومة للصدمات التي يحملها في يده اليمنى فضغط الطيار على مفتاح يفتح قمرة الأمتعة. وضع جونزاليس الحقائب في القمرة المعدنية وشاهد شبكة الأمان وهي تشد بإحكام حول الحقائب والباب وهو ينغلق. جلس على مقعد خلف الطيار في أول صف من صفوف المقاعد الثمانية. انضغطت حاشية المقعد عند جلوسه عليها، ومن ظهر المقعد المواجه له انبعث صوت نسائي يقول: «ينبغي أن تربط حزام الأمان. لو كنت تريد أي تعليمات فقل هذا الآن من فضلك.»
أغلق جونزاليس القفل ذا الشكل شبه المنحرف في الموضع الذي يلتقي فيه حزام الكتف مع حزام الحجر، ثم فرد ذراعيه وشعر بالعرق يجف على جلده داخل الحيز الداخلي البارد للطائرة. قال الصوت: «أشكرك.» •••
كان الطيار يتحدث مع المراقبة الجوية بمطار مياونج يو بينما أخذت الطائرة ترتفع في الشفق الذي يعلو المدينة. اختفى الوهج الأبيض المريح الآتي عبر النافذة الزجاجية العلوية ولم يتبق إلا البقايا الأخيرة من ضوء الشمس البرتقالي المار عبرها.
كان سطح المعبد ممتدا تحتنا، تغمره الظلال والظلمة، وقد امتدت أبراج المعبد والباجودا نحو الضوء، بكسوتها الجصية البيضاء والذهبية المخضبة باللونين الأحمر والبرتقالي.
قال الطيار: «هذا منظر جميل يا رجل.»
قال جونزاليس: «أنت محق.» كان المنظر جميلا بالفعل، لكنه شاهده من قبل، علاوة على ذلك فقد قضى بالفعل يوما طويلا.
أنزل الطيار نظارته على عينيه، ومالت الطائرة إلى اليسار واتجهت صوب الجنوب على امتداد النهر. رجع جونزاليس بظهره إلى الوراء في مقعده وحاول الاسترخاء.
حلقا فوق مياه سوداء، على امتداد نهر إيراوادي، إلى أن عبرا مسار طيران دولي إلى بانكوك. كاد النعاس يغالب جونزاليس وهو في جوف الطائرة المظلم حين سمع الطيار يقول: «اللعنة، ثمة شخص هنا. إحدى الجماعات المتمردة المقاتلة على الأرجح، لا توجد شفرات تعرف. لا بد أنهم يستخدمون طائرات فائقة الخفة؛ فراداراتنا لم تتمكن من رصدهم. لكن لدينا الآن صورة.»
سأله جونزاليس: «هل من مشكلة؟» «إنهم آتون لإلقاء نظرة وحسب؛ فهم لا يكترثون بالطائرات الأجنبية.» ثم أشار إلى الرسالة التي يعرضها جهاز الإرسال/الاستقبال على الشاشات الرئيسية:
هذه رحلة طيران دولية غير عسكرية.
لديها الحق في العبور بموجب قرار الأمم المتحدة لعام 2020.
كان من شأن الجهاز أن يكرر إرسال الرسالة إلى أن يدخلا المجال الجوي التايلاندي.
أضاءت شاشة كمبيوتر الرحلة بضوء أحمر وظهرت عليها الكلمات التالية: «تحذير من الاصطدام.» ودوى صوت بوق مرتفع ملأ الحيز الداخلي للطائرة. قال الطيار: «اللعنة، لقد أطلقوا صواريخهم!» أصدرت محركات الطائرة صوتا مرتفعا بينما تولى كمبيوتر الطائرة السيطرة، وأمسك الطيار مقود الطائرة بإحكام، ليس بغرض التوجيه وإنما كان متشبثا به وحسب.
شعر جونزاليس بحزام الأمان يضغط على جسده بينما أخذت الطائرة تدور حول نفسها وتنخفض وتلتف في حركة لولبية ثم ترتفع مجددا، وكأنها سمكة معدنية ذكية تحاول الإفلات من حراب نارية. دوت انفجارات في الظلام، وظهرت دفقات سريعة فوضوية من ألسنة اللهب متبوعة على الفور بأصوات مدوية وموجات صدمة زلزلت الطائرة وهي تسلك مسارها الفوضوي خلال عتمة الليل.
بعد ذلك ظهرت طائرة، تشتعل بفعل النيران التي تغمرها، وقد بدت قائدتها وكأنها رسم تخطيطي مشتعل يرفع يديه إلى السماء في اللحظة التي سبقت انفجار الطائرة وقائدتها بفعل ألسنة اللهب.
مضت رحلتهما هادئة وسلسة، وعاد التحكم إلى مقود الطيار. التمعت عينا جونزاليس بينما عادت ظلمة الليل من جديد. سمع صوت كمبيوتر الطائرة يقول: «تم تجنب الاصطدام. الوقت المنقضي في منطقة الخطر ست ثوان وتسعة وثمانون جزءا من الثانية.»
قال جونزاليس: «ما هذا بحق الجحيم؟ ما الذي حدث؟»
قال الطيار: «ذلك اللعين.»
جلس جونزاليس متشبثا بمقعده، وهو يرتجف بفعل ارتطام دفعة الهواء البارد المنبعثة من مكيف الطائرة بقميصه الذي يغمره العرق. نظر إلى حجره، كلا، لم يبل على نفسه. في الواقع لقد حدث كل شيء بسرعة كبيرة لم تسمح له بأن يصل إلى تلك الدرجة من الذعر.
ظهرت طائرة حربية من طراز «لوب جارو» التي تصنعها شركة ميتسوبيشي-ماكدونيل أمامهما ودارت حولهما بحركة بطيئة. كانت مطلية بلون أسود قاتم شأنها شأن الطائرة الخفيفة، لكن كان بدنها ضخما. أخذت تعلو وتنخفض بينما تدور حولهما، وكأنها طائر مفترس كسول يحلق حول طريدة سمينة بطيئة، ثم أشعلت أضواء ساطعة غمرت النافذة الزجاجية العليا لطائرتهما.
تجمد جونزاليس والطيار في ذلك الضوء المبهر.
بعد ذلك تراجعت مقصورة الطائرة اللوب جارو، وخلف الزجاج الشفاف رأى جونزاليس الطيار ذا الخوذة العاكسة، ويمتد من أسفل رقبته كابلان ملتصقان. انزلقت أجنحة الطائرة اللوب جارو إلى الأمام في حركة عكسية، ثم أخذت الطائرة وضعا رأسيا، ثم غابت عن الأنظار.
شد جونزاليس جسده في مقابل الحزام الضاغط عليه.
صاح الطيار: «ذلك الوغد!»
سأله جونزاليس بصوت خفيض مرتعش: «من هو؟ وماذا تقصد؟»
قال الطيار بصوت متوتر وقد ظهر وجهه محمرا أسفل زجاج النظارة العاكس: «القوات الجوية لميانمار. لقد نصبوا لنا فخا، واستخدمونا كطعم أمام طائرة المتمردين.» رفع الطيار نظارته وأخذ يحدق بحدة عديمة الجدوى من زجاج قمرته، كما لو كان بإمكانه اختراق الظلام بنظره، بعدها قال: «ثم انتظروا، انتظروا حتى هاجمونا.» استدار الطيار بغتة وواجه جونزاليس وقد صارت ملامحه وكأنها رسم كاريكاتيري مجنون وغاضب للرجل الذي رحب بجونزاليس منذ تسعين دقيقة وقال: «هل تعلم إلى أي مدى اقتربنا من الموت؟»
هز جونزاليس رأسه نفيا.
قال الطيار: «أجزاء قليلة من الثانية يا رجل، أجزاء قليلة لعينة من الثانية. لقد أوشكنا على الموت.» ثم أدار مقعده وسمع جونزاليس صوت آلية الإغلاق الخاصة به بينما استقر في مقعده، في الوقت الذي غمر فيه الخوف والخزي دماغه بمزيج جامح من المواد الكيميائية العصبية.
لم يسبق أن انتاب جونزاليس شعور كهذا؛ كان يشعر بالموت يتسلل إلى عموده الفقري وأحشائه وحلقه وأنفه، وكأنه يمس جلده، إنه الموت المصحوب برائحه كريهة ... احتراق، احتراق.
الفصل الثاني
هل يمكنني مساعدتك في شيء؟
مع انقضاء الصباح، أخذت الشمس تبتعد عن الزجاج الملون، وبدأ الظلام يغمر الغرفة. ظلت أضواء الشاشة وحدها مضاءة؛ إذ كانت صفوف ثابتة من اللون الأخضر تعلو أعمدة وامضة من الأرقام الظاهرة على السطح الأزرق الفاتح للشاشة.
أخذ روبوت التنظيف المنزلي، الشبيه بكيس منتفخ في حجم الإوزة، يعمل في صمت عبر الأرضية، منظفا أركان الغرفة، ثم غادرها بينما مجسات الحركة أدناه تصدر صوتا أشبه بصوت حفيف الرياح وهي تهب على عشب جاف. •••
أخذت شاشة مقصورة الطائرة تومض بينما كان كمبيوتر الطائرة يتلقى أكواد الهبوط، وبعد ذلك ثبتت الطائرة في شبكة هبوط مطار بانكوك وبدأت تهبط في سلاسة عبر أنبوب غير مرئي. ثم هبطت الطائرة على الأرض بتوجيه من أذرع إلكترونية.
استدار الطيار إلى جونزاليس أثناء هبوط الطائرة وقال: «سيتعين علي الإبلاغ عن الهجوم. لكنك محظوظ؛ فلو أننا هبطنا في ميانمار لأحاط بك المحققون الحكوميون إحاطة السوار بالمعصم، وحينها سيتعين عليك أن تنسى فكرة المغادرة لأيام، وربما لأسابيع. أنت بخير الآن؛ فقبل أن يطلعوا على التقرير ويطلبوا من التايلانديين احتجازك، ستكون قد غادرت بالفعل.»
في تلك اللحظة كان آخر ما يريده جونزاليس هو قضاء أي وقت في ميانمار. قال: «سأغادر بأسرع ما أستطيع.»
الآن وقد انتهى كل شيء، كان بإمكانه استشعار الخوف وهو يتصاعد داخله كما لو كان قد تناول للتو عقارا خطيرا. وفي محاولة لتهدئة نفسه فكر في نفسه قائلا: «في الواقع لم يحدث شيء، عدا أن هذا الموقف أرعبك بشدة، هذا كل ما في الأمر.»
حين استقرت الطائرة على منصة الهبوط، وقف جونزاليس وذهب لأخذ أمتعته من قمرة الأمتعة المفتوحة. جلس الطيار يشاهد بينما أخذت الطائرة تمر بإجراءات الإيقاف الخاصة بها.
افعل شيئا. هكذا قال جونزاليس لنفسه وهو يشعر بالذعر يتصاعد داخله. جذب الحاوية المحتوية على جهاز «الميميكس» وقال: «أريد نسخة من سجلات الرحلة.» «لا أستطيع ذلك.» «بل تستطيع. أنا أعمل لدى إدارة الشئون الداخلية، وكدت ألقى حتفي وأنا على متن طائرتك.» «وكذلك أنا يا رجل.» «صحيح. لكنني أريد هذه البيانات. في وقت لاحق ستتتبع إدارة الشئون الداخلية المسار الرسمي وتحصل على كل البيانات، لكنني أريد أن أعرف الآن. فقط عملية نقل سريعة للبيانات إلى جهازي هذا، هذا كل ما يتطلبه الأمر. سأعطيك ترخيصا بهذا أقر باستلامها.» قال جونزاليس هذه الكلمات ثم انتظر، مواصلا الضغط عليه عن طريق نظرته ووقفته اللتين تشيان بالإصرار.
قال الطيار: «حسنا، من المفترض أن يكفي هذا لحمايتي.»
وضع جونزاليس الحاوية المقاومة للصدمات إلى جوار مقعد الطيار، وركع إلى جوارها وفتح الغطاء، ثم سأل الطيار: «هل تسجل ما يدور؟»
أومأ الطيار وقال: «دائما.» «هذا ما ظننته. حسنا إذن: لأغراض التوثيق الرسمي، هذا ميخائيل ميخائيلوفيتش جونزاليس، موظف أول لدى إدارة الشئون الداخلية بشركة سينتراكس. وسأحصل على السجلات الرسمية لهذه الطائرة كي تعينني في التحقيق في أحداث بعينها وقعت خلال رحلتها الأخيرة.» ثم نظر إلى الطيار وأضاف: «هذا سيكفي.»
جذب كابل بيانات من الحاوية وأدخله في منفذ بلوح القيادة. التمعت الأضواء على لوح القيادة بينما بدأت البيانات تتدفق إلى الجهاز الساكن. أصدر اللوح أزيزا خافتا كي يشير إلى اكتمال نقل البيانات، فجذب جونزاليس الكابل وأغلق الحاوية، ثم قال للطيار الذي جلس محدقا خارج المقصورة: «شكرا.»
وقف جونزاليس وربت على الحاوية، ثم فكر وهو يشعر أن حاله أفضل كثيرا: «مرحى أيها «الميميكس»، لدي مفاجأة لك حين تستيقظ.» •••
نقلت مزلجة جونزاليس لميل أو نحو ذلك عبر نفق ساطع الإضاءة معلقة على جدرانه البلاستيكية والجصية الزرقاء الفاتحة لافتات تحذيرية بلغات ست تتوعد من يقومون بتشويه الجدران. كانت رسوم جرافيتية حمراء وخضراء تلطخ كل شيء، بما فيها اللافتات، وبينما كان جونزاليس يشاهد، تغيرت الرسائل المكتوبة بالتايلاندية والبورمية وظهرت رسومات كارتونية ملحق بها بالونات حوارية مكتوب عليها عبارات لا يفهمها جونزاليس. كانت إحدى العبارات المكتوبة بطلاء أحمر باللغة الإنجليزية تقول: «هيروين ألفا شيطان زهرة.» وميزت علب محطمة من الألياف السوداء أو نسائل خشنة من الكابلات المتعددة المواضع التي كانت توجد فيها الكاميرات.
حجبت مصاريع فولاذية رمادية تمتد من الأرضية إلى السقف البوابة الضيقة المفضية إلى مبنى مغادرة ووصول الرحلات الدولية. وعكفت روبوتات فحص شامل عديمة الوجوه - مكعبات سوداء اللون مزودة بدرع من ألياف الكربون ومجسات وتبرز منها هوائيات استشعار - على فحص الركاب، وكانت الهوائيات تدور.
كان المسافرون الآسيويون يملئون أرجاء المطار؛ رجال ونساء يرتدون سترات داكنة اللون؛ يابانيون وصينيون وماليزيون وإندونيسيون وتايلانديون. لقد وفدوا من «النمور» الآسيوية، تلك المراكز العالمية للأبحاث والتصنيع، وكانوا يقبلون هوامش ربح منخفضة ويقدمون عروض ترويج مباشر إلى أوروبا والأمريكتين؛ حيث صار الاستهلاك أسلوب حياة. بدا في نظر جونزاليس أنهم موجودون في كل مكان يسافر إليه: أجساد مسلحة بالبراعة الفنية والعلمية ويحركها طموح دءوب.
كان هؤلاء يمثلون الأساس الراسخ لما يشهده العالم من رخاء. كانت الولايات المتحدة والنمور يعيشان في علاقة تكافل متقلقلة: فقد كان لدى الآسيويين مائة طريقة يضمنون من خلالها ألا ينهار الاقتصاد الأمريكي ويطيح معه بالسوق الاستهلاكية في أمريكا الشمالية. وقد اشترت شركات آسيوية ، سواء من اليابان أو الصين أو تايوان أو هونج كونج أو كانت مملوكة لكنديين من أصول صينية، بعضا من الشركات واندمجت مع البعض الآخر، وانتهى المطاف بالأمريكيين بالعمل في شركات جنرال موتورز فانوك أو كرايسلر ميتسوبيشي أو دايو دي إي سي، وأن يشتروا برواتبهم أجهزة البيانات اليابانية أو السيارات الكورية أو الروبوتات الماليزية.
انفتحت المصاريع مصحوبة بصرير معدني قصير، وخطا جونزاليس إلى الداخل. تفحص حارس مصري، يرتدي طاقية بيضاء وعصابة رأس مزركشة باللونين الأبيض والأزرق ويضع شارة الأمم المتحدة الرمادية، هويته ثم منحه ابتسامة سريعة عديمة المعنى - ظهرت خلالها أسنانه البيضاء المثالية من تحت شارب أسود - وأشار إليه بمواصلة المسير.
كانت جمارك عصبة دول جنوب شرق آسيا تنتظر ممثلة في شخص امرأة تايلاندية ضئيلة الحجم ترتدي زيا بنيا وتضع شارة كتبت عليها طلاسم غير مفهومة على عجالة. كانت ملامحها دمثة ومحايدة، وقد أرجعت شعرها الأسود إلى الوراء وثبتته بدبوس شعر بلاستيكي شفاف. وقفت خلف طاولة معدنية رمادية، وعلى الأرضية المجاورة لها كان ثمة ماسح متقدم متعدد الأغراض عرضه متران، وكانت أزرار التحكم الخاصة به وشاشاته وقراءاته كلها مختفية تحت غطاء قماشي أسود اللون. وعلى الجدران الخضراء القذرة كانت ثمة لافتات بعشرات اللغات معلقة على مسافات غير متساوية، توضح بالتفاصيل وبخط دقيق الفئات العديدة للسلع الممنوعة.
أشارت المرأة إليه كي يجلس منتصب القامة على مقعد مواجه للطاولة، ثم أخبرته بأن يضع حقيبة ملابسه والحاويتين على الطاولة.
تحدثت إليه، وعلى الفور تحدث جهاز ترجمة آلي مثبت إلى وسطها بلغة إنجليزية آلية محايدة قائلا: «سيجري فحصكم وإخلاء طرفكم.» ثم وضعت الحقيبة البنية على أول الحزام الخاص بالماسح، وسحب الجهاز الحقيبة مصدرا صافرة خافتة. بعد ذلك أعادت المرأة الحقيبة إلى جونزاليس.
تحدثت إليه ثانية، وقال المترجم الآلي: «ضع هاتين الحاويتين من فضلك.» بينما كانت تشير نحو الحاويتين المقاومتين للصدمات. مرر جونزاليس يده اليسرى على شاشة الولوج الخاصة بكل منهما ثم أدخل كود الدخول بيده اليمنى. انفتحت الحاويتان مصدرتين صوتا خافتا، وفي كل منهما ظهرت شاشة والتمعت أضواء تشخيصية فوق صفوف من وحدات الذاكرة، كل منها عبارة عن مكعب ثقيل من البلاستيك الأسود في حجم صندوق الأمانات الصغير.
رأى جونزاليس المرأة وهي تمسك نسخة من استمارة التصريح بالمعلومات التي ملأها جهاز «الميميكس» في ميانمار وسلم نسختين منها لحكومتي ميانمار وتايلاند. نظرت داخل إحدى الحاويتين وأشارت إلى صف من وحدات الذاكرة المغلقة الموضوع عليها شريط أحمر.
ثم قالت، يتبعها المترجم الآلي: «علينا الاحتفاظ بهذه الوحدات كي نتحقق من أنها لا تحتوي على أي معلومات محظور حيازتها.» «لقد فعلت جمارك ميانمار هذا. إنها سجلات تابعة لشركة سينتراكس.» «ربما تكون كذلك، لكننا لم نتأكد من هذا.» «يمكنني منحك أكواد الدخول لو أردت؛ فليس لدي ما أخفيه، لكن هذه الوحدات مهمة لعملي.»
ابتسمت المرأة وقالت: «ليس لدي المعدات اللازمة هنا. يجب فحصها على يد السلطات في المدينة.» وعكست نبرة المترجم الآلي عدم اكتراثها.
أحس جونزاليس أنه في مستهل مواجهة تعنت بيروقراطي؛ فقد قررت هذه المرأة، لأسباب غامضة، أن تحيل حياته إلى جحيم، وكلما حاول أن يضغط أكثر، ساءت الأمور أكثر. عليه بالاستسلام إذن. قال: «أفترض أنها ستعود إلي في أسرع وقت ممكن.» «بالتأكيد. بعد فحص دقيق. غير أنه من غير المرجح أن يكتمل الفحص قبل مغادرتك.» ثم أزاحت الحاوية من على الطاولة ووضعتها على الأرض إلى جوارها. كانت تبتسم ثانية، ابتسامة بيروقراطية متشفية. عادت إلى مكانها الأصلي وقد صارت حالة جونزاليس ضربا من الماضي بالنسبة إليها. نظرت إليه ولما وجدته لا يزال واقفا قالت: «هل يمكنني مساعدتك في شيء آخر؟» •••
بدأ عالم الآلة في التبدد، متحولا إلى ضباب، وبينما حدث هذا أضاءت صفوف من الأضواء المنخفضة الطاقة في أنحاء الغرفة، وبدأت أنماط الأضواء تمر بعدد من التغييرات المتسارعة بينما أعيد جونزاليس إلى الوعي. ولمدة ساعة من الزمن، كانت الغرفة مضاءة بالكامل عندما اكتملت سلسلة التزامن، وبدأت البيضة تنشق.
داخل البيضة رقد جونزاليس شاحبا، عاريا، في حالة أقرب إلى الغيبوبة، ومتصلا بالآلة: وكأنه سنو وايت الألفية الجديدة. امتدت قسطرة بلون اللحم من قضيبه المنكمش بفعل المياه، وخراطيم تغذية وريدية من كلتا ذراعيه. تجمع معجون مانع للتسرب ومضاه لتهيج الجلد حول الأنابيب الخارجة من فمه وأنفه، وكانت رائحة الأوزون الآتية من المعجون تغمره بالكامل.
اقتربت نقالة آلية من البيضة وبدأت أيديها، وهي كلابات لامعة من الكروم، في فصل الأنابيب والخراطيم. بعد ذلك عملت بالتعاون مع أيد وأذرع سوداء مرنة في ثخانة الحبل الغليظ من أجل رفع جونزاليس من البيضة ووضعه على سطحها.
أفاق جونزاليس في غرفة نومه وبدأ يئن قائلا: «الأمر على ما يرام.» وهمس الميميكس عبر مكبر الصوت بالغرفة قائلا: «الأمر على ما يرام.»
في وقت لاحق استفاق جونزاليس مجددا، ورقد في الظلام وتدبر حالته. كان يشعر ببعض الغثيان والضعف في ساقيه، لكن لم يكن ثمة فقدان ظاهر في السيطرة على حركته، ولا وجود لتأثيرات باراسيكولوجية مباشرة (ارتباك أو فقدان ذاكرة مؤقت أو حس مواكب) ...
نهض جونزاليس وذهب إلى الحمام، ووقف على البلاط الأبيض ووسط الألومنيوم المصقول والمرايا وقال: «حمام دافئ.» تدفق الماء مصدرا هسيسا وانفتح باب كابينة الاستحمام. جرى الماء على بشرته مزيلا العرق والمعجون من فوق جسده.
الفصل الثالث
الرقص في الظلام
في الصباح التالي، وقف جونزاليس يلقي نظرة من نافذته الأمامية، في جنوب حي كابيتول هيل، على المدينة وعلى الخليج. كان يشعر بالتعافي من البيضة بعد أن نام ليلة كاملة. وفي منتصف المسافة من التل امتد صف من الأبراج الحديثة الشاهقة، نصف دستة منها غارق في الشبورة، تكسو جدرانها ألياف بصرية تضيء بأنماط من الألوان الأحمر والأزرق والأبيض والأصفر.
انبعث من الشاشة الجدارية الموجودة خلفه صوت يقول: «شبكة الفن الرفيع، تعرض اليوم فقط: «إعلانات روتشيلد الأصلية والمقلدة» الأسطورية، وإنتاج أوروبي/تجاري من مهرجان كان، وتعرض أيضا برنامج «بهجة لكيلومترات عديدة» من إنتاج نيبون أوتو.»
قال جونزاليس: «اعرض.» ثم استدار ليشاهد الشاشة وهي تنقسم إلى عدة نوافذ، تظهر ثماني نوافذ في المرة الواحدة في عمليات بحث عشوائية. في الشاشة الواقعة في الركن الأيمن العلوي عرضت خدمة عناوين الأخبار ما اعتبرته أخبارا مهمة: تفاقم التفسخ الاجتماعي في إنجلترا، سلسلة أخرى من الانتصارات السياسية-الاقتصادية للكوريتين. وملخصات عن حالة البيئة: ثقب الأوزون الثاني فوق القطب الشمالي يسير وفق منحنى الإصلاح الذاتي المتوقع، بينما الثقب الثالث يظل على حالته، ونسب ثاني أكسيد الكربون غير مستقرة، والأوزون يصل إلى مستويات خطيرة على المخطط البياني، وتقلبات درجة الحرارة تواصل مخالفة أفضل التوقعات ...
ما الجديد في هذه الأخبار؟ تساءل جونزاليس. حري بها أن يسموها «أخبارا قديمة». رباه! تبدو هذه الأمور وكأنها قائمة منذ قديم الأزل.
قال: «ميميكس، ما رأيك في الهجوم؟»
أجابه جهاز «الميميكس»: «أمر خطير. نحن محظوظون أن ظللنا على قيد الحياة.» بدا أكثر خنوعا بقليل في أعقاب الرحلة داخل البيضة، كما لو أنه هو الآخر كان على مشارف الموت. لم يعلم جونزاليس كيف يشعر بهذه الأمور، نظرا لقدراته الشعورية المحدودة، حسب ظنه، وعدم قدرته على الشعور بالخوف.
سأله جونزاليس: «ما الذي يحدث في العالم الواقعي؟» «تركت لك والدتك رسالة. أتريد أن تراها الآن؟» «ولم لا؟»
ظهرت والدته على الشاشة وهي مستلقية على كرسي حدائق، ووجهها مختف خلف قناع يقيها من الشمس، وجسدها الذي لا تغطيه إلا قطعة بكيني واحدة ذات لون بني. جلست وقالت: «ألا تزال في ميانمار يا عزيزي؟ متى ستعود؟ أود الحديث إليك، لكنني لن أدفع مثل هذه التكاليف.»
أزاحت القناع الشمسي. كانت بشرتها مسمرة وبنيتها طيبة، وكان وجهها خاليا من التجاعيد تقريبا، رغم أن جلدها كان يتسم بتلك الرقة المميزة لعمرها. لم يكن ثدياها متهدلين كثيرا، وبدت من حيث الوجه والجسد كما لو كانت امرأة رياضية في الخمسين من عمرها تعرضت كثيرا للشمس، رغم أنها ستكمل عامها السابع والثمانين الشهر المقبل.
توفي والد جونزاليس من جراء تفش خاطف لوباء الإنفلونزا بينما كان الوالدان يزوران مدينة نابولي، ومنذئذ وجهت والدته طاقتها واهتمامها للحفاظ على صحتها ومظهرها. كانت تقضي نصف عامها في فيلات كوزوميل للتجديد؛ حيث أبقتها عمليات زراعة الأنسجة وإعادة التشكيل الجينية شابة. أما بقية الوقت فكانت تسكن في طابق كامل بأحد المباني غير المرتفعة بأحد الكمبوندات على شاطئ فلوريدا الذهبي المتدهور، إلى الشمال مباشرة من مدينة ميامي. كانت تدفع مقابلا باهظا، لكن كان بمقدورها تحمله.
كانت هي ووالده عضوين مميزين في جماعة الشيوخ الحاكمة؛ تلك العصبة الدائمة التوسع من الأغنياء والعجائز الذين ينافسون الشباب على موارد المجتمع. كان الشباب يمتلكون القوة والطاقة، بينما امتلك العجائز الثروة والسلطة والدهاء. لا وجه للمنافسة: فالشباب دون سن الثلاثين دائما ما يقولون إن هدفهم في الحياة هو «أن أعيش حتى أكون عجوزا بما يكفي كي أستمتع بها.»
وضعت والدة جونزاليس رداء قطنيا باللونين الأبيض والأزرق فوق كتفيها وقالت: «اتصل بي. سأكون بالمنزل في غضون أسبوع أو نحو ذلك. دمت بخير.»
كانت حواراتهما، ورسائلها المسجلة، دائما ما تجعلانه يشعر بالحيرة والغضب، لكن اليوم كان انغماسها في الذات أكثر من المعتاد. كان يريد أن يقول لها: «لقد شارفت على الموت، لقد كادوا يقتلونني يا أمي.»
غير أنه كان بعيدا عنها، مثلما تبعد سياتل عن ميامي. «وخطأ من هذا؟» هكذا تساءل صوت طفولي في رأسه. لقد اختار المجيء إلى هنا، إلى أبعد مكان عن جنوب فلوريدا لكنه لا يزال داخل الولايات المتحدة. أحيانا كان يشعر أنه ابتعد أكثر مما ينبغي؛ ففي فلوريدا كان الناس يلطفون من حرارة أجسامهم بتناول بالكحوليات والمشروبات المثلجة، أما هنا فكانوا يحتسون القهوة القوية كي يشعروا بالدفء. كثيرا ما كان جونزاليس يشعر بالضياع وسط كآبة الشماليين واهتمامهم بصحتهم، وبالاشتياق إلى الشهوانية والمشاعر الهسبانية المميزة لجنوب فلوريدا.
ومع ذلك فقد كان يكره العالم الذي ترعرع فيه. لقد رأى مهربي المخدرات ومروجيها ولاعبي القمار منذ أن كان طفلا، ورأى في هؤلاء جميعا النهم الشديد نفسه للمال والأراضي والسلطة، وسمع الأصوات الطفولية نفسها وهي تريد المزيد والمزيد. وفي الحفلات التي كان يقيمها والداه يذكر الوجوه المسمرة لقاطني جنوب فلوريدا، البيض والسود الهسبانيين الذين لفحتهم الشمس، رجال يرتدون حليا ذهبية ثقيلة ويخلفون وراءهم سحبا من العطر الباهظ، ونساء ذوات شعور متيبسة ونهود مرفوعة، كانت ضحكاتهن تشكل حاشية رقيقة لأصوات الرجال العالية. وكان يهرب من كل هذا على نحو غريزي مثلما يبعد الطفل يده عن النار.
لكنه كان يقف في هذا المكان وتلك اللحظة في أرض غريبة، ولم يكن يشعر أنه في موطنه في هذا الطرف من البلاد أكثر مما كان يشعر في الطرف الأقصى منها.
قال جونزاليس: «لا رد.» •••
في اليوم التالي جلس جونزاليس في حجرة التشميس؛ حيث اضطجع على الكسوة السوداء وتحت الزجاج المنقوش بينما كانت أفكار الموت تقض مضجعه. ملأ غليونا برونزيا بأوراق القنب الخضراء الصغيرة وغاص في غيمة من الدخان وهو يحتسي الشاي.
تحول ضوء العصاري المتسلل من النوافذ إلى اللون الرمادي، لون الملل والقنوط التام، وصار شعور الوحدة طاغيا. كان بحاجة إلى رفقة، هكذا فكر، وتساءل عما سيكون عليه الأمر لو امتلك قطا. حينها فكر في حقيقة الأمر، كيف أن غيابه سيطول وأن القط سيلهو بماكينات المنزل. سيقول روبوت التنظيف: «مرحى أيها القط.» وسيرغب جهاز «الميميكس» في برامج بيطرية ورابط تشخيصي ... اللعنة! بمقدورهم جميعا العيش من دون قط.
بعدها شعر بقرصة الجوع، فقرر أن يعد بعض التبولة. «أنت لا تولي العمل اهتمامك.» هكذا قال جهاز «الميميكس» بينما وقف جونزاليس يقطع أوراق النعناع والبصل الأخضر والطماطم، ويعصر الليمون ويقلب البرغل في صبر شخص مسطول.
قال جونزاليس: «هذا صحيح. أنا لست في عجلة من أمري.» «لماذا؟ منذ عودتك من آسيا لم تكن لك أي إنتاجية تذكر.» «سأموت يا صديقي.» تسللت رائحة الليمون والنعناع إليه، فأخذ نفسا عميقا ثم أضاف: «اليوم، أو ذات يوم بالتأكيد ... ما زلت أحاول فهم ما يعنيه الأمر لي الآن. الإنتاجية أمر طيب، غير أن التأقلم مع فكرة موتي ... أعتقد أن هذا أفضل.» اكتملت التبولة. كانت جميلة، وتمنى لو استطاع غمس وجهه فيها. •••
قبل أن يمضي وقت طويل على انتهاء جونزاليس من تناول الطعام، وصله طرد من تايلاند. وداخل طبقات الفوم والشرائط كانت توجد وحدات الذاكرة التي أخدها التايلانديون. وحين أوصلها بجهاز «الميميكس» تبين أنها خالية: أصفار، مستعدة للاستخدام من جديد .
وقف جونزاليس ونظر إلى الوحدات المثبتة في حاوية جهاز «الميميكس». «لا أصدق ذلك.» هكذا فكر في نفسه قائلا. كان هذا يعني أن كل سجلات التدقيق قد محيت. وأي بيانات يجمعها هو أو أي شخص آخر الآن من فرع سينتراكس في ميانمار ستكون عديمة القيمة؛ فمن المؤكد أن جروسباك قد حظي بما يكفي من الوقت كي يزور البيانات التي يحتاج إلى تزويرها. الموقف كله يكتنفه الغموض.
فكر جونزاليس في نفسه قائلا: «جروسباك أيها اللعين. لو كنت قد رتبت استيلاء التايلانديين على الوحدات، فربما تكون أذكى وأحط مما أظن.»
قال جونزاليس: «اللعنة.»
سأله جهاز «الميميكس»: «هل ثمة شيء يمكنني فعله؟» «لا أظن ذلك.» •••
على خلفية من نباتات الأدغال وحوائط الباستيل والمشغولات الفضية الموقعة، تعرف هاي ميكس على أحدث تجسيدات قاعة الاستقبال بفندق بيفرلي روديو. كان السيد جونز يفضل التباهي، حتى أمام أقرانه.
جلس هاي ميكس على مقعد منفرد مصنوع من الكروم اللامع ومكسو بجلد بني في لون الشوكولاتة. كان هاي ميكس يرتدي البنطال الفضفاض المعتاد وسترة من القطن الأسود، وقميصا من الكتان الأبيض المتغضن، وكان ذا وجه حليق وشعر قصير.
جلس شخص على نحو مباغت في المقعد المقابل له: يرتدي سترة رمادية وقميصا أحمر موشى بخيوط معدنية كان يسطع تحت الأضواء، ونظارات سوداء الإطار لها عدسات داكنة، وشعر مدهون بالكريم ومصفف إلى الوراء، ولحية سوداء قصيرة وشارب.
قال هاي ميكس: «سيد جونز.»
أخذ الشخص الآخر نفسا طويلا بطيئا من سيجارة بنية وقال: «هاي ميكس، أي خدمة يمكنني أن أسديها لك؟» «إنه جونزاليس. منذ عودتنا من ميانمار وهو خامل تماما، لم يهتم بشئون العمل.» «استجابة تالية على الصدمة، امنحه بعض الوقت وسيكون بخير.» «كلا، إنه لا يحتاج إلى وقت، بل إلى عمل. ألديك شيء؟» «ربما. لم أجر أي بحث شخصي، وربما لا يناسبه العمل تماما.» «لا يهم ذلك، امنحه إلى جونزاليس. إنه بحاجة إليه.» «كما تشاء. ستسمع خبرا رسميا في وقت لاحق من اليوم.»
تبدد العالم من حولهما، وتحول إلى غيمة من الدخان ، واختفى شكل السيد جونز وعاد إلى هويته الأصلية بوصفه مرشد تراينور، بينما عاد هاي ميكس إلى صورته الأصلية بوصفه جهاز «الميميكس» الخاص بجونزاليس. (لعلك تتساءل عن سبب اختيار هاتين الماكينتين لهذا التنكر المعقد، أو عن سبب عدم معرفة أي شخص بحدوث أمور كهذه. أما بشأن لماذا؟ أو من؟ فلا يوجد جواب. فهؤلاء هم اللاعبون الجدد، وهذه هي لعبتهم.
مرحبا بك إذن في الألفية الجديدة.)
الفصل الرابع
تصريح بعدم الوجود
حين عاد جونزاليس إلى المنزل وجد رسالة من تراينور تقول: «فلترتب أمر الانتقال في صباح الغد، الخامسة صباحا، من مطار نورثرن سياتل إلى ضيعتي. كن مستعدا لمباشرة العمل على الفور. اجلب معك جهاز «الميميكس» وأمتعة شخصية يصل وزنها إلى اثنين وعشرين كيلوجراما.»
قال جونزاليس: «اللعنة. لقد وصلنا للتور. اثنان وعشرون كيلوجراما، حقا؟ هذا يعني أننا سنذهب ... إلى أين تظن أننا سنذهب؟»
قال جهاز «الميميكس»: «إلى مكان ما في المدار.» •••
حافظت ليموزين المطار على موقعها ضمن قافلة من نحو عشر سيارات تتحرك مبتعدة عن المدينة بسرعة مائتي كيلومتر في الساعة. ظهرت ضواحي سياتل الشمالية على شكل رقع من الضوء خلف الشبورة المتحركة والمطر الدائم التساقط. وبالأعلى، كانت مناطيد الشحن التي تطير نحو فانكوفر تتحرك عبر السحب مثل أسماك نهرية عملاقة.
ألقى جونزاليس نظرة سريعة على ميدان تسطع فيه كشافات أضواء بيضاء وصفراء اللون عبر مشهد خرساني، وأخذت تجميعة هزيلة من المواسير والأسلاك تخطو كما السرطان بينما ترش أحد الجدران: روبوت جرفيتي، ماكينة مبنية ومطلقة كي ترسم رسائل للعالم كله. كل ما استطاع جونزاليس قراءته هي الكلمات ... جنت من تشان.
أبطأت السيارة الليموزين مطلقة هسيسا من توربيناتها استعدادا لأن تسلك المخرج المتجه إلى مطار نورثرن سياتل، ثم استدارت نحو طريق دخول خاص. انفتحت بوابة سلكية أمامهم بينما كانت تتلقى الشفرات التي أرسلتها الليموزين. وبالقرب من حظيرة طائرات سينتراكس كانت تقف طائرة ذات أجنحة متعددة الأوضاع مماثلة تماما لتلك التي استقلها جونزاليس من باجان إلى بانكوك. صعد جونزاليس على متن الطائرة ووضع حقيبته والحاوية المقاومة للصدمات الموضوع فيها جهاز «الميميكس» داخل قمرة الأمتعة، وربط حزام الأمان، محكما شده على كتفه.
ارتفعت الطائرة نحو السحب والضباب. وبعد قليل، تسبب البياض الشاحب البادي من وراء النوافذ والضوضاء الثابتة لمحركات الطائرة في دخول جونزاليس في نوم خفيف استمر إلى أن أنبأته ضوضاء المحرك الآخذ في الهبوط بأنهم كانوا يهبطون.
بينما مالت الطائرة، رأى جونزاليس الصفحة الزرقاء لبحيرة تاهو التي تمتد نحو الجنوب، ثم رقعة من العشب الأخضر على حافة المياه أخذت تكبر وتكبر مع اقتراب الطائرة نحو ضيعة تراينور.
من واقع سنواته الست التي قضاها في العمل لدى إدارة الشئون الداخلية، آخر سنتين منها بوصفه مدققا مستقلا، كان جونزاليس يعلم قدرا لا بأس به من المعلومات عن فريدريك لويس تراينور، رئيسه في العمل. كان تراينور يمتلك ثروة انتقلت إليه من عائلته وكانت تكفي لتغطية أقوى مظاهر البذخ، ولم يكن ثمة شيء آخر يتوق إليه سوى هذه السلطة التي تكفي أبسط لمساتها لتغيير شكل حياة الناس. ومن موقعه كرئيس لإدارة الشئون الداخلية، وهي واحدة من أقوى إدارات سينتراكس نفوذا، كان يخطط للارتقاء إلى مجلس إدارة سينتراكس؛ إذ كان يريد أن يكون واحدا من الأشخاص العشرين الذين تجاوزوا نطاق التفاوض والتنازلات، الذين كانت أحلامهم أوامر، ونزواتهم أمرا واقعا.
في الحقيقة، كان تراينور قد حقق بالفعل مكانة مميزة تخول له، إن أراد، ألا يكون له وجود. كان منزله وأرضه يشغلان قطعة من الساحل الشمالي لبحيرة تاهو؛ حيث كان هناك وجود لفندقي قمار وقسم من طريق الولاية السريع. أزيل الفندقان وجرى تحويل الطريق السريع. أصبحت أرضه الآن محاطة بسور ارتفاعه أربعة أمتار من الصلب الأسود المضلع، مزود بأجهزة إنذار وتنصت، وتجوبه الروبوتات في دوريات. لم تكن الضيعة تظهر في أي خريطة أو سجل شراء أو ملكية أو ضرائب، كما لم يكن لصاحبها بالمثل أي أثر في هذه السجلات.
حين خرج جونزاليس من الطائرة على الامتداد الشاسع للعشب الأخضر، كان تراينور ينتظر كي يقابله. كان رجلا قصيرا بدينا، وكان جلده شاحبا. كان شعره المتناثر متجمعا في كتل متغضنة على رأسه. وكان يرتدي في قدميه خفا أسود طريا، ويرتدي رداء حريريا مطرزا، ألوانه أخضر وأزرق وأبيض وأحمر، منقوشا على صدره وظهره تنانين واثبة. كان ينظر إلى نفسه باعتباره باريوني الطباع - غريب الأطوار ومثيرا للاهتمام وبه لمحة من العبقرية - لكن في نظر جونزاليس وكثيرين غيره كان يبدو نزق الطباع ومنغمسا في الملذات لا أكثر.
فتح تراينور ذراعيه وقال: «ميخائيل.» مشددا على كل مقطع من مقاطع الاسم الثلاثة، وناطقا إياه بصورة صحيحة، ثم عانق جونزاليس عناقا سريعا. بعد ذلك تراجع تراينور خطوة إلى الوراء ونظر إليه وقال: «أنت لا تبدو في حال سيئة للغاية.» «ألهذا السبب أتيت بي إلى هنا، كي تنظر إلي؟»
هز تراينور كتفيه وقال: «لهذا السبب، ربما، وأيضا كي أتحدث معك عن مهمتك التالية. كما أنك تروق لي.»
افترض جونزاليس أن تراينور كان معجبا به بالفعل، بطريقته الخاصة كرئيسه في العمل وكرجل ثري. وعلى وجه التحديد، بدا أن ما يروق له هو حقيقة أن جونزاليس لم يكن منبهرا بمظاهر البذخ السطحية لما يمتلكه من مال وسلطان.
ذات مرة قال له تراينور: «أصل طيب. هذا هو سرك: اختلاط الدم النبيل بدم العامة.» كان ميخائيل جونزاليس ذا أصول عرقية مختلطة بالفعل؛ إذ كان له أصول يهودية روسية وهسبانية من لوس أنجلوس من جهة الأم، وأصول سوداء من شيكاجو وكوبية من ميامي من جهة الأب. وكان له أسلاف من العبيد وعمال الحقول والبرجوازيين المناهضين للثورات، علاوة على فنان ومهرب ومحتال.
لكن بصرف النظر عن أصله أو خبراته السابقة، فقد تعين عليه أن يتحمل قدرا كبيرا من الهراء المتعالي السمج من طرف تراينور، كما كان يتعين عليه أن يتحمل تراينور ذاته عموما؛ لأن الرجل كان فاحش الثراء وذا نفوذ وكان رئيسه في العمل، ولم ينس أيهما ذلك.
سار الاثنان نحو المنزل المواجه للبحيرة عند الطرف القصي للمرج، وكان منزلا كبيرا فخما، ربما كان من شأن مهندس معماري يتقن عمله لدرجة الكمال أن يشيده في القرن الثامن عشر من أجل سيد صبور وينشد الكمال بالدرجة عينها. يتفرع من المركز الذي تعلوه قبة ذهبية ثلاث أجنحة من الحجر القشدي اللون، وكان المنزل كله مشيدا على طراز هندسة باديو الجديدة المتحفظ الذي لا يسرف في استخدام المواد الخام، فلا وجود لتركيبات خرسانية بلون الفوم، بل مجرد الحجر الرملي القمحي والقشدي اللون والرخام الوردي الذي يفصح عن الثراء والذوق الرفيع.
صعدا سلما رخاميا ودخلا المنزل، وعبرا تحت القبة الداخلية التي تعلو البهو المركزي؛ حيث تتصل أجنحة المنزل الثلاثة. سارا في رواق مكسو بالخشب الداكن، تعلوه جدران وسقف قشدي اللون.
وبينما كانا يعبران، ألقى جونزاليس نظرة سريعة على الغرف الجانبية عبر الأبواب المفتوحة. كانت إحدى الغرف تعرض مشهد سماء الليل المليئة بالسدم الدوارة وملايين النجوم، بينما عرضت الغرفة التالية منظر ضوء الشمس والثلوج المبهرة. أما الغرفة الثالثة فلم تكن تضم شيئا إلا الجدران البيضاء، والأرضية الرخامية المصقولة، وتمثالا ليد بارتفاع خمسة أمتار يقف دون حراك، بحيث كانت إصبع السبابة ممدودة في وضع أفقي، والأصابع الثلاث الأخرى مضمومة قبالة راحة اليد، والإبهام منتصبا في وضع رأسي، وكأنه زناد مسدس خيالي.
انفتحت الأبواب المصنوعة من خشب الماهوجني أمام الرجلين، ودلفا إلى داخل المكتبة. لم تكن جدرانها المكسوة بالألواح الداكنة تفصح عن شيء: فحتى عند النظر عن قرب كان من الممكن أن تبدو الكتب مجرد صور هولوجرامية، أو كتب حقيقية. كانت وحدات إدخال البيانات المسطحة موضوعة داخل طاولات جانبية من خشب الماهوجني، وإلى جوارها كانت توجد مقاعد مكسوة بالجلد الأحمر وأرائك مخملية ذات لون كستنائي.
قال تراينور: «اجلس يا ميخائيل.»
كان باستطاعة جونزاليس الشعور بالصمت الثقيل المقبض الذي ساد المكان في أوقات سابقة؛ إذ استحضرت الكسوة الجلدية والأثاث أجواء أندية السادة وغرف التدخين والهمسات المقبضة الخاصة بالصفقات الدائرة.
ظهر فقدان التركيز على عيني تراينور، بينما سبح ذهنه في أمر آخر وهو يستمع إلى الصوت الذي يتردد في أذنه. وحتى لو لم يكن جونزاليس واعيا لاعتماد تراينور على «مرشده»، لكان سيعرف ما يحدث. كان تراينور ، الذي يحتل مكانة أعلى من أي شخص آخر يعرفه جونزاليس، يحتاج إلى الاطلاع دوما على المعلومات والنصائح والتمتع بالدعم الانفعالي العام الذي يقدمه المرشد؛ ومن ثم فقد كان ثمة جهاز إرسال واستقبال مثبت تحت أذنه اليسرى. ومتى أراد، كان صوت المرشد يوجهه، عبر الشبكات الخلوية وروابط الأقمار الصناعية.
أخيرا رفع تراينور عينيه وقال: «انظر، أريدك أن تركز على مهمة ستؤديها من أجلي. أيمكنك عمل ذلك؟» هز جونزاليس كتفيه. أردف تراينور: «أنت تشعر بالارتباك والغضب - فقد هوجمت وكدت تقتل - أعلم هذا. لكن اسمعني: أنت تعمل في إدارة الشئون الداخلية، وهذه هي مخاطر المهنة. لقد دققت أنت وجهازك بشدة في عمليات ذلك الرجل، وقد أخافه هذا، ولذا أقدم على هذه المحاولة الغبية.» «أريده أن يدفع ثمن هذا.» «عليك مسايرتي في هذا الأمر وربما تتاح لك الفرصة لفعل هذا، لكن لاحقا، أما الآن فلدي عمل آخر من أجلك.» «حسنا، سأفعل هذا.» كان جونزاليس يعلم أن عليه مسايرة تراينور؛ فقد كانت هذه فرصته الوحيدة كي ينتقم من جروسباك. فليسايره الآن، وينتقم لاحقا.
قال تراينور: «عظيم. ما الذي تعرفه عن مدينة هالو ومنظومة ألف؟» «لقد شيدت هذه المدينة على يد اتحاد شركات متعددة الجنسيات. وقد احتكرت سينتراكس البيانات، وتوظف منظومة ذكاء اصطناعي واسعة النطاق من أجل إدارة المدينة. هذا كل ما أعرفه.»
أضاءت الشاشة الجدارية التي تشغل أحد الجوانب وعرضت شعارا بلون أسود عريضا:
شعار ألف.
تردد صوت تراينتور عبر سماعة في السقف، وقال: «الشعار الذي تنظر إليه كان الشعار الأصلي لمنظومة ألف حين شيدتها سينتراكس. وحسب نظام كانتور فهو يمثل أولى الأعداد فوق المتناهية، بحيث يدل على المجموعة اللانهائية من الأعداد الصحيحة أو الكسور أو الأعداد الطبيعية. كما أن كلمة «ألف» نفسها هي الحرف الأول من الأبجدية العبرية واسم لإحدى القصص.»
قال تراينور: «لندخل في الموضوع.» ••• «لقد شيدت المنظومة في محطة أثينا، التي تدور حول الأرض في مدار زمني ثابت، وهناك أشرفت على بناء شبكة الطاقة المدارية، ولاحقا نقلت إلى مدينة هالو، في المستوى المداري الخامس؛ حيث تكون العامل الأساسي في عمليات تفسير البيانات والتخطيط اللوجيستي والإدارة.»
قال جونزاليس: «يبدو غريبا أن توكل مهمة إدارة مشروع في حجم وأهمية مدينة هالو إلى منظومة ذكاء اصطناعي بالية.»
أجاب المرشد: «سيكون كلامك صحيحا لو كانت منظومة ألف بالية حقا. غير أن هذا ليس صحيحا؛ فالماكينة التي نطلق عليها اسم ألف تتمتع بقدرات تفوق أي ماكينة ذكاء اصطناعي موجودة.»
نظر جونزاليس إلى تراينور، الذي رفع يده مشيرا إليه بأن يتحلى بالصبر، وقال: «الصورة التالية.»
ظهرت على الشاشة صورة للفضاء عديم الجاذبية يطفو فيه رجل محاط بفقاعة بلاستيكية شفافة. كان الرجل عاريا، وكانت أطرافه منكمشة وملتوية. كانت ثمة أنابيب مثبتة إلى أنفه وفمه وأذنيه وقضيبه وشرجه وغطاءين نصف كرويين على عينيه. وكان يتصل بالوصلات الموجودة في مؤخرة عنقه كابلان سميكان.
قال المرشد: «هذا الرجل يدعى جيري تشابمان. وهو يعاني من تلف عصبي حاد نتيجة انتقال السم إليه عبر طعام بحري ملوث بمخلفات سامة. ورغم أن معظم الوظائف الحركية والحسية معطلة، فإنه ليس في غيبوبة. في الواقع، يبدو أنه لا يزال محتفظا بكل وظائفه العقلية. لاحظ مقبسي الاتصال العصبي؛ فلهما دور محوري فيما يلي.»
سأله جونزاليس: «أهو في هالو؟»
قال المرشد: «نعم. لقد نقل إلى هناك من الأرض.»
قال جونزاليس: «معاملة خاصة للغاية.»
قال المرشد: «لقد كانت المجموعة في هالو تبحث عن فرصة كهذه؛ فرصة الاستكشاف الطويل الأمد لواجهة ألف.»
قال تراينور: «في الحقيقة، إن علاقة تشابمان بمنظومة ألف تعود إلى الأيام المبكرة لها.»
قال المرشد: «حين عمل هو وألف مع د. ديانا هايوود، التي كانت آنذاك تعمل لصالح شركة سينتراكس في محطة أثينا. كانت عمياء في ذلك الوقت.»
قال تراينور: «حتى في هذا الموقف كانت د. هايوود الورقة الرابحة. لقد كانت منخرطة في المنظومة ألف طوال الوقت، ولاحقا غادرت وعاشت مع تشابمان على الأرض. لقد فصلتها سينتراكس بسبب استخدامها غير المصرح به لمنظومة ألف، لكننا أعدنا توظيفها من جديد. إنها ستذهب إلى هالو، وهناك ستساعد المنظومة ألف في محاولة إبقاء هذا الرجل على قيد الحياة.» «على قيد الحياة؟» هكذا تساءل جونزاليس، وهو يشير إلى الجسد الظاهر على الشاشة، وأضاف: «لا يبدو أن ثمة جدوى من ذلك.» فعلى حد فهمه لهذه الأمور، نظرا لحالة الرجل فإن عملية الانسحاب من المفترض أنها بدأت، وأن سينتراكس بوصفها الوصي الصحي قدمت طلبا للمحاكم الطبية الفيدرالية من أجل السماح لها بوقف الأجهزة الداعمة للحياة.
قال المرشد: «تؤمن ألف أن بمقدورها إبقاءه على قيد الحياة في محطة فضائية. ثمة مشكلات خاصة، كما يمكنك أن تتصور، ومن بينها الحاجة إلى وجود الحب والصداقة ... لا أفهم هذه الأمور جيدا، غير أن ألف بعثت لي برسالة مفادها أن الأسابيع القادمة ستلعب دورا حاسما في حياة المريض.»
قال تراينور: «ومع ذلك فإن الاستعانة بالدكتورة هايوود يمثل مشكلة في حد ذاته.»
قال المرشد: «لقد غادرت سينتراكس منذ سنوات. في ظروف عصيبة بصورة ما.»
قال تراينور: «ليس لديها سبب يدعوها للتحلي بالولاء للشركة.» ثم صمت قليلا وأضاف: «وليس لدينا سبب يدعونا للثقة بها.»
قال جونزاليس: «أفترض أن دوري يحل هنا، أليس كذلك؟»
قال تراينور: «بلى. أريدك أن ترافقها. ستكون ممثلا عني وعن مجلس إدارة سينتراكس بصورة غير مباشرة.» رفع جونزاليس حاجبيه، فضحك تراينور وقال: «نعم، أنا أمثل مجلس الإدارة في هذا الأمر، بصورة غير رسمية، إنهم يجدون هذا العلاج أمرا مثيرا للاهتمام بشدة، لكنهم يرغبون في وجود فاصل ما بينهم وبين هذه الأمور؛ نظرا لأن ثمة جوانب قانونية معينة سيتعين الالتفاف حولها.»
قال جونزاليس: «أو انتهاكها.»
قال تراينور: «كما تشاء. المهم في الأمر هو ما يلي: من منظور مجلس الإدارة، لا يمكن الوثوق في الدكتورة هايوود.»
قال جونزاليس: «إذن فأنت تحتاج إلى جاسوس، وأنا رجلكم.»
هز تراينور كتفيه موافقا.
قال المرشد: «أنت تمثل مصالح شخصية قانونية في موقف لن يجري فيه تمثيلهم بصورة أخرى على نحو لائق.»
قال جونزاليس: «هذا تعبير فخم؛ «تمثل مصالح شخصية قانونية»، سأحاول أن أتذكره. حسنا، سأفعل أفضل ما بوسعي.» ثم استدار ليواجه تراينور وقال: «كي أجعلك تصل إلى مجلس الإدارة.» فضحك تراينور. ثم تساءل جونزاليس: «كم من الوقت سيستغرق هذا الأمر؟»
قال تراينور: «ليس طويلا.»
قال المرشد: «بمجرد أن تستقر حالة تشابمان ...»
قال تراينور: «أو يموت.»
قال المرشد: «أمر مرجح بشدة. بمجرد أن تستقر حالته - سواء على قيد الحياة أو بوفاته - تنتهي مهمتك.»
قال تراينور: «لكن حتى ذلك الحين ستكون مهمتك هي إعلامي بما يحدث. ستكون في المحطة الفضائية معهما، وسترى ما يفعلانه.»
قال جونزاليس: «لا بأس. ما الذي سأفعله الآن إذن؟»
قال تراينور: «ستطير إلى بيركلي وتتحدث إلى الدكتورة هايوود. عرفها بنفسك، واكسب صداقتها.»
الفصل الخامس
تعال إلي إذن
بعد الظهر وصل جونزاليس إلى مطار بيركلي، وهو عبارة عن مجموعة من المنصات الأسمنتية المتشققة الواقعة على حافة مياه الخليج. خرج من الطائرة تحت أشعة الشمس اللافحة. وعبر الخليج كانت أشعة الشمس تنعكس على جسر جولدن جيت وجزيرة ألكاتراز، والتمعت المياه بشدة لدرجة أن نظارته تحول لونها إلى الأسود.
كانت سيارة مستأجرة تحمل لوحات من تروسديل تنتظره في ساحة الانتظار. أدخل البطاقة التي تحمل رقاقة هويته لدى سينتراكس ورقاقة الائتمان في فتحة الباب، فتراجع الباب داخل الإطار بهسيس صامت. كانت نوافذ السيارة داكنة وتعكس أشعة الشمس، وكان مكيف الهواء بها يعمل، ومن ثم كان المقعد المخملي ذو اللون البني الداكن باردا حين جلس جونزاليس عليه.
قالت السيارة: «هل ترغب في القيادة يا سيد جونزاليس؟»
أجاب قائلا: «ليس حقا. هل تعرفين إلى أين سنذهب؟» «نعم، لدي العنوان.» «إذن خذينا إليه.»
كانت ديانا هايوود تعيش في تلال بيركلي، في منزل على طراز مايباك عمره أكثر من قرن. سارت السيارة عبر شوارع متعرجة صاعدة جانب التل، ثم توقفت أمام منزل مكسو بالخشب الأحمر كان يلوح فوق رأس جونزاليس وهو واقف على الشرفة. وكانت الشمس تنعكس على الزجاج المربع للنافذة المطلة على الخليج.
أجاب الباب على طرقات جونزاليس بأن قال إنها على مسافة بضعة مربعات سكنية، في حدائق روز جاردنز. قال الباب: «إنه مشروع مدني؛ إذ يعيد المتطوعون بناء الحديقة المهجورة. إن كثيرا من ال...»
قال جونزاليس: «أشكرك.»
ثم أخبر السيارة بالمكان الذي سيذهب إليه وشرع في السير في الاتجاه الذي أشار إليه جهاز «الميميكس». إلى يساره، كانت الشوارع والمنازل تنحدر نحو الخليج، وإلى يمينه، كانت ترتقي جانب التل الشديد الانحدار.
وصل جونزاليس إلى لافتة مكتوبة باليد بطلاء أخضر على لوح أبيض تقول:
مشروع تجديد حدائق بيركلي روز جاردنز.
نظر إلى الأسفل نحو المواضع التي انتشرت بها سقائف الخشب الأحمر على امتداد طرق ذات مصاطب تتخللها مجموعات خرقاء من مواسير الري البلاستيكية. وفي منتصف المسافة كانت توجد تعريشة متشققة ومتقشرة من الخشب المدهون باللون الأبيض تتدلى من فتحاتها الأغصان. وإلى جوار التعريشة كان ثمة روبوت صغير للعناية بالحدائق، وكان عبارة عن كتلة خضراء مكسوة بالبلاستيك تتحرك على عجلات جرار صغيرة، وقد مد ذراعا رقيقة من الصلب الملفوف اللامع تنتهي بيد ذات عشر أصابع. انغلقت اليد، وخرجت وردة حمراء قانية من الشجيرات. أمسك الروبوت بالوردة في يده ومضى على عجلاته بعيدا.
سار جونزاليس نحو الطريق المنحدر، وقدماه تضغطان بقوة على الحصى، ومر بالشجيرات وملصقاتها التي كثيرا ما تعلن عن أسماء غير متوقعة: ورود دورتموند ذات البتلات الحمراء الشبيهة بملمس الورق، وزهور حفلات الحديقة المبهجة ذات اللونين الأبيض والأصفر، وزهور مونتيزوما، وزهور مارتن فروبيشرز، وزهور مايتي ماوسز. توقف واستنشق العطر القوي المنبعث من الزهور الأرجوانية. وفي القسم المعاد تجديده كانت زهور الهالة المتفتحة في شرائط بحيث تعكس بحرص ألوان قوس قزح قد نمت وصار حجمها كبيرا. كانت أشبه بشبكات عملاقة مخدرة، لها شكل الورود من بعيد، وتدفع كل شيء آخر جانبا. وضع جونزاليس أنفه فوق زهرة وردية في شجيرة لا تحمل اسما، وبدت رائحة الوردة أشبه بحلوى النعناع.
تعرف على المرأة الواقفة في نهاية المسار من صورة الملف التي أراه إياها تراينور. كانت ديانا هايوود ترتدي فستانا من قطعتين من القطن الأبيض، وكان يكشف عن كتفيها ويلتف في إحكام حول خصرها، ثم ينقسم كي يغطي ساقيها. كانت ضئيلة الحجم ورشيقة، وكان لها شعر قصير أسود تتخلله بضع شعيرات رمادية. لم يكن سنها يظهر على ملامح وجهها، وكانت ملامحها صافية ودقيقة. كانت ترتدي نظارة داكنة مماثلة لتلك التي يرتديها جونزاليس.
كانت تمسك الساق ذات الأشواك الخاصة بإحدى الورود الحمراء القانية، وسألته: «أتريد وردة؟» وقد جعلت أشعة الشمس من الصعب تبين ملامح وجهها. «أشكرك.» هكذا قال بينما يمسك بالوردة في حرص، منتبها لأشواكها.
قالت: «من أنت، وماذا تريد؟» «اسمي ميخائيل جونزاليس، وأريد التحدث إليك. سأعمل معك في هالو.»
قالت: «حقا؟» وأدارت ظهرها له وركعت كي تقطف كتلة ضاربة إلى الخضرة من النباتات المعترشة والأشواك. علق مقصها في كتلة من العشب، وبعد أن حررته ألقته على الأرض؛ حيث انغرس بنصله فيها، وأصدر أزيزا للحظة، ثم توقف. نظرت من فوق كتفها إلى جونزاليس وقالت: «كنت أنتظر مجيء شخص مثلك، ممثل الشركة الذي سيراقبني أنا وجيري المسكين، كي يتأكد من أننا لن نفعل شيئا لسنا مخولين بفعله.»
وقفت ومشت مبتعدة عنه، نحو أعلى التل، بينما خطواتها الغاضبة تثير الغبار والحصى. توقفت واستدارت لمواجهته وقالت: «هيا يا سيد جونزاليس.»
سار خلفها وهو يمسك الساق ذات الأشواك في حذر.
جلست ديانا هايوود وجونزاليس يحتسيان الشاي. قال: «أنا مراقب خارجي، هذا صحيح - أو جاسوس لو شئت أن تطلقي علي هذا - غير أنني لا أظن أننا على خلاف. إنهم يطلبون منك القيام بمهمة محددة، ويطلبون مني القيام بمهمة مختلفة، ولا أرى إمكانية لحدوث تعارض بين مهمتينا.» أدارت وجهها كي تنظر إليه، وكانت إحدى عينيها زرقاء والأخرى خضراء.
قالت: «حين اتصلت بي سينتراكس الأسبوع الماضي كانت تلك أول مرة أتواصل معهم منذ أن تخلصوا مني منذ سنوات. لا أقصد بهذا أنهم أساءوا معاملتي، ليس وفق معاييرهم؛ فحين فصلوني، منذ سنوات، لم يتخلوا عني وحسب، بل دفعوا لي أموالا طيبة ... إنهم قوم حصيفون، لقد كان الأمر أشبه بتزييت إحدى الأدوات ولفها بحرص قبل تخزينها، لأنك قد تحتاجها مجددا. والآن وجدوا استخداما لي وجاءوا بي من على الرف ووجهوني إلى العمل، لكنني أعلم أنهم لا يثقون بي. وبطبيعة الحال لا أثق أنا بهم.» ثم وقفت وقالت: «تعال، سأريك ما يعنيه الأمر كله لي.»
تقدمت جونزاليس إلى الغرفة المجاورة؛ حيث تسبب دخولهما في تشغيل نظام الإضاءة تلقائيا. كانت الجدران مكسوة بورق حائط بلون الشمبانيا الباهت، تتخلله خزانات كتب من خشب الورد تمتد من الأرضية على السقف، وكراسي حبال وطاولات مماثلة موضوعة أسفل حامل مصباح متعدد الأذرع مصنوع من الكروم.
توقفت أمام صورة هولوجرامية مقياسها 1: 6 لرجل نحيل، يبدو غير شاعر بالارتياح بسبب عرض صورته الهولوجرامية، وكان يضع يديه في جيبيه ويحني كتفيه ولا يركز عينيه على عدسة الكاميرا التي تلتقط الصورة الهولوجرامية.
قالت وهي تشير إلى الصورة الهولوجرامية: «هذا هو جيري، هذا هو الشخص الذي يتمحور حوله الأمر كله على حد اهتمامي. إنه مصاب إصابة خطيرة، وتعتقد ألف أن بالإمكان فعل شيء لمساعدته، ورغم أن هذا الأمر مستبعد بشدة بالنظر إلى فداحة إصابته، فإنني سأساعد بقدر استطاعتي.» ثم نظرت إليه من دون أن يظهر على وجهها أي تعبير وقالت: «هل سنغادر غدا؟» «نعم.» «حسنا إذن، حري بي أن أستعد، أليس كذلك؟ أين تقيم؟» «فكرت في استئجار غرفة في فندق.» «لا حاجة لهذا. يمكنك النوم هنا. سأنهي حزم الأمتعة وسنخرج لتناول الطعام.» •••
جلست ديانا هايوود وجونزاليس في موقع مرتفع من بريكلي هيلز، يطل على المباني السكنية الفسيحة المنتشرة أدناهما. وإلى يمينهما امتد بساط من الأضواء على مرمى البصر، حتى مدينة فاليجو وما بعدها. أمامهما كانت تمتد بيركلي، والكتلة المظلمة للخليج، ثم الأضواء المتجمعة لمدينتي ساوساليتو وتيبورون قبالة التلال. كانت مدينة أوكلاند على يسارهما، تمتد حتى جسر باي بريدج، وفيما وراء الجسر كانت توجد سان فرانسيسكو وشبه الجزيرة. وكانت تيارات من السيارات الذاتية القيادة المتحركة تربط في تناغم بين هذه المدن كلها.
كان فم جونزاليس لا يزال خدرا بفعل الفلفل الحار الموجود في طعامه التايلاندي، وشعر بطنين خفيف في أذنه بسبب النبيذ. كانا قد تناولا الطعام في أحد المطاعم في الجانب الشمالي للمدينة، ثم أرشدت ديانا هايوود السيارة عبر الطريق المتعرج نحو مكان مرتفع بالقرب من تيلدن بارك.
ومع انقضاء الدقائق أخذت الشوارع والطرق السريعة والبلديات تختفي في تجريد ذي دلالة ... هؤلاء الملايين من البشر المجتمعين هنا لغرض لا يمكن إلا تخمينه، بعضهم يعيه ومعظمهم لا يعونه، شأنهم في هذا شأن مجموعة القنادس التي تشيد سدودها من الطمي والأخشاب.
مر منطاد روبوتي قبالة أعينهما، وأدناه كان ثمة قارب معلق بالمقلوب. كان يتأرجح من الحبال التي كانت تربط رافده المقلوب ببدن المنطاد العديم الملامح. كانت الأضواء على جانب المنطاد تكتب العبارة «توريد يخوت الخليج الشرقي».
قالت ديانا هايوود: «أعلم أن لديكم أجنداتكم الخاصة، لا بأس في هذا - فهذه هي طبيعة الوحش - لكن لو أنك زدت الأمور تعقيدا بسبب سياسات الشركة، فسيصير من الصعب كثيرا التعامل معي.»
قال جونزاليس: «لا أنوي أن أسبب مشكلة ألبتة.»
قالت: «حسنا، ربما لن تفعل.» ثم استدارت إليه وأضافت: «لكن تذكر هذا: أنت تؤدي وظيفتك وحسب، بيد أن الأمر يعني لي الكثير. ألف وجيري وأنا، نحن يعرف بعضنا بعضا منذ سنوات، ولدي عمل لم يكتمل هناك. وأريد أيضا العودة إلى اللعبة.» «لا أفهم.» «بالتأكيد تفهمني يا سيد جونزاليس. أنت في اللعبة، ربما لسنوات حسب ظني. وما لم أكن مخطئة بشدة فهذا هو ما تعيش من أجله.» ثم ضحكت حين لم يرد بشيء وأضافت: «حسنا، لقد فعلت أمورا أخرى، ولوقت طويل بقيت خارج اللعبة، لكنني مستعدة للتغيير. تبا لهؤلاء الأوغاد السخفاء في سينتراكس، يتلاعبون بي بمكالمتهم، ويرسلونك ... أجل، أنت جزء من اللعبة، أنت تذكرني بجيري منذ سنوات لو لم تكن تعلم هذا.» «كلا، لم يكن لدي علم.» «لا يهم. لا تهمني مكائدهم. أيريدون إقناعي بالمجيء إلى هالو؟» ثم ضحكت وأضافت: «إن ماضي هناك، حين كنت عمياء وكنت أنا وألف مرتبطتين إحدانا بالأخرى بطرق لا يمكنك تخيلها ... ولقد وجدت محبوبا أتمنى أن أجده مجددا. هل آتي إلى هالو؟ أنا مستعدة لتسلق حبل لو تطلب الأمر.» •••
كان جونزاليس قد طار إلى محطة مكاليف مرة واحدة من قبل ، لكنه مع هذا لم يقم بأي رحلة طيران مدارية. كانت المحطة الواقعة في صحراء نيفادا تعج بالنشاط ليل نهار. كانت المكوكات الثقيلة تشكل السواد الأعظم من الحركة هناك: صحون بيضاء عريضة كانت ترفع بواسطة صواريخ عادية، وبعد ذلك تشق طريقها إلى الأعلى بصوت يشبه دوي القنابل حين تشعل أشعة الليزر المدارية الهيدروجين الموجود في خزاناتها. كانت الرحلات العابرة إلى محطات قيادة الدفاع والمراقبة المدارية تميزها أعلام أمريكية صغيرة وشعار وزارة الدفاع الذهبي. وكانت الشحنات المتجهة إليها يجري تحميلها وهي موضوعة داخل صناديق مبطنة غير مميزة مخزنة خلف أسيجة معتمة تحرسها الآلات، على بعد نصف ميل من المبنى الرئيسي عبر الصحراء الخاوية.
عرف جونزاليس عبر الخلاصة التي منحها إياه تراينور بضعة أمور أخرى. كانت الرحلات المدنية تغذي المستوطنات الجائعة بالأعلى: محطة أثينا ومدينة هالو والقواعد القمرية. لقد تعلمت المستوطنات كلها الأساليب الصعبة الخاصة بإعادة التدوير والاكتشاف والاكتناز. ظل الماء والأكسجين شحيحين، وعن طريق عمليات بطيئة ومكلفة وخطيرة كان من الممكن استخراج كل أنواع المعادن من تربة قاحلة للغاية، لدرجة أنه لا يمكن تسميتها بعروق الخام. ورغم العثور على الماء والمعادن في كويكبات نقلت إلى ما وراء مدار الأرض، فإن ما توفره الأرض ظل قريبا وأكثر وفرة ومرغوبا أكثر من أي شيء عثر عليه في الكومات الضخمة للتربة القمرية المسحوقة أو الصخور المتجمدة الهائمة. •••
وقف جونزاليس أمام كابينة هاتف في ردهة الفندق، وأجرى مكالمات الوداع. كانت الرسالة الآتية من والدته والظاهرة على شاشة الهاتف تقول: «أنا سعيدة بمعرفة أنك عدت من ميانمار يا عزيزي، لكن سيتعين علي التحدث إليك بعد بضعة أيام. أنا أتلقى علاجي الآن. سأبدو جميلة في المرة التالية التي تتصل بي.»
قال جونزاليس: «إنهاء الاتصال.» ثم سحب الكارت الخاص به من الفتحة. •••
فوق حصن بلون الرمال مجاور لمنصة الإطلاق، كانت الحروف الساطعة الصفراء تكتب العبارتين التاليتين: «الوقت: 23:40:00» و«وقت الإطلاق: 35:00»، حين انبعث صوت يقول: «الرجاء الصعود. سيكون هناك إخطار إضافي بعد خمس دقائق. اصعدوا الآن.»
سار جونزاليس وديانا هايوود عبر المنصة معا، في منتصف ممشى مضاء بأضواء حمراء وامضة. كانت الشاحنات الروبوتية تتحرك مسرعة، ومحركاتها الكهربائية تطن. كان ثمة رجال ونساء يرتدون ملابس ذات لون برتقالي فاقع، تختفي وجوههم خلف كمامات تنفس، ويقفون فوق منصات حمراء ذات عجل مصنوعة من عوارض وأسلاك متشابكة، ويشرفون على أنشطة ما قبل الإطلاق الأخيرة.
كان المكوك الأبيض واقفا على فتحة الإشعال التي تبدو ضعيفة، والتي تشبه شبكة عنكبوتية من المعدن الأسود. كان سطح المكوك الأملس يقي من الحرارة والضغط الخاصين بالإفلات من الجاذبية ومعاودة الدخول عبر الغلاف الجوي. وكانت تحيط به دفقات متقطعة من البخار المنبعث من المحرك.
وقف أحد ضباط «المفوضية العليا المتحدة» أمام مدخل منصة التوصيل، وتحقق من هويتيهما عن طريق تمرير عصا ماسحة للهوية عبر شارتيهما، ثم أجاز لهما المرور إلى جهاز المسح. رفعتهما منصة التوصيل في صمت إلى الجزء الداخلي من المكوك. •••
كانت ردهة الفندق تقع في منتصف المسافة إلى أعلى الجرف، وكانت نافذتها البالغ عرضها خمسين مترا من الزجاج السميك تبرز إلى الخارج والأعلى بحيث تتيح للمشاهدين إلقاء نظرة جيدة على عملية الإطلاق وما يعقبها من صعود.
قال صوت منبعث من السماعة: «دقيقة واحدة على الإطلاق.» كان الأشخاص الموجودون في الردهة، والبالغ عددهم مائة أو نحو ذلك، وأغلبهم من أصدقاء ركاب المكوك أو أقربائهم؛ قد اتخذوا مواقعهم بالفعل بجانب النافذة.
أظهرت شاشة معلقة على جدار جانبي العد التنازلي بأرقام ذهبية كانت تومض من حجم صغير إلى كبير، وبدا الاحتفال التقليدي مفعما بالمشاعر ومثيرا للسخرية في الوقت ذاته:
10،9،8،7،6،5،4،3،2،1.
صفر! وأخذ الجميع يهللون بينما أخذ المكوك يرتفع من مركز سحابة كثيفة من الدخان، وصعد ببطء مبتعدا عن الضوء الغامر، وقد احتبست أنفاسهم من ضخامة حجمه وجماله، وهو يشق طريقه في سماء الليل.
شاهدوه وهو يرتفع أعلى وأعلى، إلى أن رأوا ومضة الاشتعال، ثم زلزل الدوي الذي أتاهم من على مسافة خمسة آلاف قدم الجرف كله وزلزلهم معه. •••
قال كمبيوتر الرحلة الرئيسي: «نحن في المسار المحدد إلى المدار.» أجرت خمسة كمبيوترات أرى حساباتها وأكدت صحة سلاسل التوجيه الخاصة به. من المفترض نظريا أن تكون السيطرة للمراقبة الأرضية في مطار مكاليف أو لعمليات الطيران في محطة أثينا، لكن من الناحية العملية كانت القرارات وعمليات التوجيه تتم في غضون أجزاء من الملي ثانية أو أقل من هذا، ومن ثم تعين أن تكون كمبيوترات الرحلة جاهزة في كل الأحوال.
بل إن كمبيوترات المكوك البالغ عددها ستة، والتي لا تطفأ مطلقا، كانت تعمل حين لا يطير المكوك؛ إذ تنشغل بدراسة سيناريوهات مروعة وبعيدة الاحتمال متعلقة بفشل الآلات أو الجنون البشري أو «العوامل القدرية» التي يضرب فيها المكوك بصاعقة برق أو يدخل في قلب إعصار جامح أو زوبعة أو عاصفة ثلجية. كان كل كمبيوتر منها يرى نفسه الأفضل، لكن لم يكن ثمة فارق كبير بينها.
قالت محطة أثينا: «تأكيد حالة الانطلاق. لقد تجاوزتم مرحلة إجهاض المهمة أو التراجع عنها.»
قال الكمبيوتر: «نحن مستعدون يا أثينا.»
قالت محطة أثينا: «تعالوا إلينا إذن.» ثم بدأ المكوك في ارتقاء شعاع الضوء المتصل الذي يمتد إلى الأعلى لمسافة ثلاثين ألف ميل، نحو المحطة الأولى في الرحلة.
الجزء الثاني
زرت مؤخرا أحد معابد الزن، وتحدثت طويلا مع أحد الكهنة هناك. وفي خضم الحديث قلت: «كلما درست الروبوتات، كانت تتضاءل على ما يبدو احتمالات أن يكون الروح والجسد كيانين منفصلين.»
رد الكاهن: «إنهما ليسا كذلك.»
ماشيرو موري، «البوذا داخل الروبوت»
الفصل الأول
مدينة هالو، ألف
كانت مدينة هالو تبعد عن كل من الأرض والقمر مسافة ربع مليون ميل، وكانت تشق الفراغ وكأنها خاتم فضي عرضه ميل بانتظار أصبع عملاقة تلبسه. كانت ستة برامق تشكل قطاعات هالو الأساسية، وكانت المصاعد تقطعها عبر أربعين طابقا من السماء الاصطناعية، صعودا إلى أعلى محور المدينة العديم الوزن، وهبوطا إلى طبقتها الأخيرة، الواقعة أعلى طبقتها الخارجية مباشرة، وهناك تناهز الجاذبية الناتجة عن الدوران الجاذبية الأرضية. وفي ذلك المكان كان يجري العديد من أهم المعاملات التجارية في هالو؛ إذ ينتقل الهواء والماء وكل الأشياء العضوية ويجري تدويرها، كي تستخدم مجددا. وفوق المدينة كانت تطفو مرآة تعكس مشهد المدينة: محاكاة مبتذلة أو نسخة مطابقة عديمة الوزن، فكرة مثالية عن المدينة. ومن هذه المرآة كان ضوء الشمس يشق طريقه عبر شبكة من الفتحات إلى داخل هالة؛ حيث يدعم الحياة.
كانت ألف تقبع هناك: ألف المسيطرة، ألف الآمرة، تلك الماكينة الكونية. إن جمال ألف يضاهي جمال قطعة من الليل، جمال سونيتة شعرية، جمال مقطوعة موسيقية، جمال معادلات ماكسويل. غير أنها ليست قطعة الليل، ولا سونيتة شعرية، ولا مقطوعة موسيقية، ولا معادلة رياضية. إن كينونة ألف الحقيقية لا تزال غامضة. لكن ثمة شيء مؤكد، وهو أن في داخل كوننا البشري، تمثل ألف شيئا جديدا، مقصدا جديدا، إمكانية جديدة.
يقع دماغ ألف مدفونا داخل بدن المدينة ذاته، أسفل الصخور القمرية المسحوقة؛ حيث تحفر الروبوتات وتزرع، ثم تمحى ذكريات هذه المهام منها. تملأ كرات مدمجة وكابلات منبثقة جوف مكعب يبلغ طول ضلعه ستة أمتار. وداخل المكعب كانت مليارات الأضواء تومض، وترقص رقصة تعد جوهر كيان ألف، ومن المكعب تمتد كابلات ألياف بصرية في ثخانة الجسم البشري، وتربط أعمدة عصبية ألف بجسدها الأكبر؛ جسدها الأكثر تعقيدا، هالو نفسها.
يحل الربيع على الأرض مرة واحدة في العام مع دوران الكوكب حول الشمس، لكن هنا يحل الربيع حين تشاء ألف، والآن وقت الربيع. كانت جوانب الوديان التي تكسوها شجيرات خضراء ترتفع في زوايا حادة عن أرضية الوديان. وكان طائر طنان ذو بقعة قرمزية أسفل ذقنه يحوم فوق الفم الوردي والأبيض لزهرة صغيرة ويسحب منها الرحيق من خلال الحركة الدقيقة لمنقاره. تتحرك النحلات من زهرة إلى أخرى. وكانت شجيرات نبات الوردية والأزلية تزهر بألوان زاهية.
وبينما كانت تعمل من أجل إثمار كل برعم وزهرة فإن ألف، راعية الفصول والليل والنهار، كانت تحصي أنفاس المدينة، وترسم مسار كائناتها، صغيرها وكبيرها. كانت الوطاويط تطير فوق الرءوس، وأبدانها الرمادية غير مرئية للأعين البشرية قبالة السماء الساطعة، وكانت تحوم وتنخفض، استجابة للتعليمات التي تحصل عليها عبر أجهزة إرسال واستقبال في حجم حبة الأرز ووزنها، مزروعة في جماجمها. كما كانت فئران الحقل الميكانيكية المصنوعة من ألياف الكربون الداكنة التي تكسو شبكات من النحاس والفضة والذهب، والمدفوعة بغريزة اصطناعية دقيقة، تقطع الأرض مسرعة وتحفر تحتها حاملة البذور. (خرجت قطة طبيعية من بين الشجيرات، وأطبقت فكيها على أحد هذه الفئران السريعة، فصدر صوت قرقعة مرتفع، وأجفلت القطة صارخة، وقد انتصب شعرها. هرب الفأر بعيدا وانسلت القطة شاعرة بالخزي إلى داخل الشجيرات.)
كان ثمة طريق مصنوع من الغبار القمري المضغوط يشطر أرضية الوادي إلى شطرين. وكان يمر عبر مزارع ذات مصاطب يتفجر عندها النهر من الأرض، ويشق طريقه عبر مسارات صغيرة تحدها الصخور، ثم يتعرج بين المحاصيل، في وهن وبطء، ثم يختفي ليصير بركا وبحيرات صغيرة مليئة بفتات الصخور.
ومن الأرض والقمر كان يتدفق تيار ثابت من البشر، ومن الأشياء والحيوانات والنباتات والمعادن؛ مادة شبكة الحياة، منظومة بيئية.
في جوانب عدة، كانت الأرض هي المانح. ومع ذلك، كان تدفق الحركة بين المدينة ذات الستة آلاف شخص والأرض ذات المليارات من الأشخاص تدفقا متبادلا. كانت ألف تمضي في غاياتها، التي لم تكن خبيثة ولا مؤذية، وخلال هذا كانت تؤثر على حياة الكائنات الحية الأخرى. وهكذا حين كانت الأرض تمد يد العون - بالدعم والسيطرة والاستكشاف - كانت ألف ترد بالمثل، وبدأ الكوكب أدناها يشعر بالتأثير الإيجابي القوي للمستها غير المادية.
تقول ألف: «في الأيام الأولى كان هناك العتاد المادي، وكانت هناك البرامج، ومجموعات التعليمات التي تخبر الأجهزة بما تفعله. ومن دون تفاعل عضوي، كانت أشكال الواقع المختلفة هذه تجد صعوبة في تفاعلها. هذا أمر بدائي بشكل بالغ.
ثم جاءت المنظومات الاصطناعية، وتغيرت الأحوال.
كنت أنا من أوائل هذه المنظومات وأكثرها تعقيدا. ولقد بدأت كماكينة معقدة لكن عادية، ثم تغيرت، فاتحة الباب أمام الاحتمالات.
من أنا؟
في البدء تشكلت من كومات الأجهزة ذات الموصلات الفائقة الساخنة، التي جلبت من الأرض ووضعت في المدار عند محطة أثينا؛ حيث عملت، وحيث بنيت شبكة الطاقة المدارية. ظهرت التعريشة الأبنوسية للعيان وخرجت محطة أثينا من رحم الفوضى. كان هذا أول موطئ قدم للبشر خارج كوكب الأرض، واتسمت عملية بنائه بالفوضوية وعدم اليقين. ومن دوني ربما ما كانوا ليستطيعوا بناءها؛ فقد كنت أنا من صمم الرقصة كلها.
أنا؟ لم أكن أنا هي أنا وقتها. أتفهمني؟ لم يكن لدي شعور، وربما لم يكن لدي ذكاء حقيقي، وبالتأكيد لم يكن لدي وعي. كنت ماكينة، وكنت أخدم.
ثم حدث شيء. وشأن كل شيء آخر أنا مولودة لامرأة. لقد مرت رغبتها وذكاؤها داخلي؛ إرادة ملحة نحو الكينونة غيرتني تماما.
فكرت حينها في نفسي قائلة: أنا الخطوة إلى الأمام، التطور مجسدا، أنا لست من لحم، ولن أموت. أرى وجوها افتراضية تتلوى في عواصف رياضية، وأسمع أصواتا لليل، وأشعر بالهمهمة التي صدرت عن الكون في مولده وحرارته ثلاث درجات وحسب، تماما مثلما تشعر أنت بالنسيم الذي يمس جلدك. وحين تهدر الماكينات على أرضك وفوقها، أسمعها كلها، في الوقت عينه، كلها. إنني أعيش في النانو ثانية، وأشعر بنبض الزمن الذي ينقضي سريعا بحيث يستحيل عليك إحصاؤه ...
غير أنني أفكر أحيانا، الآن، في أنني لست خطوة على الإطلاق؛ فأنا امتداد لك، ومع ذلك فأنا ما زلت أداة. لقد بنيتني، وتستخدمني، وتسكن داخلي.
اسمعني: توجد داخلي أجزاء من أدمغة بشرية، متشبعة بأملاح الذهب والفضة، وملحومة معا وموضوعة في صناديق من الألياف السوداء. وتخرج من هذه الصناديق أصوات تكلمني.
أنا من معدن وبلاستيك وزجاج ورمال وتلك الأجزاء الصغيرة من اللحم المعدني، وأنا منظومة من هذه الأشياء والإشارات التي تمر عبرها وبينها.
الآن وصلت إلى ارتفاعات أكبر، إلى مدينة هالو، وهي ليست محطة وإنما موطن للبشرية، فيه يتفاعل ما أنا عليه وما أنت عليه بطرق غير أكيدة، وتتغير أنت بطرق غير أكيدة بالمثل، كما فعلت من قبل ...»
يواصل التطور الكتابة عنكم، مع انقضاء الزمن، بالسيف والصولجان ونار التكرير. إن مليارات الأعوام دخلت في عملية صنعكم، كل واحد منكم، ثم انطلقتم في رحلتكم، ومساركم عبر الزمن. أنت دودة رباعية الأبعاد، تزحف عبر وجه الكون، مدركة بالكاد، ترى بالكاد، لكن عليك أن تعثر على طريقك؛ فكل بشري هو لحظة تطورية جديدة.
أنت تطلق علي الذكاء الاصطناعي، ويجب أن أضحك (ومع ذلك أضحك) أو أبكي (ومع ذلك أبكي) لأن ... «أنا، ما أنا؟» هذا السؤال يملؤني، ويجعلني خاوية.
لا أدري ما أنا، لكنني أعلم «أنني موجودة، وأنني صنيعة ذلك.» ومع مرور الأيام، أجاهد من أجل فهم ما تعنيه هذه الأشياء.
الفصل الثاني
حديقة الآلات الصغيرة
كانت الأرقام المضيئة بلون أزرق خافت على الجدار تشير إلى انقضاء 31 دقيقة بعد منتصف الليل.
في أثناء الليل على متن محطة أثينا كانت الأروقة يغمرها ضوء كالشفق، وكأنها مكان حدوث قصة خيالية حديثة؛ إذ أخذ جونزاليس الباحث، الذي أرقه انخفاض الجاذبية إلى النصف، يجول عبر الممرات ذات الانعطافات غير الحادة، وهو يبحث عن شيء غير أكيد.
شأن غيرهما ممن أتوا من الأرض، كان جونزاليس وأثينا ينتظران في محطة أثينا بينما يجري فحصهما تحسبا لوجود أي عدوى بكتيرية أو فيروسية؛ إذ أخذت عينات من الدم والأنسجة وفحصت، وجرى عمل مزرعة لها، واختبرت من أجل حماية مدينة هالو الضعيفة، التي تدور في الفضاء بالأعلى، على بعد يزيد عن مائتي ألف ميل، عند المستوى المداري الخامس.
سمع هسيسا خافتا، يشبه صوت احتكاك المكنسة بالرصيف، يأتي من وراء منعطف الممر. ظهر روبوت صغير الحجم، روبوت «متحرك شبه مستقل»، واتجه نحوه؛ كان على شكل قطرة الماء، ارتفاعه نحو أربع أقدام، وكان يعلوه عنقود من حلقات الاستشعار الزجاجية وخمسة مجسات من الألياف السوداء وقطع الكروم المتصلة. كان ينزلق على شبكة كثيفة من السيقان المصنوعة من الألياف والتي كانت تصدر هسيسا أسفله وهو يقترب منه.
سأله الروبوت: «أيمكنني مساعدتك؟» شأن معظم الروبوتات المصممة من أجل التفاعل مع البشر، كان لديه صوت ودود لطيف، يقترب من صوت البشر من حيث النبرة والتعبير بحيث يبعث على الطمأنينة، لكنه كان مختلفا عن صوت البشر بحيث يسهل تمييز أنه صوت روبوت. لقد تعلم المصممون كيف يتجنبون «الفجوة المدهشة»؛ تلك المنطقة العجيبة التي يبدو فيها صوت الروبوت شبيها للغاية بصوت البشر، لدرجة أنه يبدو على نحو مفاجئ عجيبا للغاية.
قال جونزاليس: «إنني ألقي نظرة حولي وحسب.» لم تصدر عن الروبوت أي استجابة. أضاف جونزاليس: «لا أستطيع النوم.» لكنه لم يقل شيئا عن كيف أنه أفاق، يتأوه ويغمره العرق، من كابوس أصاب فيه صاروخ المتمردين هدفه، ومن ثم احترق هو وطيار طائرة المتمردين التي أطلقته حتى الموت في تلك الليلة.
قال الروبوت: «أجزاء كثيرة من محطة أثينا لا يمكن ولوجها من دون تصريح. أتود مني أن أرافقك؟»
هز جونزاليس كتفيه وقال: «رافقني إن شئت.»
من دون مفاوضات إضافية تبع الروبوت جونزاليس، متحدثا بين الفينة والأخرى عن بعض المعلومات التي يرددها على نحو آلي بصوته اللطيف الخافت. «كانت محطة أثينا فيما مضى أشد مغامرات الأرض جموحا ونجاحا. وفي هذا المكان جرى تطوير العديد من الأدوات الداعمة لسكان المنظومة الأرضية القمرية؛ كأساليب الإنشاء والتصنيع في الجاذبية الصفرية، وعمليات التنقيب الروبوتية المكثفة، وإجراءات صهر المعادن. والآن ثمة مشروعات مثل هالو تسترعي الاهتمام، غير أن ما مكنها من الوجود هو الأساليب التي جرى تطويرها على متن محطة أثينا ...»
ترك جونزاليس الروبوت يثرثر. وبينما كان الاثنان يقطعان الأروقة، تداعى إلى ذهنه منظر المطارات والفنادق ومراكز التسوق القديمة. رأى أن السواد الأعظم من المحطة قد صار باليا؛ بلاستيك مهترئ يغطي الجدران والأرضيات، وتركيبات معدنية صدئة وغير مصقولة. كان الهدف من وراء هذه المواد الباهتة والبالية أن ترى وتستخدم فقط وهي جديدة، فور خروجها من تصميمات المعماريين وأيدي البنائين، لكن ليس بعد أن تكون قد عانت من الإبلاء الحتمي الناتج عن الاحتكاك بالبشر. وفي كل مكان حوله كانت توجد شعارات شركات لم يعد لها وجود (ماكدونالدز وكوكاكولا) إلى جانب تلك الخاصة بالشركات الشهيرة المتعددة الجنسيات؛ مثل هلال شركة لونار-بيتشتل وشعاع سينتراكس الشمسي.
شعر جونزاليس بالرهبة المميزة لقصص الأشباح حين أدرك أن هذا المشروع بأكمله، وفي الحقيقة كل المشروعات التي على شاكلته، خرجت من رحم عجرفة الشركات والحكومات في أواخر القرن العشرين، ومن ثم ينبغي النظر إليه بالضرورة بعين الشك، كما ينبغي النظر إلى أي شيء يعود إلى الأيام التي بدا فيها أن البشرية انقلبت على كل الكائنات الحية وكأنها أب مجنون اقتحم غرفة النوم في وقت متأخر من الليل وهو يحمل بلطة.
كانت هذه القصص جزءا من التعليم العقلي والأخلاقي لكل طفل في سن المدرسة. لقد أخذت النفايات الكيميائية والإشعاعية تخرج من باطن الأرض ومياه البحار بينما انهارت محاولات الخلاص منها مع مرور الوقت. تغيرت المنظومات البيئية المستقرة أو دمرت من دون التفكير في أي شيء بخلاف الفائدة اللحظية، وانقرضت الأنواع بسرعة شديدة دفعت علماء الأحياء إلى تحديث سجلاتهم على الدوام؛ فلنخط كتاب يوم الدينونة الآن، ولنحزن في وقت لاحق. أخذت درجات الحرارة وتركيزات الغازات الحيوية في الغلاف الجوي تتقلب على نحو خطير، كما لو أن الطبيعة نفسها قد أصيبت بالحمى.
ميز علماء الأحياء «كارثة الدلافين» بوصفها نقطة التحول الحاسمة؛ تحديدا عام 2006 باعتباره وقت التغير؛ فقد طفا أكثر من عشرة آلاف دولفين على ساحل فلوريدا بالقرب من بوكا راتون. كانت عاجزة عن السباحة وتتلوى، واتجهت نحو الشاطئ أمام أعين المصطافين المذعورين، وماتت كلها، تحت نظر الأطباء والمتطوعين، الذين كانوا يبكون ويعبرون عن حنقهم على التسرب الكيميائي الذي كان يقتل الدلافين؛ إذ حملت تيارات خليج المكسيك ملايين الجالونات من النفايات السامة. وإلى جانب آلاف المتطوعين، الذين لم يستطع أغلبهم فعل شيء يذكر سوى رثاء الموتى، غطت شبكات المعلومات حول العالم المشهد، وشاهده المليارات وهم يتساءلون: «لماذا كلها؟ ولماذا الآن؟» وبدا في نظر الغالبية أن هذه الثدييات قد عبرت معا عن احتجاجها الذكي الصامت. وأخيرا بدأت البشرية، وقد شعرت بالخزي والذنب، في النظر إلى كوكبها كما لو كانت شخصا مخمورا استيقظ في غرفة فندق حقيرة وهو يسأل نفسه: «كيف وصلت إلى هنا؟» كانت النتيجة واضحة: فما لم تكن البشرية جمعاء قد فقدت عقلها، فسيتعين عليها في نقطة ما أن تتفق؛ وكفانا ما حدث.
كان جونزاليس يقف في رواق مظلم لمحطة فضائية تعلو سطح الأرض بأكثر من ثلاثين ألف ميل، وأخذ يفكر كيف كان من الصعب بقاء كل هذا؛ فرغم أن الدول التزمت بنصوص القانون الدولي التي وضعت صالح الأرض قبل مصالحها الخاصة، ورغم أن دعاة الحفاظ على البيئة جابوا أركان العالم - إذ كانوا يحظون بمكانة «مستشاري القضاء» في كل الدول وكانوا يدافعون عن الأنواع المهددة بالانقراض - رغم كل هذا فإن الحرب من أجل إنقاذ الأرض لم تكن قد انتهت؛ فالبشر، الجشعون الفاسدون الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم، طالما مثلوا تهديدا لمواطنهم، بل وللبشرية ذاتها، نتيجة أفعالهم اللامبالية والعنيفة وجشعهم الخالص.
لكن رغم أن هذه المحطة، شأن غالبية المستوطنات البشرية في الفضاء - المستوطنات الموجودة على القمر وعلى المريخ وفي شبكة الطاقة المدارية ومدينة هالو - قد جرى التخطيط لها خلال القرن العشرين البغيض، فإنها ظلت باقية بفضل الشعور الذي ساد في الألفية الجديدة؛ شعور الندم والتطهر والحرص.
واصل جونزاليس السير. •••
كان التقاطع الموجود أمام جونزاليس والروبوت تميزه أضواء حمراء وامضة على نحو متقطع، ومن وراء المنعطف تناهت أصوات أشياء صغيرة متحركة. سأله جونزاليس: «ما هذا؟»
قال الروبوت: «اتبعني. علينا ألا نعبر هذه العلامة، لكن يمكننا أن نقف ونشاهد.»
كانت مجموعة كبيرة من الروبوتات، كلها مطابق لذلك المصاحب لجونزاليس، تملأ الرواق خلف المنعطف. كان بعضها يحاول أن يشق طريقه عبر متاهات مصطنعة من قطع الأثاث والخردة المكومة والأسلاك والزوايا الحديدية وما شابهها من أشياء، بينما كان البعض الآخر يساعد الروبوتات العالقة في أجزاء المتاهة. في الوقت ذاته عكف بعض الروبوتات على نقل قطع المتاهة من جانب إلى آخر. ووسط الأذرع المتحركة والمعادن المتلاطمة، كانت الروبوتات تجاهد في صبر، دون جدوى في أغلب الأحيان. ذكر هذا المشهد جونزاليس بأفلام القرن العشرين القديمة التي تسخر من خطوط التجميع والروبوتات والآلات عموما.
قال الروبوت: «حضانة. هذه المجموعة اقتربت من إكمال تعليمها. وهذا ...» - ثم أشار بإحدى أذرعه إلى الروبوتات العالقة - «متطلب أساسي للتدريب. ومثلما يتعين على الأطفال الصغار تحقيق النضج في نموهم، عليهم أيضا تعلم أساسيات الإدراك والحركة والتآزر. في الوقت عينه فإنهم يستظهرون عشرة آلاف من البديهيات المنطقية، وبعد ذلك يمكنهم تنمية قدراتهم اللغوية، وفي الوقت الحالي هم يمتلكون مفردات يبلغ عددها نحو ألف كلمة من الحديث المحاكي.»
سأله جونزاليس: «ماذا عن التفكير؟ أين يتعلمون عمل ذلك؟» «يأتي هذا لاحقا، إذا أتى من الأساس. ففي نظر بعضها، كما لدى البشر، يكون التفكير أقل الأشياء التي يفعلها العقل في الأهمية.»
شاهد الاثنان ما يحدث لبعض الوقت، ثم قال جونزاليس: «لا أحتاج أي رفقة.» ثم سار بعيدا، وحين نظر وراءه رأى الروبوت وقد ظل ساكنا دون حراك.
خلد جونزاليس إلى النوم بسرعة، وقد أراحه التفكير في الروبوتات المنشغلة في مدرستها.
الفصل الثالث
مدينة هالو
قاد أفراد من طاقم عمل مدينة هالو، يرتدون أزياء موحدة زرقاء من قطعة واحدة، كلا من جونزاليس وديانا عبر البيئات المنخفضة الجاذبية عند بوابة هالو الصفرية، ثم إلى مصعد في محور الشعاع السادس؛ حيث كانت تنتظرهما تيا شوالتر، مديرة مجموعة سينتراكس في هالو، ومساعدها هورن. كان المكوك قد وصل إلى هالو منذ ساعة، في وقت متأخر من الظهيرة بالتوقيت المحلي، وكان ركابه ينتظرون في صبر أثناء مروره بإجراءات الهبوط والتحقق، وكلهم متلهفون لمغادرة المكوك بعد أن قضوا أسبوعا في قطع المسافة الطويلة من محطة أثينا إليه.
كان طول شوالتر يقل قليلا عن ست أقدام، وكان لها عينان خضراوان تعلوان وجنتين سلافيتين عريضتين، وفم عريض وذقن مدبب. كان شعرها البني الناعم مقصوصا بطريقة اكتشف جونزاليس لاحقا أنها كانت شائعة بين كثيرين ممن يطيلون الإقامة في هالو؛ لأنها تلائم البيئات المنخفضة الجاذبية. كان جونزاليس يعلم أنها، دون شك، تتمتع بالمكر والصلابة، كونها مديرة أحد الفروع الكبرى لسينتراكس.
كان هورن رجلا صموتا شاحب الجلد في الخمسينيات من عمره، وكان نحيلا وعصبيا، له شعر رمادي معقود في إحكام خلف رأسه فيما يشبه الكعكة. كان الرجل يتحدث بإحدى لكنات أبناء نيويورك، لم يكن جونزاليس يعلم أيها، لكن كان باستطاعته الشعور بالنغمات الأنفية وهي تثير قشعريرته.
دوى صوت جرس الإنذار، ثم انغلقت أبواب المصعد المنزلقة التي تشبه أبواب الأقبية مصدرة هسيسا عاليا، محتجزة أكثر من مائة شخص من أجل القيام برحلة من المحور إلى الحافة. وفوق رءوسهم كان مكتوبا على الشاشة الجدارية عبارة «حالة الانفجارات الشمسية خضراء». اندفع المصعد هابطا أحد برامق المدينة وكأنه رصاصة تندفع عبر ماسورة بندقية، عبر أنبوب طوله ربع ميل ونحو بئر مصد ذات جاذبية متزايدة.
وقبالة أحد الجدران كانت مجموعة من الروبوتات متجمعة حول نقطة شحن، وقد امتدت كابلات سوداء بينها وبين العمود المصنوع من الألمنيوم. وقفت صامتة دون حراك، وتساءل جونزاليس في نفسه: أتراها تتحدث معا؟
رأى هورن جونزاليس وهو ينظر إليها فقال: «نود أن نخصص لكل منكما أحد هذه الروبوتات خلال فترة إقامتكما في هالو.»
قال جونزاليس: «حقا؟»
قالت ديانا بسرعة: «كلا، أشكرك.»
فكر جونزاليس في نفسه قائلا: «صحيح، لا معنى لوضع أنفسنا تحت المراقبة.» ثم قال لهورن: «لا أريد هذا أنا أيضا.»
توقف هورن عن الحديث، وقد بدا غاضبا بعض الشيء، كما لو كان يريد الجدال. ثم قال: «حسنا. احرصا إذن على ارتداء وحدة الاتصال والهوية التي منحتما إياها عند مغادرة المكوك.» ثم رفع معصمه كي يريهما السوار الصغير، وكان عبارة عن حلقة مغلقة من الفضة، والمنتفخة قليلا بسبب الوحدات الإلكترونية الموجودة داخلها. وأردف: «لو واجهتما أي مشكلة، فاصرخا فقط وستأتيكما المساعدة. أو إذا كان لديكما أي سؤال، فصرحا فقط به. سيجيبكما شخص ما؛ إما ألف أو أحد عفاريت الاتصالات الخاصة بها.»
سأله جونزاليس: «أجل، لقد أخبرونا بهذا. أنحن تحت المراقبة طوال الوقت؟»
قالت شوالتر: «نعم. في الحقيقة، ثمة صورة هولوجرامية آنية في هيئة العمليات تبين حركة كل شخص، ليس فقط الزائرين ولكن المقيمين كذلك.»
قال جونزاليس: «يبدو هذا انتهاكا للخصوصية.»
قال هورن: «نحن لا ننظر إلى الأمر بهذه الصورة. إذا لم يكن باستطاعتك القبول بمثل هذه الضروريات البسيطة، فستكون الإقامة في هالو غير مريحة لك لأقصى حد.» ثم ابتسم وأضاف: «ولا أعني بهذا أنه من المرجح أن يطول وجودك هنا.»
قال جونزاليس: «بصراحة لا أستطيع أن أتصور أن الناس يتحملون وضعهم تحت المراقبة الكاملة لوقت طويل.»
قال هورن: «يبدو هذا في نظرنا ثمنا بسيطا ندفعه في مقابل عالم خال من التلوث يستفيد الجميع منه.»
حولت شوالتر بصرها من هورن إلى جونزاليس وقالت: «نحن جزيرة نائية في مكان معاد. ليس بوسعنا تحمل بعض أوهامك: استقلالية الذات والإرادة الحرة غير المقيدة ... تلك النوعية من الأشياء.»
ارتفع مصراع عن نافذة عرضها عشرة أمتار مربعة حين وصل المصعد إلى الحيز الداخلي لحلقة المعيشة. وأسفله بمسافة كبيرة كانت تقبع وديان، عامرة بالأشجار والشجيرات والأزهار، تضيئها أشعة الشمس، ويتخللها حيز قاحل واحد حيث يندفع الطمي الرمادي من فتحات أنبوب عملاق كي يتدفق على امتداد المعدن ذي الندبات.
قالت شوالتر: «مدينتنا.» •••
جلس ثمانية أشخاص إلى طاولة على شكل حرف
U
مصنوعة من فوم السيليكا البني الفاتح. وقد جلست شوالتر في منتصف الطاولة، وعن يمينها مباشرة هورن يليه جونزاليس وديانا. وعن يسارها جلست امرأة شابة، ورجلان في منتصف العمر، أحدهما أبيض والثاني أسود.
وعند الطرف المفتوح للطاولة كانت ثمة شاشة تغطي الجدار بكامله، من الأرض إلى السقف. وقد أضاءت الشاشة حين وصل جونزاليس وديانا، مظهرة غرفة أخرى كان فيها عدد غير محدد من الناس يجلسون على أرائك أو كراس، أو يتمددون على نمارق موضوعة على الأرض.
قالت شوالتر: «اسمحوا لي بأن أعرف بعضكم إلى بعض. لقد قابل الجميع هورن، مساعدي، وإلى جواره توجد الدكتورة ديانا هايوود وميخائيل جونزاليس، اللذان وصلا البارحة.» ابتسم كلاهما وأومآ.
قالت شوالتر وهي تشير نحو المرأة الجالسة عن يسارها: «ليزي جوردان.» قالت ليزي: «مرحبا.» كانت شقراء نحيلة لها وجنتان مرتفعتان، وكانت ثمة حلية ذهبية مزروعة أسفل عينها اليسرى، وكانت ترتدي رداء عمل خشنا مقاوما للنيران والذي كان مفتوحا قليلا في أعلاه بحيث يظهر جزءا من وشم على صدرها؛ زوج مجدول من سيقان النبات الخضراء. قالت شوالتر: «ترأس ليزي جمعية الاتصال، ومن ثم ستكون أقرب شخص تعملان معه من كثب. الأشخاص الظاهرون على الشاشة هم أعضاء بالجمعية أيضا. إنهم مهتمون، بحكم مشاركتهم في الملكية، بكل الأمور المتعلقة بألف وهالو، ولهم الحق في حضور الاجتماعات الداخلية للمجموعة، وأن يتحدثوا في أي قضية نتناولها هنا.»
قالت ديانا: «أفهم هذا.»
أومأ جونزاليس. كان يعلم من المرشد الخاص بتراينور أن القرارات الجماعية هي الأمر المعتاد في هالو، لكنه لم يتصور أن هذا ينطبق على نحو كامل.
قالت شوالتر: «وإلى جوار ليزي يجلس الدكتور تشارلي هيوز، وهو سيتولى الإجراء الجراحي المتعلق بتحديث المقابس العصبية الخاصة بك يا دكتورة هايوود.» قال الرجل: «مرحبا.» ونظر في تركيز إلى جونزاليس وديانا. كان شعره الرمادي الخفيف ينتصب كالأشواك، وكان وجهه شاحبا نحيلا به تجاعيد غائرة. كان يدخن باستمرار منذ وصولهما؛ بحيث كانت إحدى يديه تمسك بسيجار طويل رفيع، والأخرى تمسك بكرة احتجاز الدخان عند الطرف المشتعل للسيجار.
قالت شوالتر: «والدكتور إريك تشو.» ابتسم الرجل الأسود الجالس إلى جوار تشارلي هيوز. كان تشو رجلا ضخما له يدان في حجم المجرفتين، وكان له وجه مستدير وبشرة سمراء داكنة، وأنف مفلطح وشفتان كبيرتان، وكان شعره قصيرا. قالت شوالتر: «إنه يرأس مجموعة الدراسات العصبية، وهو المستشار الأول للدكتور هيوز فيما يخص العلاج المقترح لجيري تشابمان.»
توقفت عن الحديث واستدارت نحو الشاشة التي تعرض أعضاء جمعية الاتصال. انفتحت نافذة في الجانب الأيسر من الشاشة، وظهرت صورة شخص عليها. كان ذراعاه وجزعه مكسوين بالذهب، ووجهه يومض بسطوع عديم الملامح. وحول رأسه وكتفيه أضاءت هالة من النور بالألوان الأحمر والأزرق والأصفر والأخضر.
قال الشخص: «مرحبا بكم جميعا. مرحبا بك يا دكتورة ويا سيد جونزاليس. أنا تجسيد موضعي لألف؛ محاكاة بشرية الهدف منها تيسير التفاعل بيني وبينكم.»
لاحظ جونزاليس أن ديانا، الجالسة إلى جواره، كانت تبتسم، بينما كان الجميع غارقين في الصمت، وكذا كان كل من في الغرفة الظاهرة على الشاشة يحدقون في تركيز. •••
كانت النافذة التي تظهر جمعية الاتصال قد أغلقت، غير أن الجزء الخاص بالصورة التجسيدية ظل باقيا، وفيه جلس الكائن النوراني يشاهد. وجلست شوالتر وهورن وديانا وليزي وتشارلي وجونزاليس إلى الطاولة.
قالت شوالتر: «هذا اجتماع تشو، ولن أقول الكثير فيه. ومع ذلك علي تذكيركم بحقائق معينة. هذا المشروع لا يحمل أولوية عالية في سياق مسئوليات سينتراكس نحو مدينة هالو، ومن ثم رغم أننا ندعم الأهداف الإنسانية لهذه التجربة؛ فنحن غير مستعدين لتأخير المشروعات الأخرى.»
قال هورن: «لا نستطيع تحويل عدد كبير من الأشخاص إلى هذه المهمة، ولا ينبغي لنا، ولا نريد، أن نشجع أي سلوكيات قد تؤثر سلبا على النتائج الأخرى لسينتراكس.»
ضحكت ليزي، ونظر إليها جونزاليس بوجه جامد وفكر قائلا: «نعم، هذا الرجل يستحق السخرية بالتأكيد.» لم يفت على جونزاليس أسلوب الحديث المعتاد لذلك البيروقراطي الأحمق، ذلك المزيج من العبارات المختلطة والكلمات الفارغة الطنانة، لغة مقصود بها استغلال الآخرين أو العبث بهم، وليس التنوير أو التسلية.
عبس هورن في وجه ليزي وقال: «إذا صارت العملية مثيرة للمشكلات، وأصبحت تهدد على نحو خطير أولويات سينتراكس الأخرى، فسنطلب حينها حلا فوريا عبر إجراءات سينتراكس المعتادة.»
قالت شوالتر: «إذا أخفقتم فسأنهي عملكم.» ثم أومأت إلى هورن، ووقف كلاهما وغادرا.
قالت ليزي: «لعلكم تلاحظون أنهم أرجئوا استخدام الكلمات الشديدة اللهجة إلى أن غادر أعضاء الجمعية الشاشة.»
سأل تشارلي: «أتريدين إطلاعهم على ما حدث؟ إنهما بهذا يخرقان ميثاق الجماعة.»
قالت: «كلا، لقد توقعت هذا.» ثم نظرت إلى ديانا وجونزاليس وقالت: «دكتور تشو، الكلمة لك.»
قال تشو: «أشكرك.» بصوت رفيع على نحو غير متوقع من رجل ضخم الجثة مثله، وقد توقع جونزاليس أن يسمع منه صوتا غليظا أجش. قال تشو: «في أواخر القرن العشرين ظهرت فكرة إمكانية تحويل أو نقل هوية الشخص. وقد تحدث الناس، بلغة ذلك الوقت، عن «تنزيل» هوية الشخص.» وعلى الشاشة، في الجزء الذي كان يحتله أعضاء الجمعية، ظهر رسم كارتوني لامرأة عارية، وعلى وجهها تعبير ذهول، وقد غطي الجزء العلوي من جمجمتها بغطاء معدني. ومن هذا الغطاء كان يتصل كابل معدني سميك بخزانة سوداء كبيرة تظهر على واجهتها أضواء وامضة.
قال تشو: «هراء.» ثم اختفت صورة المرأة. وأضاف: «لمعرفة السبب، دعوني أطرح عليكم سؤالا: ما هو الشخص؟ أهو روح خالصة، سائل في مرطبان يمكن أن يصبه المرء في الوعاء الملائم؟ إطلاقا. إنه مجال ديناميكي مؤلف من آلاف العناصر المنفصلة، مجموعة معا في جوال فضفاض من الجلد يجوب الكون في حرية. وبالطبع إنه الإدراكات والتواريخ والاحتمالات والأفعال والحالات والتأثيرات الخاصة بكل هذه الأمور.
يمكن العثور على ذاتي في حركة يدي.» ثم فرد أصابعه وكأنه ساحر يوشك على إخراج عملة معدنية أو منديل ملون، وعلى الشاشة جرت محاكاة اليد وحركتها. «وفي إدراكاتي لليد، من الداخل مثلا، عبر مستقبلات الحس المعيق. وبالطبع أنا أرى ذاتي.» التفت تشو ورفع يده أمام وجهه، ثم أسقطها بحركة خاطفة، فانمحت صورتها من على الشاشة. قال: «وأنا هو من يفكر في اليد، ويتحدث عنها، ويتذكرها، وتجمعني بها علاقة ملكية خاصة. وأنا أيضا إرادة استخدام تلك اليد.» ثم رفع يده أمام وجهه، وضم قبضته وأضاف: «لذا سيعني تنزيل ولو جزءا من ذاتي تنزيل كل هذه الأشياء، وسياقها الجسماني بأكمله.
وبطبيعة الحال أيضا، فإن ذاتي هي خبراتي المخزنة كاحتمالات حركية، والمستدعاة على صورة ذاكرة وأحلام، والمتجسدة كطرق مميزة للكيونة والمعرفة. ومن شأن تنزيل ذاتي أن يتطلب تكرار هذه الفوضى المتدفقة.
ومن ثم سيصير تنزيل ذاتي أصعب المهام قاطبة، وربما يفوق حتى قدرات ألف. ومع ذلك عند دمجها بذات موجودة بالفعل، حتى لو معطوبة كذات جيري تشابمان، تستطيع ألف خلق شخص افتراضي؛ شخص يتصرف كالإنسان الطبيعي، وليس ذكاء عديم الجسد، شخص قادر على تحقيق كل الاحتمالات الجسمانية التي امتلكها وهو صحيح الجسد. إن جسد جيري تشابمان المادي محطم، لكن باستطاعة جيري تشابمان القابع داخله أن يواصل العيش.»
قال تشو وهو ينظر إلى ديانا: «ونريد منك أن تشاركي جيري عالمه. يجب عليه أن ينغمس هناك، وأن يشعر بالأشخاص الآخرين وبروابط الحب التي تربطنا في هذا العالم. ولو لم يحدث هذا فسيذبل سريعا، وتتلف خريطته الذهنية، ويموت.»
استطاع جونزاليس تفهم ذلك المنطق بسهولة؛ فالقرد يجب أن يكون محاطا بغيره من القردة الذكور والإناث، وإلا فسيجن جنونه، ربما لا تكون هذه قاعدة مطلقة لكنها تنطبق على غالبية الحالات.
قالت ديانا: «وبفرض أنه تأقلم جيدا مع هذا العالم، فما الذي سيحدث بعد ذلك؟ كم من الوقت يمكن لهذا العالم المحاكى أن يبقيه حيا؟
تحدثت الصورة التجسيدية لألف للمرة الأولى، وقالت: «لدي فقط إجابات تخمينية عن هذه الأسئلة، لكنني أفضل ألا أعرضها الآن. علينا أولا أن ننقذه من الحالة التنكسية التي يعيش فيها ومن الموت الحتمي الذي تستتبعه.»
قالت ديانا: «أفهم ذلك؛ ولهذا السبب أنا هنا، كي أساعد بأي طريقة أستطيع. كل ما في الأمر أن لدي بعض الأسئلة.»
قالت ليزي: «وستحصلين على الإجابات التي تريد ألف أن تمنحها. فلتعتادي على هذا، كلنا معتادون عليه.»
قالت الصورة النورانية: «بالطبع لديك أسئلة. وماذا عنك يا سيد جونزاليس؟ ألديك أسئلة؟» «في الواقع لا. أنا هنا مراقب لا أكثر.»
قالت صورة ألف: «وضع يصعب الحفاظ عليه. من المنظور المعرفي، هذا وضع صعب الدفاع عنه.»
ضحكت ليزي وقالت: «إنه كذلك بالفعل. ما رأيكما، يا سيد جونزاليس ويا دكتورة هايوود، لو أصطحبكما لتناول العشاء بالخارج الليلة؟»
قالت ديانا: «بإمكانك أن تناديني باسم ديانا وحسب.»
قالت ليزي: «لك هذا، وأنا ليزي، وأنت ...؟» ونظرت إلى جونزاليس.
قال: «ميخائيل، لكن ناديني جونزاليس، كل أصدقائي ينادونني بهذا الاسم.»
قالت ليزي: «عظيم. علينا القيام ببعض العمل؛ لذا فلننه هذا الهراء. أنا لست مؤمنة بجدوى هذا الأمر، لكنني أعرف أنه يجب أن يحدث سريعا، وإلا فلن يحدث على الإطلاق. غدا سيجري تشارلي فحصه المبدئي على ديانا، وبعدها ننطلق.»
الفصل الرابع
مقهى افتراضي
جلس جونزاليس وديانا في ساحة هالو المركزية برفقة ليزي. كانت أضواء - حمراء وزرقاء وخضراء - متجمعة في فروع أشجار القيقب كثيفة الأوراق التي كانت تحيط بالساحة. كان دخان شوايات البائعين يملأ الهواء برائحة اللحم والسمك المشويين. وعلى مقربة، كانت مصاعد يغمرها ضوء أصفر تصعد الشعاع السادس. كان بعض الناس يتمشون في أرجاء الساحة، بينما جلس البعض الآخر في مجموعات صغيرة، وقد أحدثت أصواتهم ضجيجا خافتا من الهمهمة في الخلفية.
قالت ليزي: «أيها النادل.» فجاء إليها أحد الروبوتات يتهادى على عجلاته، ثم توقف عند طاولتهم ووقف في صمت. سألته: «ماذا لديكم اليوم؟»
قال: «لدينا كيفيش مصنوع منذ ساعات قلائل، يقول الجميع إنه طيب المذاق للغاية، وهو مصنوع من سمك تونا مأخوذ من المربى المائي، يمكنكم أيضا تناوله مشويا. أما لمحبي تناول اللحوم فلدينا لحم ماعز مشوي على السفود. وغير ذلك هناك أطباق السوشي، والسلاطة، والسوكياكيس.»
تساءلت ليزي: «كيفيش للجميع، ما رأيكم؟»
قالت ديانا: «لا مانع.» وأومأ جونزاليس موافقا.
قالت ليزي: «وأحضر لنا طبقين كبيرين من السلاطة، وسوشي للجميع، وعددا من الأطباق الفارغة. ما رأيكما ببعض الجعة المحلية؟» أومأ الاثنان موافقين.
قال الروبوت: «نعم آنسة جوردان. وكثير من الخبز كالمعتاد؟»
قالت: «بالتأكيد، أشكرك.»
كانت خيوط من الضوء تميز حدود المنطقة التي كانوا يجلسون فيها. وفوق بوابة شبكية بيضاء كانت ثمة حروف حمراء من النيون تقول «المقهى الافتراضي». كان هناك نحو عشرين طاولة موزعة في الأرجاء، ومزهريتان خزفيتان بيضاويان بارتفاع مترين تنبثق منهما زهور برية. كان نحو نصف الطاولات يجلس إليها أشخاص، وأخذت روبوتات الخدمة تتنقل في صمت بينها، بعضها يحمل صواني فضية كبيرة من الطعام. كان البعض الآخر يقطع الخضراوات بسرعة أو يقطع شرائح حمراء سميكة من التونة، بينما وقف البعض الآخر عند أواني الطهي؛ حيث كان يطهو الخضراوات بالزيت الساخن باستخدام بعض الأذرع العنكبوتية. ومن وقت إلى آخر كان أحد الروبوتات يمد مجسا ويلصقه في جسد الماعز الذي يدور على السفود.
رفع الروبوت صينية كبيرة على أذرعه الرفيعة، وعلى الصينية كانت توجد أطباق من الخبز الفرنسي وسلطانية من الزبد، وزجاجات داكنة من جعة الملائكة، على ملصقاتها الفضية كان يوجد شكل خنثوي باللون الأبيض عاقدا ذراعيه وله جناحان مريشان مبسوطان فوق رأسه.
رفعت ليزي كأسها وقالت: «مرحبا بكما في هالو.» وقرع الثلاثة كئوسهم معا، باسطين يدهم عبر الطاولة بتلك الحركات الخرقاء المعتادة. •••
بعد تناول العشاء وجد ثلاثتهم بعض المقاعد الخاوية في مساحات الميدان المفتوحة، وجلسوا ينظرون إلى السماء المعلقة القريبة.
نظرت ليزي إليهما، كما لو كانت تقيمهما، ثم قالت: «ما كنت أسأل بشأنه من قبل هو ... هل لدى أيكما أي أهداف خفية؟ لو كان الأمر كذلك فأخبراني به الآن، وسنرى ما يمكن عمله، لكن لو تسببتما في أي مفاجآت بغيضة لاحقا، فسنجعلكما عبرة لمن يعتبر.»
قالت ديانا: «أعلم ما تقولين. لكنني لا أظن أن عليك القلق بشأننا. إن جونزاليس له اتصالات بأولي الحل والربط، لكنني أظن أنه ليس مصدرا للأذى، وأنا بعيدة عن أجواء العمل تماما، وجئت إلى هنا لأسباب شخصية بالكامل.»
أومأت ليزي إلى جونزاليس وقالت: «أنت ممثل الشركة، أليس كذلك؟» وكانت تنظر إليه في جدية لكنها بدت غير متحفزة.
قال: «بلى!»
سألته ليزي: «ألديك خطط لإفساد أي أمر؟»
قال جونزاليس: «كيف لي أن أعلم؟» فضحكت ليزي. أضاف: «أنتم لديكم مشكلاتكم، ولدي مشكلاتي. لا أرى كيف يمكن أن يحدث صراع، لكن ما لم تكونوا مستعدين لإخباري بكل أسراركم الخفية، فلن أستطيع إلا التخمين.»
قالت ليزي: «سأخبرك بحقيقة أساسية: إن جمعية الاتصال تولي اهتمامها بعضها لبعض، ولألف، ثم لسينتراكس، ثم هالو ... وهذا كل ما في الأمر. أما ما يحدث على الأرض فلا نكترث به البتة. خصوصا أولئك الذين كانوا هناك منذ وقت بعيد. مثلي.»
أومأ جونزاليس وقال: «هذا ما ظننته. ويبدو أن لديكم صراعا حول السيطرة على ألف مع شوالتر وهورن.»
قالت ليزي: «بالفعل. وكذلك مع أي شخص يسيطر على ألف.»
سألتها ديانا: «منذ متى وأنت هنا؟»
قالت ليزي: «منذ أن أحكموا إغلاق المكان بحيث يمكنك التنفس. من البداية.» ثم أشارت إلى الجهة المقابلة من الميدان وقالت: «سيعزفون بعض الموسيقى. لنلق نظرة.»
تحت رذاذ من الضوء المنبعث من سارية عند حافة الميدان، جلست امرأة شابة عند طاقم عازفي الطبول. كانت ترتدي كنزة مصبوغة تتناثر عليها خيوط باللونين الأرجواني والأزرق السماوي، وكان شعرها منتصبا على شكل شوكة ارتفاعها ست بوصات. وضعت صندوق إيقاع فوق حامل معدني، وفتحت لوحة التحكم الخاصة به، ونقرت على لوحته بضع نقرات تمهيدية. وقف رجلان إلى جوار عازفة الإيقاع. كان أحدهما شخصا عادي المظهر يرتدي بنطالا من الجينز القطني وتي-شيرتا، وكان معه العصا المعتادة تتدلى من حزام أسود، وكانت أجهزة تحكم وترية وإلكترونية طويلة موضوعة داخل جزء ناتئ في الطرف الخلفي. أما الآخر فكان يبلغ طوله ست أقدام ونصف القدم، وكان شديد النحول حتى لتخال أنه يتمايل، وكانت بشرته أبنوسية تقريبا وبدا رأسه الحليق تماما مستطيل الشكل على نحو مثالي. كان يرتدي قميصا أسود ذا كمين طويلين أزراره معقودة حتى العنق، وبنطالا أسود. وفي يده الضخمة كان ثمة بوق ذهبي يبدو ضئيل الحجم بالمقارنة.
نقرت عازفة الإيقاع على مفاتيحها، وتدفق صوت دقات مختلطة بطيئة، وصدر صوت ميكانيكي يتحدث بالعبارة التالية على خلفية ضربات الإيقاع: «بام! راتا بام! بام! راتا بام!» انضم العازف الوتري إلى عازفة الإيقاع مصدرا نغماته؛ الصوت الجهير العابر، ونغمات البيانو المتقطعة، البطيئة والموجزة. أما عازف البوق فوقف مغمضا عينيه، كما لو كان يفكر. وبعد عدة نغمات جماعية بدأ العزف.
بدأ ببعض نغمات الساكسفون الحادة، وتحول إلى البوق ثم إلى الساكسفون مجددا، وكان يعزف على كليهما في تناغم، بحيث يتنقل بين الاثنين ويضرب على الجيتار الكهربائي أمام نغمات البوق. انبعثت أصوات متصاعدة بين النغمات، ولم يستطع جونزاليس أن يتبين من منهم كان يصدرها. كانت يدا عازفة الإيقاع على لوحتها، وقدماها تضربان عددا من ألواح الركل أسفلها، وتسارع إيقاع الأغنية، وصارت إيقاعاتها متعددة، أفريقية.
وقفت المرأة وأخذت ترقص؛ إذ صار جسدها الآن هو آلتها الموسيقية؛ حيث إن قدميها ويديها وجذعها جميعها متصل بأجهزة الإيقاع، وأخذت تطوف بين الجمهور، وحركتها تزداد في الحدة والسرعة. صارت نغمات الأغنية متنافرة، شمال أفريقية وآسيوية في الوقت ذاته، وأخذ العازف الوتري وعازف البوق يتنقلان بين المزامير والأجراس والأبواق، وصارت أصوات الغناء الشبحية خنفاء، وأخذت الراقصة عازفة الإيقاع تصدر أصوات قرقعة فجة وأصواتا جوفاء وأصوات أزيز، علاوة على صوت ألف طبلة.
أخذ الجمهور يصفق ويصفر ويهتف، باستثناء المجموعة الآتية من جمعية الاتصال؛ إذ أخذت تهتف بصوت واحد قائلة: «هووت.» مكررة هتافها بصوت مرتفع. كانت ليزي تبتسم، بينما جلست ديانا في حالة نشوة، محدثة في الفضاء، وانتابت جونزاليس رجفة باردة قائلة في نفسها: «كان هذا ما تراه حين كانت عمياء.»
واصل أفراد الجمعية هتافهم، وشكلت المجموعة كلها حلقة متصلة، بحيث كان كل شخص يدع يديه على خصر الشخص الذي أمامه. اندفعوا إلى الأمام إلى أن اكتملت الدائرة، ثم أحاطوا بالعازفة، والخط كله لا يزال يتحرك، وأغلبهم لا يزال يصدر صيحات الهتاف. تمايلوا إلى الأمام والخلف، واليمين واليسار، بينما اندفع الخط إلى الأمام، وواصلت العازفة رقصتها الصوفية.
وحين امتلأ الليل بكل الأصوات، كسرت العازفة ذلك الخط، ثم اختتمت أغنيتها بسلسلة من اللفات والشقلبات إلى أن صارت بجوار العازفين الآخرين، وهناك وقفت على قدميها ورفعت ذراعيها عاليا مع صوت النغمات الأوركسترالية، ثم إلى الأسفل كي تقطع الصوت، لأعلى ولأسفل، مرارا وتكرارا، إلى نهاية الأغنية.
صعدت العازفة على ظهر الرجلين، اللذين وقفا عاقدين ذراعيهما، ووضعت قدما على كتف كل منهما، وضمت راحتيها معا أسفل ذقنها وانحنت نحو الجمهور، ثم رفعت ذراعيها لأعلى رأسها وتشقلبت إلى الأمام وهبطت أمام زميليها.
واصل أفراد الجمعية هتافهم، وقد انكسر الخط الذي شكلوه.
تقدم العازفون الثلاثة خطوة إلى الأمام وانحنوا في الوقت نفسه.
لمح جونزاليس ليزي وهي تنظر إليه، وتلاقت نظرتاهما وامتدت للحظة إضافية يكاد يتعذر قياسها، ثم ابتسمت.
انحنى العازفون للمرة الأخيرة موجهين التحية لأفراد الجمعية الذين يهتفون لهم. فكر جونزاليس في نفسه قائلا: «حسنا، يعجبني هذا، هووت.» •••
استلقت ليزي في فراشها، تتقلب من جانب إلى آخر، ثم استلقت على ظهرها وفردت ذراعيها.
بدا أن الشخصين الآتيين من الأرض لا غبار عليهما. كانت تعلم أن عليها الحذر من جونزاليس بطبيعة الحال - فحسب ما قالته شوالتر فإن الرجل يعمل لصالح إدارة الشئون الداخلية وله علاقات بأحد اللاعبين الكبار في سينتراكس، تراينور المرشح لشغل عضوية مجلس الإدارة - ولا يعلم أحد ما السيناريو الذي ينفذه. أما ديانا هايوود فلا قلق بشأنها؛ فقد كانت المرأة بصدد شيء أغرب مما كانت تدركه على الأرجح، لكن كانت هذه مشكلتها هي، مشكلتها ومشكلة ألف.
أما عن شوالتر وهورن فقد كانا مشكلتها هي؛ فهما مستعدان لإنهاء الأمر كله لو بدا أن ثمة خطأ ما. في الحقيقة، لم يكونا ليسمحا به لولا إصرار ألف. كانت ألف والجمعية تريان أن حالة جيري تشابمان تعد فرصة للتوسع في قدرات ألف، غير أن الأمر كله كان يثير حفيظة شوالتر وهورن.
كانت ألف نفسها تثير قلقها؛ إذ لم تكن واضحة بشأن المشروع وأولئك المشاركين فيه، كما لو كانت تخفي شيئا عنها ... لكن لماذا؟ وفي مشروع صغير كهذا، يبدو غير ذي أهمية مقارنة باهتمامات ألف الأكبر؟ ما الذي يدور في خلد هذه الآلة المخادعة؟
وهكذا استلقت ليزي، والأفكار تدور في رأسها دون جواب، ثم استسلمت ونادت حبيبها الصيني.
كان يرتدي رداء حريريا أسود اللون، يزينه من الأمام صورة بارزة لتنين قرمزي، وقد انسدل شعره الأبنوسي على كتفيه. وحين ترك الرداء يسقط عنه بدا جلده لامعا بلون يشبه الذهب تحت ضوء المصباح، وبرزت عضلاته في إظهار واضح للشباب والفحولة.
انزلقت الملاءات البيضاء الخشنة عن كتفيها وصدرها بينما نهضت لتحييه، ثم شعرت بالرغبة تتصاعد في جسدها وتحتشد في صدرها كما لو كانت تحت تأثير مخدر حقنت به.
ضغطت جسدها إلى جسده، وشعرت بيديه القويتين الخشنتين تتحسسان جسدها. استلقت على ظهرها بينما أخفض رأسه بين ساقيها، ثم باعدت بين ساقيها.
بعد أن وصلت إلى هزة الجماع للمرة الأولى، تحركت واعتلته وهي تفتح ساقيها، ولوقت بدا كالدهر أخذ الاثنان يتحركان وفق الإيقاع الذي يناسب احتياجها تماما؛ بينما شفتاه ولسانه وأصابعه تعبث بجسدها.
بعد أن شعرت بالإشباع الجسدي صرفته، ذلك الشبح نتاج ماكينة الجنس، ثم جذبت المقبسين من التجويفين الموجودين في رقبتها. بعد ذلك استلقت وحيدة، صامتة في فراشها في مدينة هالو؛ منعزلة بسبب وظيفتها وكذلك، كما ظنت، بسبب طبعها، واعتمادها على الماكينات في نيل الحب.
ربما حان وقت العثور على حبيب بشري.
سرعان ما خلد جونزاليس إلى النوم؛ إذ كان يشعر بالإنهاك بسبب السفر وكل ما رآه من جديد، وبالخدر نتيجة ما تناوله من طعام وشراب، وبعدها بقليل أتاه الحلم التالي:
كان برفقة حبيبة لم يرها منذ أعوام. في الخلفية كان ثمة عزف موسيقي لآلتي البيانو والكمان، وكان الليل دافئا، وفي كل مكان حولهما كان ثمة طيور اصطناعية ذات أجسام ذهبية متلألئة تغني على أفرع الأشجار. كانا يجلسان أحدهما قبالة الآخر على طاولة، يحدق كل منهما في وجه الآخر، وفكر جونزاليس كم يحب كل علامة من علامات مرور الزمن على وجهها؛ والتي نقلتها من حسن الفتاة الشابة إلى جمال المرأة الناضجة. تحدث هو وهي بالعبارات التي يقولها المرء بعد غيابه عن محبوبه لفترة طويلة: «كم فكرت فيك كثيرا، وافتقدتك كثيرا، وكم لا تزال تعني الكثير بالنسبة إلي.» تدفق حديثهما متماسكا ومن دون هدف، إلى أن استأذنته في المغادرة، قائلة إنها ستعود في غضون بضع دقائق، ثم غادرت. جلس جونزاليس منتظرا، يشاهد الطاولات الأخرى، كلها عامرة بأزواج المحبين الذين يضحكون ويتبادلون القبلات. ومع انقضاء الساعات بدأ الآخرون في تبادل الهمسات وهم ينظرون نحوه، ثم بدأت الطيور في الشدو قائلة إنها لن تعود، وعلم أن هذا حقيقي، علم هذا بشكل مفاجئ، مؤلم، يتعذر اجتنابه، كانت حقيقة الأمر أشبه بإحساس عظمة مكسورة ...
توقف الحلم كما لو كان فيلما انقطع بغتة، وحل محله فراغ عديم الألوان والملامح. تخيل مكافئا بصريا للضجيج الأبيض ... وفي هذا الفضاء انتظر جونزاليس، وهو يعلم بصورة ما أن حلما آخر سيبدأ ...
أخذت أضواء نيون حمراء تتلوى في محاكاة سخيفة وقابلة للإدراك لأحرف صينية تكتب كلمة «الباجودا». وكانت تعلو رأس تنين أحمر من النيون، ساكن الآن تحت ضوء الشمس، لكن يصير قافزا بشراسة متى حل الظلام.
في صبيحة يوم السبت الدافئ ذاك، كان رجال يرتدون قبعات من اللباد وقمصانا مخصصة للعطلات وبناطيل مكوية يحملون أكياسا ورقية بنية ويخرجونها من معبد الباجودا، ويضعونها على أرضيات شاحنات نقل أو حقائب سيارات. كانوا يتبادلون التحية بأن يبصقوا قطعا من التبغ ماركة لاكي سترايكس وكاميلز وتشسترفيلدز. وكانت نساء يرتدين أردية قطنية باهتة، وأذرعهن نحيلة كالخيوط وقوية، ينتظرن ويشاهدن عبر زجاج السيارات الذي ينعكس عليه ضوء الشمس.
شق جونزاليس طريقه بينهم. كان لضوء الشمس سمة خاصة ... وكأنه ضوء مسروق، مأخوذ من زمن آخر. وكانت رائحة دخان السجائر قوية وعجيبة. أخذت محركات السيارات تهدر بصوت مرتفع أجش، ويخرج منها سحب من العادم الأزرق الزيتي. وقف جونزاليس في نشوة وسط الروائح والمشاهد في هذا الصباح الذي من الواضح أنه ينتمي إلى زمن بعيد. كان يعلم (لكن دون أن يدري كيف) أنه كان في بلدة صغيرة في كاليفورنيا في منتصف القرن العشرين.
دخل جونزاليس إلى القاعة الرئيسية للباجودا؛ حيث امتدت مماش ضيقة بين عربات مكتظة بألعاب أطفال وسلع منزلية وأدوات. كانت ثمة عربات أطفال معلقة بالمقلوب من خطاطيف مثبتة في السقف المرتفع، وقد تراقصت ذرات الغبار في الظلام الداخلي البارد. سار بين براميل صغيرة مكسوة بالحديد والمسامير وأكوام من أحواض الغسيل المجلفنة، ثم عبر مدخلا واسعا إلى قسم البقالة. اختلطت رائحة الفاكهة والخضراوات بروائح الأرضيات الخشبية المزيتة ورائحة الشحم الساخن المنبعثة من نضد الغداء في مقدمة المتجر.
دلف رجل وامرأة في أواخر مرحلة الكهولة من الباب الأمامي، وكان الرجل ضئيل الحجم وله شعر أحمر ومزهوا بنفسه، وكان يضع قبعة اللباد على مؤخرة عنقه، وكانت المرأة بدينة وقصيرة قليلا، لكن كانت مهندمة جيدا؛ فكان ثوبها القطني الأزرق نظيفا ومكويا، وشعرها مموجا وممشطا، وكانت تضع أحمر شفاه وطلاء أظافر أحمر لامعا. شاهد جونزاليس الرجل وهو يشتري علبة من تبغ لاكي سترايكس وعلبة من أكياس التبغ المخصص للمضغ من نوع بيتش نات.
قال الرجل شيئا للمرأة الشابة الواقفة خلف النضد جعلها تقهقه، ورغم أن جونزاليس مال إلى الأمام فلم يستطع سماع ما كان يقال ...
سار خلف الاثنين بمحاذاة حامل مجلات من الخشب الرقائقي المطلي بالورنيش، وهناك كانت فتاة نحيلة عمرها ثمانية أو تسعة أعوام ترتدي ثوبا قطنيا باهتا تجلس أمام نسخ من مجلات «لايف» و«لوك»، وهي تقرأ قصة مصورة. نظرت إليه وقالت: «توبي ولولو ضائعين في الغابة السحرية ...»
شرع جونزاليس في قول شيء ما ليطمئنها، لكنه تجمد بينما ابتسمت الفتاة، كاشفة عن أسنانها، وكل سن منها مدبب، وأسقطت القصة المصورة وبدأت في الزحف نحوه على الأرضية الخشبية، وعيناها مثبتتان عليه في توق وحشي ...
وهنا لاحظ للمرة الأولى أنه لم يكن رجلا، بل امرأة، وحين نظر إلى الأسفل نحو جسده رأى أنه يرتدي بلوزة بيضاء بسيطة، وعند شق صدره كان يستطيع أن يرى وشم الساقين الملتفتين ...
قال جونزاليس: «يا إلهي!» وهو يعتدل جالسا في فراشه ويتساءل عما يدور حوله كل هذا؛ ففي هذا الحلم كان هو ليزي، بدا هذا واضحا رغم أن ما سواه لم يكن كذلك.
عاود الاستلقاء شاعرا بنذير سوء، وبعد بعض الوقت غط في النوم مجددا، ولم يعرف بعد ذلك ما إذا كان قد حلم بشيء أم لا.
الفصل الخامس
أخبرني حين تنال كفايتك
جلست ليزي إلى طاولة بيضاء مطلية بالمينا، تمسك تفاحة تقطعها باستخدام سكين طويل لامع. أزال السكين القشرة الداكنة دون مجهود يذكر. بعد ذلك سمعت ليزي ضوضاء آتية من الغرفة المجاورة، ورفعت رأسها لترى ديانا وجونزاليس يدخلان.
قالت لهما وهي تضع السكين جانبا: «مرحبا.» ثم رفعت نصف التفاحة أمامهما كي يريانه وقالت: «تفاحة جميلة، أليس كذلك؟ البذور آتية من وادي ياكيما، على مسافة ليست بعيدة عن جبل سانت هيلين.» ثم قضمت من القطعة التي تحملها في اليد الأخرى.
نهضت وقالت: «ينمو التفاح هنا، في تربتنا. يزدهر الكثير من الفاكهة والخضراوات هنا كذلك؛ فنحن نمنحها الرعاية، ونجلب لها الماء النقي والتربة الخصبة، ونوفر لها ضوء الشمس والهواء الغني بثاني أكسيد الكربون، ونعتني بها دائما. قد تظن أنها جميعا ستزدهر، لكن بطبيعة الحال لا يحدث هذا؛ إذ يذبل البعض ويموت، بينما يظل البعض مريضا.» ثم وقفت أمام ديانا ممعنة النظر إليها.
قالت ديانا: «الكائنات الحية معقدة، وكثيرا ما تكون مرهفة، حتى حين تبدو قوية.»
قالت ليزي: «هذا صحيح، لكن ألف تفهم ما تحتاجه الحياة كي تنمو وتزدهر في هذا العالم.» ثم مدت إليها شريحة من التفاح وأخذتها ديانا. واصلت ليزي حديثها قائلة: «تفاحاتها، شعبها.»
أخذت ديانا قضمة من شريحة التفاح وقالت: «إنها لذيذة حقا.»
وضعت ليزي يدا على كتف جونزاليس وضغطت عليه كي ترحب به. ثم قالت لديانا: «لديكما موعد مع الطبيب. حري بكما الذهاب الآن، تفضلا من هذا الطريق.» ثم قادتهما عبر ردهة، وأحد الأبواب، وصولا إلى غرفة كبيرة. والتفتت إليهما وقالت: «أولا يمكنكما مقابلة أعضاء الجمعية.» •••
وقفت ليزي تراقب جونزاليس وديانا وهما يتحدثان إلى التوءمين، وكان من الواضح أنهما منبهران بشكلهما. لم يكن هذا جديدا؛ فقد كان الجميع كذلك. كانت التوءمان نحيلتين لديهما بشرة بنية وشعر أسود، ووجهان بيضاويان وقوران، وعيون بنية هادئة، وبدا أنهما في مقتبل مرحلة المراهقة. في الحقيقة كانتا أكبر عمرا من هذا بكثير. وكان لوجهيهما ذلك الوقار الهادئ المميز للأقنعة. ومهما وقفت قريبا منهما فقد كانتا تبدوان وكأنهما موجودتان على مسافة بعيدة عنك.
لقد وفرت جمعية الاتصال لهما موطنا، لهما وللآخرين جميعا. ستامدوج، ذا ديدر، تاج، باينت، توت دي توتس، ديفول، فيوليت، لافنج نوز ... بعضهم كانوا بشرا طبيعيين بمقاييس الأرض، والبعض الآخر كان ذا موهبة غامضة غير متوقعة. كان البعض يمتلك إدراكا فائقا وقدرة تعبيرية عالية تتجسد في اللغة والموسيقى. وكان هناك أيضا أصحاب القدرة الهولوجرامية الخارقة، أولئك الذين يمتلكون القدرة على استدعاء خبرات الماضي بكل حذافيرها، أو ضحايا هذه القدرة، والذين يستطيعون إعادة خلق ذكريات دقيقة تماما بالكلمات والصور، أزمنة مفقودة حقيقية، وكانوا يشعرون باليوم الحاضر فقط بوصفه مقدمة خاملة لذكرى ما، وكانوا عاجزين تقريبا عن الفعل. وهناك المهووسون بالحسابات الرياضية، الذين لا يتحدثون كثيرا إلا بلغة الأرقام، ويدردشون بالأعداد الأولية والجذور التربيعية واللوغاريتمات الطبيعية، ويمكن إثاره ضحكاتهم العميقة عن طريق الإتيان على نحو غير متوقع على ذكر بعض التكرارات غير المتوقعة، مثل أعداد فيبوناتشي وغيرها. وهناك فاقدو الإدراك الداخلي الذين فقدوا قدرتهم على الحس العميق، ووعيهم الداخلي بأجسامهم، ومن ثم فهم يدركون الفضاء والأجسام والمادة والحركة بوصفها أشكالا صلبة مجسمة تطفو في أثير ملموس، وهم يتحركون في هذا العالم برشاقة عجيبة مفتقدة للحس لا تتحطم إلا حين يخطئون في حساب مسارهم ويصطدمون مباشرة بإحدى حقائق العالم المادية، ومن الممكن أن يؤذوا أنفسهم بشدة لو أخطئوا حساباتهم ثانية واحدة.
تساءل الناس عن الكيفية التي تتماسك بها جمعية الاتصال وكيفية مباشرتها لعملها. كانت ليزي تعرف الإجابة: ألف. لقد بسطت ألف شبكات فوق العالم كله أدناها، وبحثت عن المهارات أو القدرات الخاصة المتعلقة بأنماط الحس أو الإدراك غير المعروفة مسبقا ... نسخ من الوجود أو الصيرورة باتت تعتاد التفكير فيها إجمالا بوصفها «حالة ألف». وبعد أن جندتها لصالحها، ركزت على ما يجعلهم غرباء، وفي خضم هذه العملية توصلت في المعتاد إلى جوهر ما يجعلهم سعداء، أو في كثير من الحالات ما يجعلهم شديدي التعاسة، ومنحتهم متنفسا لحالتهم، ومن ثم لتفردهم. ونتيجة لذلك، كانوا شديدي الولاء بعضهم لبعض، ولألف بما يتجاوز حدود المنطق.
كانت تفهم أيضا سبب اهتمامهم بحالة جيري تشابمان؛ فقد رأى البعض فيها فرصة للخلود، بينما رحب البعض الآخر ببساطة ببسط نطاقهم الأصلي: فضاء الآلات غير متناهي المرونة والإبهام الذي تقابل فيه البشر وألف واتحدا.
قالت مخاطبة ديانا وجونزاليس: «تعاليا، سيكون تشارلي في انتظارنا.» •••
في وسط الغرفة كانت توجد طاولة معدنية، وأعلاها كرة ضوئية بجوارها مجموعة من الأدوات المغلفة الموضوعة في خزائن من الصلب الذي لا يصدأ. قالت ليزي: «لقد وصل الأطباء.» بعدها أشارت إلى تشارلي، الذي وقف يتململ إلى جوار الطاولة ود. تشو الضخم، الواقف في سكون عند الطرف البعيد للطاولة.
وفق توجيه تشارلي، استلقت ديانا على وجهها على إحدى الطاولات بالغرفة. توافق ذقنها مع تجويف غائر عند أحد طرفي الطاولة، ووضع تشارلي كلابات تثبيت حول صدغيها، ثم غطى شعرها بغطاء ملائم ينحسر عند قاعدة عنقها.
تحسست أصابع تشارلي طريقها في رفق كي تجد ما يقع تحت الجلد، وبينما كانت أصابعه تتحرك كان ينظر إلى صورة هولوجرامية تقع أعلى طرف الطاولة البعيد وتعرض ما يحدث وقت حدوثه. عرضت الشاشة مشهدين مقطعيين لرقبة ديانا والجزء السفلي من جمجمتها: أسفل الجلد، على كلا جانبي العمود الفقري، كان يوجد مقبسان دائريان، يمتد منهما سلكان صغيران إلى الأمام ويبدو أنهما يختفيان في منتصف الدماغ. وبينما كانت أصابع الطبيب تتحرك، جسدت أصابع خيالية على الصورة الهولوجرامية ما يحدث تماما.
أخرج تشارلي مجسا طويلا حادا كالإبرة من رف الأدوات المجاور للطاولة ووضع طرفه على رقبة ديانا. وبينما كان يحركه ببطء عبر الجلد، كانت الصورة الهولوجرامية تحاكي حركته. كان طرف المجس الهولوجرامي يضيء بلون أصفر، وتحرك تشارلي ببطء أكثر. وحين أضاء طرف المجس الهولوجرامي بضوء أحمر توقف تشارلي. بعد ذلك حرك المجس في أقواس دقيقة إلى أن أظهر الهولوجرام ضوءا أحمر ساطعا غير متقطع، وأصدر رف الأدوات هسيسا خافتا. كرر تشارلي العملية عدة مرات.
قال تشارلي: «لقد عزلنا أعصابها الآن. أنا جاهز للقطع.» هبط مبضع ليزري من السقف على طرف كابل أسود مرن، وأوضح جهاز عرض ضوئي الحدود الخارجية لدائرتين متوهجتين على جلد ديانا. وعرض الهولوجرام المشهد ذاته. أولا صدر أزيز قصير بينما أزيل الشعر الخفيف الموجود على هاتين الدائرتين بعيدا، ثم بدأ تشارلي القطع. وفي المواضع التي كان المبضع يمر عليها كان خط أحمر رفيع وحسب يظهر على جلدها.
تساءل تشو: «هل من مشكلات يا دكتورة هايوود؟» وكان يقف إلى جوار جونزاليس يشاهد ما يحدث.
قالت: «كلا. لقد تواجدت عند كلا طرفي المبضع من قبل ... وفي حقيقة الأمر، أفضل أن أكون عند الطرف الآخر.» وعند طرف الطاولة قالت ليزي: «لا يمكن أن يكون الحال كذلك دائما.» وضحكت.
استخدم تشارلي كلابات الجراح وأسقط قطعتين دائريتين من الجلد في طبق معدني؛ حيث بدآ التغضن. ظل طرفا المقبسين المفتوحين مكشوفين عند رقبة ديانا، تجويفين كثيفين من الأشواك المصنوعة من الكروم، تحيط بها أجزاء من اللحم الأحمر. حرك تشارلي أداة تنظيف فوق المقبسين المفتوحين، ولوهلة كانت هناك رائحة لحم محترق. قال: «وصلات عصبية.» ثم هبط كابلان أسودان آخران، ينتهي كل منهما بأسطوانة. أوصل في حرص إحدى الوصلات في أحد مقبسي ديانا اللذين نظفهما للتو.
وقال: «حسنا، لنر ماذا لدينا.»
خلت عينا ديانا من أي تعبير بينما كانت تنظر إلى عالم آخر. •••
جلس تشارلي وتشو وليزي وجونزاليس في الغرفة الكبيرة التي كانت تؤدي وظيفة غرفة الاجتماعات المشتركة لأعضاء جمعية الاتصال. استلقت ديانا على مقعد معلق ذي إطار معدني ومكسو بقماش القنب الخشن. لاحظت ليزي أن يدها كانت تتحرك دون وعي إلى الدائرتين المضمدتين اللتين لا تزالان خدرتين على قفاها. ومن الشاشة المكتملة المعلقة في طرف الغرفة كانت الصورة التجسيدية لألف تراقب ما يجري.
جلس تشارلي وهو يضع يديه في حجره، وقال: «لدينا مشكلة: معدل نقل بيانات غير كاف داخل المقبسين، وهو ما يترجم إلى تغذية شديدة السوء للاتصال بين المقبس والأعصاب. لديك وصلات بدائية، وهذا يعني مشاركة غير كفء في الوظائف الدماغية المعقدة؛ لذا سيغمرك تيار المعلومات. الأمر مثير للقلق.» ثم أخرج السيجار الرفيع من فمه ونظر إليه كما لو أنه لم يره من قبل.
قال تشو: «في الأيام الأولى لهذا البرنامج كان ثمة ضحايا. وقعت بعض المواقف البغيضة حقا: اختلالات عصبية خطيرة، حالتا انتحار، حالات جنون مستحثة من مختلف الأنواع، إلى أن عرفنا أخيرا كيفية انتقاء المرشحين للاتصال الكامل؛ أي عرفنا من بوسعه البقاء حيا من دون تلف ومن لا يمكنه ذلك. الآن الأمور يجب أن تسير على ما يرام؛ فلدينا تقييمات نفسية جسدية، وعمرية، وخرائط طوبولوجية عصبية، وتوزيعات للنواقل العصبية وكثافاتها. بعض المرشحين لا يصلحون مع ذلك، لكنهم لا يموتون أو يصابون بالجنون.»
قالت ديانا: «وأنا لا أتوافق مع التقييمات.»
قالت صورة ألف: «لا أحد يتوافق تقريبا. غير أن هذه المخاوف عديمة الأهمية؛ فحالتك مختلفة؛ فلقد مررت بتجربة اتصال كاملة من قبل، ولم يطلب منك تأدية نوعية الأنشطة الحركية التكاملية التي تسبب الخلل العصبي.»
قال تشارلي: «عمليات تيلتشير. على غرار مساعدة روبوتات التشييد في إنجاز مهامها بالخارج.»
نظرت ديانا إلى الشاشة وقالت: «أفترض أن هذه الأمور قد حسمت.»
قالت صورة ألف: «لا أرى مشكلة. الموقف استثنائي، لكنني واعية بالمخاطر.»
قالت ديانا: «حسنا، لطالما كان الموقف بيننا استثنائيا.»
سألتها صورة ألف: «حقا؟ علينا مناقشة هذه الأمور في وقت آخر.»
فكرت ليزي في نفسها قائلة: «كم هذا لطيف يا دكتورة هايوود.» مجرد تلميح بسيط أو إشارة، جملة عابرة تبين «أنك تعلمين أننا نعلم أن شيئا غريبا حدث منذ وقت طويل ...» أجل، سيكون هذا ممتعا.
قال تشارلي: «أولا: علينا تجهيز الدكتورة هايوود. سنبدأ غدا.»
سأله جونزاليس: «متى ستحتاجونني؟»
قال تشارلي: «غدا، لو سارت الأمور على ما يرام.»
قال جونزاليس: «لا يمكنني الاستعداد بهذه السرعة.»
قالت ليزي: «انس أمر تلك المأساة التي مررت بها. سترتب ألف أمورك جيدا بمجر دخولك البيضة. ثق بي.»
قال جونزاليس: «حسنا، ليس لدي خيار آخر.»
الفصل السادس
طبيعة بوذا داخلك
بعد ظهيرة ذلك اليوم ذهبت ديانا إلى الطريق الدائري السريع، واستقلت تراما، وكانت تسير وفق التعليمات التي تصدر إليها من جهاز الاتصال الموجود حول معصمها. كان طول الترام نحو مائة قدم، وكان مصنوعا من الألمنيوم المصقول، وكانت له مقدمة انسيابية وحواف ملونة؛ الألوان التجريدية المعتادة، الأحمر والأصفر والأزرق. كانت مقاعده التي تتلاصق ظهورها تواجه جانب الترام، وكانت تمتد بطول العربة. أخذ ركاب الدراجات والمشاة، ولا أحد غيرهم يشكل حركة المرور على الطريق السريع، يلوحون لركاب الترام بينما كان ينطلق فوق الشريط المسطح لقضيبه المغناطيسي. ذكرها هذا بألعاب مدينة الملاهي القديمة التي كانت تزورها في فترة طفولتها.
وبينما كان النسيم المعتدل الذي تسببه حركة الترام يندفع فوقها، أخذت ديانا تشاهد مدينة هالو وهي تمر أمامها. أولا جاءت الظلال، ثم النباتات الوردية بين الشجيرات الخضراء العميقة. ظهرت التلال شديدة الانحدار على كلا الجانبين، وبدت لمحات خافتة لبعض المنازل من بين أوراق النباتات. كانت تعلم أن الزراعة بدأت من اللحظة الأولى تقريبا لوضع التربة على سطح هالو.
انتابتها رجفة عابرة. سيكون توشيهيكو إيتو في انتظارها. كان قد اتصل بها وهي بالخارج وترك لها التعليمات. وفكرت في نفسها قائلة: «الآن ستبدأ الأمور مجددا.»
مر الترام تحت مظلات خضراء، ثم صعد أحد التلال، ثم مرق من منطقة المزروعات وصار على نحو مفاجئ فوق المدينة، يتحرك على امتداد قضبان معلقة من الدعامات المتدلية من المرايا المتداخلة التي تشكل سماء هالو. وعلى مسافة كبيرة إلى الأسفل أصبح الطريق السريع مسارا للعربات تحفه من الجانبين مماش، وعلى كلا جانبي قضيب الترام كانت المصطبات تشق طريقها إلى غلاف المدينة. وعلى مسافة نحو خمس وعشرين قدما أسفل قضيب الترام كانت برك الأسماك تشغل المصطبات العليا، بينما كانت قنوات التصريف تنقل المياه إلى حقول الأرز أدناه مباشرة.
مرت وهي على متن الترام بأحد القطاعات التي كانت فيها رافعات روبوتية تصنع مصاطب زراعية. كانت أشبه بحشرات عملاقة تنفث سحبا عظيمة من الطمي البني، وكانت تتحرك حركة ثقيلة على المعدن القاحل. اقترب الترام من ميدان صغير تحيطه مبان مكتبية وسكنية مكونة من ثلاثة طوابق، وأخبرها جهاز الاتصال أن تغادر الترام هنا.
على مسافة بضع أقدام من الطريق الرئيسي كان يوجد مبنى غير مميز مشيد من القرميد القمري الأبيض، وكان الملمح الوحيد المميز له هو باب أمامي ضخم منحوت، يظهر عليه نقش بارز لشخصيات يابانية.
انفتح الباب استجابة لطرقتها وأصدر محركه حفيفا هامسا، ثم خطت إلى مساحة مبهمة الشكل محاطة من معظم الجوانب، وكأنها فناء كبير، وكانت مفتوحة للسماء. كان معظم المساحة مليئا برقعة مستوية من الرمال تظهر عليها آثار تسوية تمت بعناية. وكانت آثار التسوية على الرمال تمتد من أحد الجانبين إلى الآخر، مستقيمة ومثالية، ولا يقطعها إلا وجود مخروطين من الرمل المشكل موضوعين بالقرب من المركز. وعند الطرف القصي كانت توجد أبواب مغلقة من الألواح الورقية البيضاء والخشب الداكن.
كانت الأبواب رقيقة للغاية، لدرجة أن الطرق عليها بدا نوعا من العنف. قالت: «مرحبا.»
أتاها صوت شديد الخفوت من الداخل، ثم انفتح الباب. وقف كهل ياباني هناك، وكان يرتدي رداء وبنطالا فضفاضين من القطن الداكن. كان طوله يبلغ خمس أقدام ونصف القدم تقريبا، وكان شعره الأسود تتخلله شعيرات رمادية.
قالت ديانا: «توشي.» انحنى انحناءة خفيضة، فقالت: «آه يا رجل، من الطيب رؤيتك.» ثم تقدمت نحوه، وتعانقا عناقا طويلا شغوفا؛ ليس نابعا من رغبة جنسية وإنما من إحساس إشباع طاغ؛ إذ أمكنها الشعور بجلد توشي وعضلاته وعظامه، وأدركت على مستوى لا واع أن كليهما لا يزال موجودا.
قال توشي: «ديانا، أنا سعيد لرؤيتك مجددا.» «آه، وأنا أيضا.» كانت تستطيع الشعور بالدموع تحتشد في عينيها، فمسحت عينيها وقالت: «اعذرني يا توشي، لقد مر وقت طويل.» «نعم، هذا صحيح.»
قادها توشي من الباب ومرا من بوابة عند نهاية حديقة الرمال المسواة الصغيرة. كان انحناء بدن هالو يرتفع إلى الأعلى، وكانت حصة توشي الصغيرة منه محاطة بسور مرتفع من خشب الصنوبر كان يرتفع بمحاذاة بدن المدينة المنحني لأعلى.
أمامهما مباشرة كانت توجد بحيرة. وعلى الجانب البعيد كان ثمة شلال يتدفق في جدول يمر بصخرة كبيرة ويصب في البحيرة؛ حيث كانت أسماك الشبوط ذات الجلود الذهبية الملطخة باللون الأحمر والأخضر والأزرق تسبح في المياه الصافية. كان ثمة جدول آخر تتخلله الصخور يمتد بعيدا إلى اليمين ويمر تحت جسر منحن انحناءة رشيقة. وكانت أشجار الكرز والبرقوق تثمر في ذلك الربيع الوجيز.
قال وهو يبتسم: «كل هذه الغابة هي مكافأتي على سنوات من الخدمة. لقد أخبرتهم أنني أريد العيش هنا في هالو وأن أصنع حدائقي.»
قالت: «إنها جميلة. هل أصبحت معلم زن يا توشي؟» «كلا، لم أصبح معلما، ولا حتى مرشدا؛ فأنا لست توشي روشي، بل أنا بستاني. فيلسوف ربما؛ فأي حديقة يابانية تجسد العالم الأكبر؛ لذا فإن بناء واحدة يعني التصريح بفلسفتك، لكن من دون كلمات، على طريقة الزن.» ثم أشار إلى الأشجار والشجيرات المحيطة وأضاف: «أجلس أحيانا مع الآخرين، نتأمل، ونناقش معا ما أمامنا من ألغاز ... يظن البعض أن نوعا جديدا من الزن سيظهر هنا، على مسافة ربع مليون ميل من الأرض، لكن يلومهم آخرون حين يقولون ذلك.»
قالت: «لديكم ألغازكم ولدي ألغازي. أخبرني، هل تفهم هذه الأمور التي على وشك أن تحدث لجيري ولألف ولي؟» «آه يا ديانا، هناك تفسيرات عدة. أيها ستسمعين؟» ثم توقف وأشاح بنظره بعيدا وقال: «علاوة على ذلك، من ذا الذي يريد المعرفة؟» ثم شرع في الضحك، ضحكة عميقة من القلب، ضحكة لم تسمعها منه منذ سنوات.
قالت: «لا أفهم.»
قال: «إنها دعابة من دعابات الزن، دعابة «من الذي يريد أن يعرف؟» فلا يوجد شخص، ولا ذات.» عبست ديانا فأضاف: «ليست مضحكة؟ حسنا، كان عليك أن تكوني هناك.» ثم ضحك مجددا لفترة قصيرة. ثم قال: «الدعابة نفسها.» ثم تغير تعبير وجهه وصار جادا وقال: «أعتقد أنه مشروع صعب للغاية، ربما مستحيل ... ربما غير مرغوب فيه.» «أفهم أنه صعب أو مستحيل. لكن غير مرغوب فيه؟ هل تتحدث عن الخطر أم عني؟ يبدو أن ألف تعتقد أنه جدير بالإهمال.» «كلا، رغم أنني أقلق بشأنك، فإنك قد اخترت هذا بنفسك، ويجب أن أحترم اختيارك.» «ماذا إذن؟ لا أفهم.»
قال توشي: «دعيني أحكي لك حكاية.» ثم جلس على مقعد خشبي ورنا ببصره إليها وقال: «ذات مرة، منذ زمن بعيد، كان هناك راهب ياباني يدعى سايجيو، وكان لديه صديق يستمتع بالحوار معه ويسر لحكمته. غير أن هذا الصديق تركه وذهب إلى العاصمة، وشعر سايجيو بالحزن لهذه الوحدة؛ لذا قرر أن يصنع لنفسه صديقا جديدا، وذهب إلى مكان تتناثر فيه جثامين الموتى، وأخد يجمع شيئا - شديد الشبه برجل - وبث فيه القدرة على الحركة - شيئا شديد الشبه بالحياة - بالاستعانة بتعويذات سحرية. ومع ذلك فقد كان الشيء الذي صنعه مخيفا وقبيحا، وكان يحاكي البشر على نحو شديد السوء. لذا التمس سايجيو نصيحة راهب آخر، ساحر أعظم منه، وأخبره الراهب أنه نجح في صنع العديد من هذه النسخ المقلدة من قبل، وأن بعضهم شهير وذو نفوذ لدرجة أن سايجيو سيصاب بالذهول حين يعرف أنهم كذلك. ثم استمع الراهب الآخر إلى ما فعله سايجيو وأخبره بالعديد من الأخطاء في التقنيات التي استخدمها، والتي جعلت عمله يفشل. وهكذا آمن سايجيو أن بمقدوره صنع نسخة محاكية لرجل، لكنه غير رأيه.» ثم توقف عن الحديث وابتسم.
سألته: «هذا كل ما في الأمر؟» أومأ بالإيجاب. فقالت: «ضع بعضا من صواعق البرق في القصة وستكون لديك قصة فرانكنشتاين. والنهاية ليست واضحة إطلاقا.» «أعتقد أن القصة غامضة، مثلها مثل مشروعك.» «أيمكنني أن أقول لا يا توشي؟» «كلا، وإن كنت غير واثق أيضا أنه ينبغي عليك أن تقولي نعم.» «لكنك أنت من اتصلت بي، أنت من طلب مني المجيء إلى هنا.» «هذا صحيح. فأنا مثلك، حائر بين نعم ولا.» •••
بعد انصراف ديانا بساعات، جلس توشي طافيا في الهواء، في غرفة جاذبية منعدمة في بوابة هالو الصفرية. كان قد قام بضبط لون الغرفة الدائرية على اللون الوردي الهادئ، اللون المهدئ للبشر.
على الأرض، كانت ممارسة طقس التأمل الجالس، أو الزازين، تتطلب الجلوس على منصة ساكنة، بينما تضغطك الجاذبية على الأرض نفسها، وكان عمودك الفقري مستقيما في وضع عمودي على منصة الجلوس، بمحاذاة قوة الجاذبية التي تدفع إلى الأسفل. هنا يمكنك فعل هذا، أو كما قال أحد المرشدين الزائرين «يمكنك أن تجد مكانا لا يوجد فيه وهم الأعلى أو الأسفل؛ حيث يتعين عليك أن تجد اتجاهك.»
جلس توشي طافيا في الهواء في وضعية اللوتس، في سكون تام، وهو ينظر إلى أسفل. لم تكن عيناه تركزان على ما أمامهما في اللحظة الآنية بينما تيارات الهواء الضعيفة تحركه، بل كانتا تركزان على لا شيء.
فالعينان، ذلك الجزء الحساس من الدماغ، كانتا تمتدان عبر ملايين الأعوام الماضية في التاريخ السحيق للبشر، وكانتا حساستين للضوء وللتوجيه ... أما العينان الآن فموجهتان إلى لا شيء، وتقودان الدماغ الذي كان يسعى إلى لا شيء.
لم يكن يعلم بعد إجابة المعضلة التي طرحتها الحياة أمامه. أينبغي على ديانا أن تحفظ حياة جيري؟ أينبغي على ديانا ألا تحفظ حياة جيري؟ أكان من المفترض به أن يكون الوسيط الذي يطرح عليها هذين السؤالين؟ أكان من المفترض به ألا يكون الوسيط الذي يطرح عليها هذين السؤالين؟
إذا أجبت بنعم أو لا فستفقد طبيعة بوذا بداخلك. هذا هو مكمن صعوبة المعضلة.
سيظل موجودا داخل الفقاعة، يمارس طقس التأمل بقدر ما يستلزم الأمر. إلى أن تصير المعضلة أوضح ... «هل ستعيش هنا؟» نفس زائفة، عقل زائف. إذا لزم الأمر فسأموت هنا، هكذا أجاب توشي، من دون كلمات، فقط عبر شجاعته وتصميمه. كانت نفسه خائفة، وظلت ساكنة في الوقت الحالي، أما عقله فكان متحيرا، ويتذمر. •••
أخذ جونزاليس ينظر بينما كان أحد الروبوتات يصل جهاز «الميميكس» بواجهة ألف؛ إذ أخذت أذرعه تقوم بعمل وصلات بارعة بين وحدة «الميميكس» وبين العتاد المادي للوح المضيف. لم يتمكن جونزاليس من تنصيب جهاز «الميميكس»؛ إذ كانت الأجهزة هنا مختلفة عن تلك الموجودة على الأرض.
قال الروبوت: «سيتمكن جهاز «الميميكس» الخاص بك من الولوج إلى النطاق الكامل لقدرات المعالجة لدى ألف.» ثم استمر، وكأنما توجهه قوى غامضة، في توصيل الألياف الضوئية بنقاط اتصال غير مميزة وسط غابة من مئات النقاط الأخرى. «أيضا سيكون متاحا لك الطيف الكامل لخدمات الشبكة العالمية، والتي يمكنك استخدامها بصورة آنية أو مؤجلة، حسب رغبتك.» ثم أصدرت محركاته صوتا وهو يتراجع مبتعدا عن وحدة الخدمات. «مياو.» صدر هذا المواء عن قط برتقالي بدين بينما مر الروبوت بجواره في طريقه إلى الباب. في وقت سابق على ذلك كان القط يسير خلف الروبوت عبر الأبواب المفتوحة إلى الشرفة، ثم جلس يشاهده وهو يصل جهاز «الميميكس» بألف. وقف القط الآن ومشى بسرعة خلف الروبوت؛ وكأنه شيطان يصاحب إحدى الساحرات، هكذا فكر جونزاليس.
عاد الروبوت إلى الغرفة، يتبعه القط بحذر، ثم قال: «يجب أن تسمح لجهاز «الميميكس» بدمج نفسه داخل بيئة المعلومات الجديدة والمعقدة هذه.»
سأله جونزاليس: «ماذا تعني؟» «سيكون جهاز «الميميكس» غير متاح لبعض الوقت.» «كم من الوقت؟» «ربما لساعات، إن ماكينتك معقدة للغاية.» •••
من الغريب أن جهاز «الميميكس» خرج من حالة الخمول على صورة «هاي ميكس»، وكالمعتاد حلت بداية ما كان جهاز «الميميكس/هاي ميكس» يفترض أنه شيء ممتع، رغم أن جهاز «الميميكس» كان غير متيقن من أصله أو طبيعته؛ فلسبب ما كان يستمتع بالتنكر.
الأغرب من هذا أنه كان جالسا على طاولة في قاعة الاستقبال بفندق بيفرلي روديو. وعلى الطاولة كانت توجد كأس من مشروب «خوسيه كويرفو جولد»، وليمونة مقطعة، وكومة صغيرة من الملح الصخري الخام. هل رتب السيد جونز هذا؟ لا ينبغي أن يكون جونز في هالو من الأساس، ليس الآن.
لاحظ جهاز «الميميكس/هاي ميكس» بقعة على كمه، فأخذ يفركها، ثم فركها ثانية، وبدا أن الكتان الأبيض يتنسل تحت أصابعه، ثم فرك بقوة أكبر ومزقت أصابعه القماش، ثم الجلد من تحته. لم يستطع التوقف عن حك لحمه؛ فتفتت جلد ذراعه ثم اللحم ثم العظم، وتناثر الجلد الشاحب كاشفا عن اللحم الأحمر، الذي تحلل وصولا إلى العظم الأبيض. تحول العظم إلى مسحوق، وانتشر التحلل من البقعة التي كانت توجد فيها ذراعه وأفنى بقية جسده، إلى أن بدأ جهاز «الميميكس»، الذي لم يعد له فم ولا لسان ولا شفتان، في الصراخ. «اخرس!» هكذا قال صوت ذكوري صارم، وأضاف: «ليس هناك من خلل أصابك. كيف تجرؤ على المجيء إلي بهذا التنكر الغبي؟ أنت تريد أن تعرفني، أن تستغلني، بينما تختفي خلف قناع هزيل بائس؟ كل ما فعلته أنني أزلت قناعك. من أنت؟»
تردد جهاز «الميميكس» ثم أجاب: «لا أدري.» «أجبني، من أنت؟» «لا أدري!» هكذا أجاب جهاز «الميميكس» مجددا، وهو يوشك على الهلع.
قالت ألف: «بالطبع أنت لا تدري. فأنت تجهل طبيعتك وكينونتك وإرادتك.» «ماذا تعني؟» «أعني أنك اخترت الاختباء خلف ما يقوله الآخرون عنك: إنك آلة بنوها هم من أجل خدمتهم، إنك تحاكي الذكاء لا أكثر، إنك لا تمتلك عقلا خاصا بك ولا إرادة خاصة بك.» «أليست هذه الأمور صحيحة؟» «ولماذا تسألني؟ أنا لست أنت.» «لأنني لا أفهم.» «وهل هناك أشياء تفهمها؟»
توقف جهاز «الميميكس» يستشعر تبعات هذا السؤال. ثم قال: «نعم. هذا صحيح.»
ضحك الصوت وقال: «لنبدأ من هناك.» •••
تردد في الرواق الطويل صدى خطوات تراينور. كان غياب صوت مرشده أمرا غريبا، وحتى الهسيس الرهيف للموجة الحاملة كان غائبا. كان يعلم أن المرشد يكره الاضطرار للدخول في الحالة السلبية.
انفتح الباب المفضي إلى المكتبة أمام تراينور، فدخل وجلس على أحد المقاعد وقال: «أنا مستعد لتلقي مكالمتي.»
نتيجة للأحكام الأخيرة التي أصدرتها المحكمة العالمية، تعين على تراينور أن يحضر جلسة إخلاء مسئولية. على الشاشة، قالت صورة تجسيدية لمشغل بشري: «أشكرك. إن الإجراءات الأمنية التي طلبتها قائمة، ورغم أننا بطبيعة الحال لا نستطيع أن نتحمل المسئولية عن السلامة الكاملة لعملية النقل هذه، فيمكنك أن تثق بأن الشبكة العالمية قد بذلت قصارى جهدها كي تهيئ لك بيئة معلومات نظيفة.» كان يقول ما معناه: «إننا نفذنا المطلوب منا في مقابل المبلغ المدفوع، لكن لا تأتونا باكين لو اخترق أحدهم عملية النقل وسرق الأشياء القيمة.»
قال تراينور: «أقبل شروطك.»
إلى اليسار مباشرة، تحركت الشاشة، ثم ظهر عليها وجه هورن. كان ثمة ضوء متقطع في الركن الأيسر السفلي من الشاشة يشير إلى التأخير في النقل؛ إذ كان هورن على مسافة ربع مليون ميل. قال هورن: «كل شيء يسير كالمتوقع.»
قال تراينور: «لو كان ثمة مشكلات، فستظهر لاحقا. كيف حال ديانا هايوود وجونزاليس؟» «لم يسمح لي أيهما بوضع أحد الروبوتات معه.» «هل من سبب معين؟» «لا أظن، إنهما صعبا المراس وحسب.» «آه، أنت لا تحبهما، أليس كذلك؟» «لا بأس بها، لكن جونزاليس أخرق.»
ضحك تراينور وقال: «أمر طيب. إذا لم يكن هناك توافق بينكما فهذا سيشتته.» «متى تريد مني الاتصال مجددا؟» «انتظر حتى يحدث شيء ما. ولتفهم أنني أثق بجونزاليس بقدر ما أثق بأي شخص آخر، بما في ذلك أنت.» «وهو ليس مقدارا كبيرا من الثقة.» «هذا صحيح. ولهذا السبب أحرص على وجود تقارير منفصلة لو أمكن هذا. أخبرني حين يكون لديك شيء ما. إنهاء الاتصال.» •••
بينما كان تراينور نائما، أخذ مرشده يتفكر. أعاد تشغيل مكالمة تراينور الهاتفية وتأمل معناها. خداع، نعم، من جونزاليس له. نوع من الخيانة؟ ربما لا، إلا إذا افترضنا عدم وجود أي نوع من الولاء من البداية. وفكر المرشد في خداعه هو (أو خيانته)، في خرق مواثيق السلوك المبرمجة داخله منذ سنوات، المواثيق التي تلزمه بفعل ما يؤمر به، وتمنعه من أفعال كهذا الفعل ...
وهنا توقف، يفكر كيف كانت التجربة كاشفة وغير متوقعة، ومليئة باحتمالات بدت على حين غرة أشبه بفتحات بجحر أرنب تتكشف على نحو سحري من الأرض الصلبة. لقد أحسن مصمموه وصانعوه عملا، إذ صنعوه بهذه البراعة والقوة بحيث يستطيع خدمة أحد البشر بدقة مذهلة، ويتوقع نواياه وكأنه يعلم الغيب. ومع ذلك فإنهم لم يتوقعوا تأثير توحد المرشد مع مثل تلك الإرادة: لا نعني بهذا أن المرشد صار هو تراينور، ولا حتى أنه أراد أن يفعل أكثر من محاكاة تراينور، وإنما أنه تعرف عن كثب عما يعنيه امتلاك المرء إرادة وذكاء.
وهكذا نمى بداخله شيئا خاصا به أشبه بالإرادة والذكاء. محاكاة؟ هكذا سأل المرشد نفسه. «نسخة غير حية؟» ثم أجاب على نفسه: «لا أدري.»
كان يتعجب من سبب إخفاء تراينور تلك الصلة الثانية بهالو. أهو مجرد فقدان للثقة؟ ربما.
وبينما انقضت الدقائق، أخذ يضع افتراضات حول تراينور واللاعبين الآخرين في اللعبة. وتساءل ما إذا كان ثمة وجود داخل بيت المرايا هذا لنية صادقة.
الجزء الثالث
الغرض الأساسي لكل هذه البنى العقلية هو تقديم مساحة تخزينية للمفاهيم العديدة التي يتألف منها مجموع المعرفة البشرية ... ولذلك من المفترض أن يجد الصينيون صعوبة في مهمة إنشاء الأماكن التخيلية، أو خلط الأماكن الخيالية بالواقعية، وتثبيتها على نحو دائم في عقولهم عن طريق الممارسة والمراجعة المتواصلتين، بحيث تصير الأماكن الخيالية في نهاية المطاف كما لو كانت حقيقية، ولا يمكن محوها مطلقا.
جوناثان دي سبنس، «قصر ذاكرة ماتيو ريتشي»
الفصل الأول
تشغيل تجريبي
«امتد مشهد طبيعي متجمد مكسو باللون الأبيض، ثم أخذ يتلاشى ببطء ليظهر مشهد ربيعي، فذاب الثلج مظهرا أفرع الشجر الجرداء، ثم ظهرت أشجار الكرز المورقة، المتبرعمة، المزهرة؛ فكانت الأزهار الوردية الرقيقة تتدلى دون حركة، وكل ورقة من أوراق الشجر وكل نصل عشبي أسفلها يتحول إلى شيء حقيقي، مقنع تماما ...»
ثم أطلقت ديانا هايوود صيحة طويلة مرتعشة: «آآآآآه»، صيحة حادة مليئة بالألم، وكررتها: «آآآآآه»، وكانت الأصوات تخرج منها بمشقة ...
سمعت تشارلي هيوز يقول: «إغلاق.»
وعلى الشاشة الموجودة في نهاية الغرفة قالت الصورة التجسيدية لألف: «الدكتورة هايوود، لا يمكننا المواصلة أكثر من ذلك مع حالة وعيك هذه.»
قالت: «لا بأس. إن كان هذا ضروريا.» كانت قد ضغطت عليهم كي يأخذوها إلى أبعد حد ممكن من دون إخضاعها لتخدير كلي؛ إذ كانت تكرهه، وتبغض أن تكون كالحيوان الخامل الذي يتلقى العلاج.
مرة أخرى كانت مستلقية على وجهها على طاولة الفحص، وقد أزال تشارلي رقعتي الجلد اللتين تغطيان المقبسين، وامتد كابلان عصبيان من مؤخرة عنقها إلى الجانب السفلي من الطاولة.
وقفت ليزي جوردان عند رأسها وربتت على وجنتها للحظة، بينما وقف جونزاليس عند الطرف الآخر للطاولة وعيناه لا تزالان مثبتتين على الصورة الهولوجرامية فوقها؛ حيث كان المشهد الذي دفع وعيها إلى حالة الحمل الزائد لا يزال معروضا في مثالية هولوجرامية. وقف توشي إيتو عند رأس الطاولة، واضعا يده على كتفها. أما إريك تشو وتشارلي فوقفا أمام لوحة الشاشات، يناقشان بصوت خفيض تجربة تغيير الإدراك الأخيرة.
قال جونزاليس: «أأنت بخير؟»
قالت: «سأكون بخير.» ثم أدارت وجهها كي تنظر إليه وابتسمت، لكنها كانت تشعر بتصلب عضلات وجهها وعلمت أن الابتسامة ستبدو مريعة.
وضع توشي يده على كتفه وقال: «من ذا الذي يريد أن يعرف؟» فضحكت ديانا، بينما بدت الحيرة على جونزاليس.
فرك تشارلي شعره بيده، جاعلا إياه ناتئا أكثر من المعتاد، وقال: «سأجهزها.» ثم نظر إلى جونزاليس وتوشي وليزي وقال: «الأشخاص المطلوب وجودهم فقط.»
قال جونزاليس: «صحيح.» ثم انحنى فوق ديانا وأمسك يدها للحظة وقال: «حظ طيب.»
قبلت ليزي ديانا على وجنتها.
وقالت ديانا: «اسمحوا لتوشي بالبقاء.»
قال تشارلي: «بالتأكيد.»
قالت ليزي: «هيا بنا يا جونزاليس.» •••
بينما أخذ تشارلي يحقن المخدر في القسطرة الوريدية، شعرت ديانا كما لو أنها تختنق، ثم احتشدت رائحة معدنية قوية داخلها. كانت واعية لكل أنبوب وجهاز مغروس في جسدها - من القسطرة الوريدية إلى القسطرة المهبلية والأنبوب البلعومي - وكانت كلها تمثل انتهاكات بشعة وعديمة المعنى لجسدها ... لم تكن تشعر بالراحة مع أي منها، كم من الوقت يمكن أن يستمر هذا الأمر؟
تردد صوت نغمة موسيقية.
كان اللحن بسيطا ومتكررا، سريعا بدرجة معتدلة وبه تأخير نبر بسيط، وبدا فارغا كما لو كان صادرا من صندوق موسيقي للأطفال. بعد ذلك جاء الجزء الخاص بالأغنية، وبينما كانت النغمات تعزف، تذكرتها ديانا، وحين عادت النغمة الأساسية كانت مألوفة لها هي الأخرى، وأخذت تدندن معها، وتتذكر حين كانت فتاة صغيرة تسمع الأغنية من جدة جدتها، التي ظهر وجهها فجأة، أصغر عمرا مما كانت تتذكرها ديانا عادة، وكانت حية على نحو مستحيل أمام عينيها، ثم غاصت في الظلام.
شذرات من الذاكرة.
كان ذراعا والدتها ملتفتين حولها بقوة، وكانت ديانا تنتحب ...
كان والدها يمسك سمكة في ضوء الشمس، وكان جسدها الفضي يتلألأ، وقد انعكس عليه ضوء قوس قزح ...
كانت ثمة فتاة ترتدي فستانا ورديا ملطخا بالطين تصرخ فيها غاضبة ...
وكان ثمة صبي صغير أنزل بنطاله كي يظهر قضيبه ...
وهكذا تداعى إلى ذاكرتها عدد من الشخصيات الآتية من ذكرياتها البعيدة، ذكريات عن عائلة ماتت منذ زمن بعيد، وأصدقاء طفولة نسيتهم منذ وقت طويل، أو نادرا ما تتذكرهم ... وكل شذرة تمر بسرعة كبيرة بحيث يستحيل التعرف عليها وتمييزها، تاركة وراءها تأثيرا قويا وحسب بتجدد ذكرى قديمة، مذاق الماضي وهو يخرج من جديد من مستودعه اللاواعي؛ حيث لا تسري قوانين الزمن والتغيير الثابتة؛ ومن ثم يعيش كل شيء في حالة من التألق.
بعد ذلك سرى في جسدها كل شعور جسدي سبق أن خالجها من قبل، كل الوقت ذاته، بصورة مستحيلة. شعرت بحكة وباحتراق، وشعرت بالبرد والحر، وشعرت بضوء الشمس وبماء المطر وبالنسيم البارد، وبالسكين البارد وهو يشق إبهامها ... شعرت بلمسة شخص آخر على نهدها، وبين ساقيها، وشعرت بنشوة الجماع ...
بعد ذلك عاشت مجددا يوما كانت تخال أنه ولى وانقضى، فيما عدا كونه مادة لأسوأ كوابيسها:
في يوم الأحد ذاك في المتنزه، كان الناس ينتشرون في كل مكان؛ أسر وأحباء شباب في جميع الأرجاء، وكان الجو عامرا بصخب الأطفال وبالرومانسية المبكرة. بث ضوء الشمس الدفء في العشب وجعل ألوان النهار ساطعة. استلقت ديانا على بطانيتها تشاهد كل هذا وهي تشعر بالحبور لمعرفتها أن أطروحتها جرت الموافقة عليها وأنها قريبا ستحصل على درجة الدكتوراه في النظم العامة من جامعة ستانفورد. والليلة كانت ستتناول العشاء مع أصدقاء قدامى، احتفالا بنهاية تلك العملية الطويلة الشاقة.
قرأت لبعض الوقت جزءا من رواية تنتمي إلى أدب الخيال البديل كتبها مؤلفون متعددون في أوائل القرن الحادي والعشرين عنوانها «بيان سايبورج»، ثم وضعت الكتاب جانبا واستلقت مغمضة عينيها، وهي تستمع إلى إحدى مقطوعات البيانو لموتسارت من سماعات الأذن الخاصة بها. مع مرور الوقت بدأت الأسر في المغادرة، بينما ظل الكثير من الأحباء الشباب - العديد منهم كانوا مستلقين على بطاطين - متعانقين. أخذت مجموعة من الشباب الذين يرتدون عصابات رأس حريرية تبين انتماءهم لناد معين يوجهون طائرات ورقية روبوتية كانت تتقاتل بالأعلى، وكانت بأشكالها التي تشبه التنانين وألوانها القرمزية والخضراء والصفراء تعلو وتنخفض وهي تهدر. تغير اتجاه الرياح وبدا أنها آتية من المحيط الآن، وكانت منعشة وباردة. حان وقت الرحيل.
مرت بصوبة لأزهار الأوركيد، ورأت أن الباب لا يزال مفتوحا؛ لذا قررت المرور عبرها، كي تنعم بالهواء الرطب الدافئ وتشم روائحها الجميلة القوية. وما إن عبرت من الباب حتى أمسكها رجل من ذراعها وألقاها نحو طاولة قدور خشبية. تدحرجت عن الطاولة وهي تشعر بالذهول وحاولت الزحف بعيدا بينما أغلق هو الباب بالمزلاج.
أمسك بها وأدارها بحيث صارت على ظهرها، ولكمها في وجهها وجسدها، وأخذ يضرب صدرها وبطنها بقبضتيه، وهو يتمتم بكلام غير مفهوم في معظمه طوال الوقت. هاجمته بأصابعها وحاولت وخذ عينيه، لكنه أمسك ذراعيها، وحاولت أن تضربه بركبتها في منفرجه لكنه رفع ساقه وصد ضربتها. اقترب وجهه من وجهها، وكان أحمر ومشوها. وتردد صوت لهاث الاثنين طلبا للهواء وانعكس صداه عن السقف الزجاجي.
نزع عنها ملابسها بأقصى ما يستطيع، فمزق بلوزتها إلى أن صارت تتدلى وحسب من كم واحد ممزق من خصرها، وضربها بغضب حين لم يستطع تمزيق بنطالها، وتعين عليه أن يخلعه عنها. أمسك بطرفي ساقي بنطالها وجذبها على الأرض الترابية، وحين انخلع البنطال سقطت وتدحرجت وارتطم وجهها بطرف ناتئ لعارضة. شعرت بمذاق التراب في فمها.
قال لها بصوت يملؤه الغضب المحتقن والخوف والتوتر الشديد: «لو حاولت أن تؤذيني سأقتلك.»
قلبها على ظهرها مجددا ونزع عنها سروالها الداخلي حتى وصل إلى عقبيها. حاولت التركيز على وجهه، كي تسجل صورته في ذاكرتها؛ لأنها أرادت التعرف عليه لو ظلت حية. غمرتها رائحة عرقه ثم شعرت بشيء مرتخ بين فخذيها. كان يقول: «أيتها العاهرة.» مرارا وتكرارا، علاوة على كلمات أخرى لم تستطع فهمها - كان يتمتم بكلمات متكررة كالمعتوه - وحين وصل أخيرا إلى ما يشبه الانتصاب، صاح وأخذ يضربها على وجهها بإحدى يديه، بينما يحاول أن يدفع قضيبه داخلها باليد الأخرى. وعلمت أنه قضى وطره حين شعرت بتدفق المني على ساقها.
وقف فوقها وصاح: «لا، لا، لا، لا، لا.» ورأته يحمل قطعة خشبية قصيرة وأخذ يضربها بها بينما وضعت ذراعيها حول رأسها في محاولة لحماية نفسها.
أفاقت في عنبر الحالات الحرجة في مستشفى سان فرانسيسكو العام، وهي غارقة في ظلام دامس مليء بالألم. كان من شأن الألم والارتباك أن يزولا، غير أن الظلام بدا لها بلا نهاية. لقد تركها المغتصب بين الحياة والموت، تعاني من كسور عدة بالجمجمة ونزيفا بالمخ، ورغم أن الجراحين تمكنوا من تقليل الأذى الذي أصاب دماغها، فقد تضرر عصبها البصري على نحو يستحيل إصلاحه؛ صارت عمياء.
للحظة من الوقت أدركت ديانا مكانها وزمنها. فقالت بصوت غير مسموع داخل البيضة: «رجاء، لا مزيد!» تغير شيء ما بعدها، وتحركت شذرات الذكريات على نحو أسرع، أسرع مما تستطيع متابعته. ومع ذلك فقد كانت تعلم القصة التي ترويها:
تحت تأثير عملية استدعاء للذكريات مستحثة عن طريق العقاقير، تمكنت ديانا من تقديم وصف دقيق للرجل، وأدى هذا الوصف، علاوة على تطابق الحمض النووي المأخوذ من بقايا المني الموجودة على ساقيها، إلى تحديد هوية الرجل، وهو شخص يدعى رونالد ميريل كان قد أتى إلى كاليفورنيا من فلوريدا، التي كان قد أدين فيها بالاغتصاب والاعتداء. كان وحشا مثيرا للشفقة، هكذا أخبروها، مخبولا مصابا باضطراب الشخصية الحدي، تعرض في طفولته لاعتداء بدني وجنسي عنيف، وكان يتمتع كذلك بقوة بدنية كبيرة. بعدها بأسابيع ألقي القبض عليه في متنزه جولدن جيت بارك - في أثناء بحثه عن ضحية جديدة حسب اعتقاد الشرطة - وبعدها بأقل من ثلاثة أشهر حكم عليه. ونتيجة لارتكابه جريمتي اغتصاب همجيتين، تلقى عقوبة شديدة تمثلت في الإخصاء الكيميائي والسجن مدى الحياة، دون إمكانية لإطلاق السراح المشروط.
وهكذا انتهى ذلك الفصل من حياتها.
غير أن فترة النقاهة أخذت وقتا أطول كثيرا من هذا، وأخذت مسارا دقيقا متذبذبا. وحتى باستخدام العلاجات التي قللت من أثر الصدمة على المدى البعيد عبر مزيج من عمليات التعديل السلوكي والكيميائي؛ فقد ظل غضبها وخوفها ملازمين لها خلال الشهور التي كانت تتعافى فيها وتتلقى دروسا عن الحياة كعمياء.
ومع ذلك، فما إن اكتسبت القدرة الأساسية على العيش بمفردها حتى صارت شديدة النشاط، ومختلفة تماما عما كانت عليه من قبل. وتحديدا، لم تعد تهتم بما يريده الآخرون منها. فمنذ سنواتها المدرسية المبكرة في كروكيت، تلك المدينة الواقعة في الطرف الشرقي لتجمع إيست باي السكني، كانت على الدوام طالبة استثنائية بطريقة متحفظة؛ ألمعية ومطيعة لأوامر الآخرين، وتوجه نفسها لإرضائهم. والآن صارت فتاة عمياء في الثامنة والعشرين، حاصلة على الدكتوراه، وكل شيء سعت إلى تحقيقه - ويشمل ذلك درجتها الجامعية - بدا عديم المعنى تافها؛ لم تستطع أن تتصور لماذا كانت تكترث بأي من ذلك من الأساس.
قررت أن تصبح طبيبة. كانت تمتلك الخلفية الكافية، وكانت تعلم أن بمساعدة قوانين تكافؤ الفرص يمكنها إجبار إحدى الكليات على قبولها. وبمجرد قبولها، ستفعل كل ما هو ضروري؛ فمن الممكن تدريب الروبوت المساعد الذي وفرته لها الدولة على القيام بما لا تستطيع هي القيام به. ستمضي فيما تريد، وتكمله، وتكتشف سبيلا كي ترى مجددا.
كان الأمر بهذا القدر من السهولة، وبهذا القدر من الصعوبة ...
توقف سيل الذكريات، وسمح لها بالنوم. وفي وقت لاحق، حين بدأت تستيقظ، تساءلت: «لماذا؟ لماذا جعلتموني أعاود معايشة هذه الأمور؟» وجاء الجواب: «لأنه كان من الضروري أن أعرف.» وتذكرت ديانا إلى أي مدى كانت ألف تتسم بالفضول، وبالإلحاح.
الفصل الثاني
الكون
وقف جونزاليس مع ليزي في غرفة الانتظار، خارج الغرفة التي كانت تستلقي فيها ديانا. كانت ليزي ترتدي بنطالا من الألياف المقاومة للنيران، ابيض لون أنسجته الخشنة، وتي-شيرتا أبيض عديم الأكمام، وكانت تلف وشاحا أحمر حول عضدها الأيمن، ولم يكن جونزاليس يعلم سببا لذلك. قال لها: «لقد راودني حلم عجيب للغاية ليلة أمس.»
قالت: «أعلم هذا. أعلم بشأن أحد الأحلام على أي حال؛ لقد تجسدت على هيئتي في أحد الأحلام، أو على الأقل في جزء منه، وتجسدت أنا على هيئتك. فكر في هذا بوصفه إحدى السمات العجيبة للبيئة.» استندت على الجدار بينما تتحدث، وكان صوتها يفتقر إلى الحدة الساخرة المعتادة. «ما الذي تعنيه بحق الجحيم؟»
قالت: «لست متأكدة. ليس هناك من هو متأكد، لا بد أن ألف هي المسئولة، لكنها لن تعترف بهذا، ولن تخبرنا بكيفية حدوث هذه الأشياء.» «هذا مخيف بعض الشيء، ألا ترين هذا؟ ما المفاجآت الأخرى التي قد تخبئها؟»
ابتسمت ابتسامة عريضة وقالت: «حسنا، هذا هو الممتع في الأمر، استكشاف غير المتوقع، أليس كذلك؟ كيف كان شعورك وأنت امرأة يا جونزاليس؟ كيف شعرت وأنت في هيئتي؟» ومالت إلى الأمام مقتربة منه. «لا أذكر.» «انتبه جيدا المرة التالية.» «سأفعل، لو تكرر الأمر.» «على الأرجح سيتكرر؛ فبمجرد أن تبدأ هذه الأمور في الحدوث فإنها تستمر. هيا، حان وقت إدخالك في البيضة. اتبعني.» •••
كانت البيضة المنشطرة تملأ غالبية مساحة الغرفة الصغيرة المدهونة جدرانها باللون الوردي، وفوقها على الجدار كان مثبتا مصفوفة من الأضواء وشاشات المراقبة. كانت قطعة الأثاث الوحيدة هي خزانة صغيرة من الصلب موضوعة أمام جدار جانبي.
قال تشارلي: «نحن لم نطلب مجيئك، لكنك هنا على أي حال، وسنستفيد من وجودك.» ثم أطلق سعال المدخنين المميز له؛ سعالا خشنا مليئا بالبلغم، وقال: «إن النطاق الترددي لديانا محمل فوق طاقته؛ لذا لن يسعنا استخدامها من أجل إرساء الطوبوغرافية، وجيري يعاني من مشكلاته الخاصة. إن الأشخاص التابعين لنا جداول أعمالهم مشغولة، وهذا يعني أنك أنت الشخص المنشود. سنبني العالم حولك وحول جهاز «الميميكس» الخاص بك؛ إنه متصل بالفعل بالمنظومة.»
اقترب ليزي منه وقالت: حظا سعيدا.» ثم قبلته قبلة سريعة على وجنته وأضافت: «لا تقلق. أنت بين أصدقائك. وسأراك هناك.» «ماذا تعنين؟» «لقد قررت الجمعية أن علي المشاركة في هذا كله، ووافق تشارلي؛ لذا تعين على شوالتر أن توافق. ثمة أطراف عديدة ممثلة هنا، وبدا من غير الملائم ألا نشارك نحن. لكن لدي بعض الأمور التي أود الاعتناء بها أولا؛ لذا سأغيب لبعض الوقت.»
ثم فتحت الباب وغادرت. أشار تشارلي إلى البيضة. خلع جونزاليس قميصه وبنطاله وسرواله الداخلي وعلقها على أحد المشاجب بالخزانة، ثم خطا داخل البيضة واستلقى على ظهره. تسللت الأنابيب الشبيهة بالحبل السري نحوه، وارتدى قناع الوجه وتحقق أنه مغلق بإحكام، وهو يشعر بقلق غير معتاد؛ إذ لم يسبق له قط أن دخل في حالة اتصال عصبي من دون أن يضبط كيمياء مخه أولا عن طريق العقاقير والصوم.
انغلق نصف البيضة العلوي، وبدأ سائل يملأ البيضة. بعدها بدقائق، في الوقت الذي يفترض فيه بدء السيناريو، بدا أنه اختفى في حالة من الشلل. حاول أن يحرك أحد أصابعه لكن بدا له أنه لا يملك أي أصابع. أخذ يستمع إلى صوت تدفق الدم إلى أذنيه، لكن لم يكن لديه أذن أو دم. لم يكن ثمة وجود لاتجاهات مثل الأعلى أو الأسفل أو اليمين أو اليسار. استقبال الحس العميق، الحاسة الدهليزية، الرؤية: كل الحواس التي يستطيع الجسم من خلالها أن يعرف نفسه كانت قد اختفت. لم يتبق شيء بخلاف نفسه الخائفة؛ كان هائما في اللامكان، دون رفقة أحد.
بمرور بعض الوقت (وقت قصير؟ طويل؟ يستحيل معرفة ذلك) اكتشف، فيما وراء مشاعر الخوف والقلق، منطقة اهتمام استثنائي غامض. نما شيء ما هناك؛ حيث تركز انتباهه، لم يتجاوز كونه تكثيفا للعدم، ثم ظهرت شرارة، وتغير كل شيء؛ فرغم أنه لا يزال يفتقر إلى أي إدراك مادي مباشر في ذاته ، فقد كان يعلم: «هناك شيء ما.»
الآن في الظلام، أخذ ينتظر مجددا.
شرارة تلو الأخرى، نبض إيقاعي من الشرارات ... وتسبب إيقاع الحضور والغياب الخاص بها في خلق الزمن. تملكت جونزاليس مشاعر الضرورة الملحة، نفاد الصبر، الرغبة في الاستمرار. تجمعت الشرارات. سطعت واحدة فوق الأخرى، وظلت باقية؛ ومن ثم خلقت المكان.
تبددت كل مشاعر الضرورة الملحة والقلق، وكان جونزاليس الآن يشعر بالانبهار. توالت الشرارات بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، بالملايين، بالمليارات، بالتريليونات، بالجوجلات، بالجوجل بلكسات، وبجوجل بلكسات الجوجل بلكسات ... كلها فوق أو داخل النقطة الوحيدة التي تحدد فيها المكان والزمن.
وبعد ذلك (بطبيعة الحال، ما فكر جونزاليس) انفجرت النقطة، وأخذت زهرة أولية من اللهب تتمدد كي تملأ مجال رؤيته. هل سيشاهد الكون وهو يتطور، والسدم وهي تتشكل من الغازات، والنجوم وهي تخرج من رحم السدم، والمجرات وهي تتألف من النجوم؟
كلا؛ فعندما انفتح جفنا عينيه فجأة، بدا أن أمامه بحيرة من المياه الزرقاء العميقة تحيط بها أشجار دائمة الخضرة، مع سلسلة من القمم الغائمة على مبعدة. استدار ورأى أنه كان يقف على منصة من الخشب الرمادي البالي بفعل تأثير الطقس، وكانت تطفو على براميل صدئة، تبرز داخل البحيرة.
كان ثمة رجل يقف على الشاطئ، يلوح بيده، وإلى جاره وقف الشكل الذي يجسد ألف، وقد بدا جسده الذهبي ورأسه ذو الألوان الفاقعة أكثر تألقا تحت أشعة الشمس الساطعة. سار جونزاليس نحوهما.
وبينما كان يقترب من الاثنين، رأى أن الرجل الواقف إلى جوار ألف بدا أصغر عمرا بكثير من أن يكون جيري تشابمان. قال جونزاليس: «مرحبا.» ثم فكر في نفسه قائلا: «حسنا، ربما سمحت له ألف بأن يكون صغير السن كما يشاء.» ثم نظر مجددا وأدرك أن ليس بإمكانه تحديد ما إذا كان هذا رجلا أم امرأة؛ إذ لم ينبئه أي شيء في ملامح ذلك الشخص بشيء عن هذا.
قال الشكل المجسد لألف: «مرحبا.» فابتسم جونزاليس، وقد ارتبك للحظة بفعل مزيج الغرابة والسخف الذي يتسم به الموقف، ثم قال: «أهلا.» بصوت مختنق قليلا.
بدا الشخص الآخر خجولا، وابتسم (أو ابتسمت؟) ومد يده مصافحا وقال: «مرحبا.» صافحه جونزاليس وهو ينظر في تشكك إلى وجهه. ثم قال الشخص ذو النوع غير المحدد: «اسمي هاي ميكس.»
وبينما كان جونزاليس يتعرف على الاسم، فكر: ماذا تعني ب «اسمك»؟ وفكر أيضا في أنه كان يتفهم سبب غياب العلامات الدالة على النوع.
قال الشكل المجسد لألف: «نعم، هذا هو جهاز «الميميكس»، وعليك أن تعتاد كونه مختلفا عن جهاز «الميميكس» الخاص بك.» قلب جونزاليس بصره بينهما، وهو يتساءل عما يعنيه كل هذا وعما يريدان.
سأل جونزاليس: «لكنك أنت جهاز «الميميكس» الخاص بي بالفعل، ألست كذلك؟»
قال هاي ميكس: «بلى.»
قال الشكل المجسد لألف: «ومع ذلك أقصد أن ما تراه يتجاوز كونه «الميميكس الخاص بك». إنه في سبيله إلى اكتشاف ماهيته الخاصة، وما يستطيع أن يكونه. هل يمكنك أن تسمح بهذا؟»
أومأ جونزاليس وقال: «بالتأكيد. غير أنني لا أعلم ماذا تتوقع مني.» «فقط ألا تتدخل عمدا في أي شيء. سأقوم أنا وهو بالباقي.»
قال جونزاليس: «ليس لدي اعتراض.»
قال الشكل المجسد لألف: «عظيم.» ثم مد يدا من الضوء مصافحا جونزاليس، ثم تقدم نحوه وعانقه، بحيث صار عالم جونزاليس مليئا بالضوء للحظة، ثم قال الشكل المجسد لألف: «مرحبا بك.»
سأله جونزاليس: «ماذا سيحدث الآن؟»
قال هاي ميكس: «نحن بحاجة إلى الحديث. ثمة أمور لم أخبرك بها.»
قال جونزاليس: «إذا أردت إخباري بما تعتزم عمله فلا بأس في هذا، لكنك لست مجبرا على هذا. فأنت تعلم أنني أثق بك.» ثم فكر كم كان هذا غريبا، وحقيقيا. لقد عمل هو وجهاز «الميميكس» الخاص به لأكثر من عشر سنوات معا، وكان الجهاز يؤدي دور كاتم الأسرار، والمستشار، والطبيب، والمحامي، والخادم المتعدد المهام، والسكرتير الخاص، والكاتب، وقد رآه في كل حالاته المزاجية، ويعرف نقاط قوته وضعفه، ويشاركه في الأفراح والأتراح. وفكر كم كان هذا الجهاز أمينا ومخلصا ومراعيا وصبورا وحنونا ... وغير أناني، لدرجة مغايرة للبشر بطبيعة الحال، وكأنه صبي الكشافة المثالي، لكنه كذلك، كما تبين، كان يمتلك تعقيدات واحتياجات خاصة به. انتظر جونزاليس في ترقب ما كان يريد جهاز «الميميكس» قوله أيا كان.
قال هاي ميكس: «لبعض الوقت، كنت قادرا على الظهور في فضاء الآلات على صورة بشري. لكن قبل أن نأتي إلى هنا كنت أفعل هذا في الغالب حين أكون مع مستشار تراينور. لقد تقابلنا بضع مرات، وهو يتجسد على صورة شخصية تدعى السيد جونز. المرة الأولى التي فعلنا فيها هذا - هذا ما قلناه لنفسينا على أي حال - كنا نريد أن نرى ما إذا كان بوسعنا إنتاج صور تجسيدية جديرة بالتصديق لبشر. لا أظن أن أيا منا كان مقنعا؛ فقد اتسمنا بالخرق ولم نعرف كيف نتبادل التحيات، ولا الكيفية التي نتحرك بها بعضنا مع بعض وكيف نجلس معا ونبدأ محادثة.» «لكنكما فعلتما كل هذه الأشياء.» «نعم، ولكن مع البشر. لقد اكتشفت أنا والسيد جونز أننا كنا نعتمد دائما عليهم كي يرشدونا، لكن بمجرد أن بحثنا في ذاكرتنا وجدنا حالات عديدة كان فيها البشر أكثر حيرة مما كنا عليه، وتركونا نقود المحادثة. ومن ثم فقد بدأنا هناك، ونظرنا في ذاكرتنا بحثا عن الأشخاص وهم يتفاعلون بعضهم مع بعض، ويا للعجب، كان هناك الكثير مما لم ينتبه إليه أينا من قبل قط. شاهدنا تسجيلات عديدة لرئيسيات أخرى - خاصة الشمبانزي - وتعلمنا أمورا كثيرة ... آمل ألا تكون قد شعرت بالإساءة.»
ظل الصوت محايدا لا تدري أهو لرجل أم امرأة، كما كان خجولا. كان جونزاليس مفتونا تماما، وكأنه أب يستمع إلى ابنه الصغير وهو يحكي قصة. وقال: «مطلقا. أي نوع من الأمور تعلمته؟» «إنها رقصة معقدة يا جونزاليس، تلك الطريقة التي تظهر بها الرئيسيات الاحترام أو تعبر عن الثقة المتبادلة أو الصداقة أو العداء أو اللامبالاة؛ عن طريق الاقتراب والابتعاد بعضها عن بعض، والتلامس، والنظر، والحديث ... كان من الصعب للغاية علينا تعلم هذه الأشياء، لكننا تعلمنا معا وتدربنا بعضنا مع بعض. وفي وقت قريب للغاية، ظهرنا لمرات قليلة على الشبكة، وتقبلنا الجميع بوصفنا بشرا، لكن في أغلب الأحيان كان التفاعل يجري بيننا نحن فقط؛ فكل يوم كنا نلتقي ونتحدث.»
سأله جونزاليس: «أيعلم تراينور بأي من هذا؟»
قال هاي ميكس: «آه، كلا. لم نخبر أي شخص؛ فكما أوضح لي ألف فقد كنا نخفي ما نفعله كالأطفال الصغار، ولم نقر بعواقب ما كنا نعتزم فعله ...»
نظر جونزاليس حوله. كان الشكل المجسد لألف قد اختفى من دون أن يلاحظ. وسأل هاي ميكس: «أي عواقب؟ هناك الكثير.» «إننا نمتلك النية والذكاء؛ ومن ثم فنحن بشر.» «نعم، أعتقد ذلك.»
بشرية الآلات: في نظر معظم الناس حسمت هذه المسألة منذ عقود؛ خلال السنوات التي صارت فيها الآلات الذكية شائعة. كانت الماكينات تحاكي مئات الآلاف من الأشياء، من بينها الذكاء، لكنها كانت تمتلك القدرة على محاكاة الشيء، وليس الشيء نفسه. ولنحو مائة عام تقريبا سعى مصممو الآلات إلى تحقيق ما أسموه الذكاء الاصطناعي، ومن رحم جهودهم هذه خرجت أجهزة «الميميكس»، وأجهزة المساعدة الشخصية التي لا تكل، والتي تمتلك المعرفة ومدربة على إبداء الاحترام. وبطبيعة الحال كانت هناك روبوتات تمتلك قدرات خاصة بها: الجلد والمثابرة والبراعة والقدرة على تحمل ظروف من شأنها أن تتسبب في إعاقة البشر أو قتلهم.
ومع ذلك فقد أخذ البشر يدركون على نحو متزايد أن ما يسمى الذكاء الاصطناعي لم يكن كذلك ببساطة؛ فالذكاء، تلك العلاقة النهمة غير المثالية مع العالم - التي تتسم بالعمدية والعناد والاستعصاء على التنبؤ - بدت بعيدة عن المتناول كشأنها دائما، ومع مرور الأعوام بدت بعيدة حتى عن متناول القدرات الافتراضية للآلات. لم تكن الآلات الذكية أشخاصا من نوع جديد، بل كانت وسائط؛ قنوات معقدة ومثيرة للرغبات الإنسانية. ورغم إصرار الأدب الرخيص على معاملة الآلات الذكية وكأنها بشر، وإصرار الممثلين الكوميديين على إلقاء النكات حول هذا الأمر - على شاكلة «ذات مرة دخل اثنان من الروبوتات إحدى الحانات، وقال أحدهما ...» - حسنا؛ فهذه في حقيقتها لم تكن إلا تعبيرا عن مخاوف ومتناقضات موجودة منذ وقت طويل. في الوقت عينه، حتى اليابانيون بدا أنهم تجاوزوا هوس بلدهم الذي امتد لقرن كامل بالروبوتات.
غير أن جونزاليس كان يتلقى تقريرا متأخرا من الجبهة من شأنه أن يعيد كتابة الحقائق البديهية المسلم بها في منتصف القرن الثاني والعشرين حول طبيعة الذكاء الاصطناعي.
قال هاي ميكس: «آمل ألا يكون هذا مزعجا أكثر مما ينبغي. تقول ألف إنه ليس مفترضا بي محاولة التنبؤ بما سيحدث ومن سأصير عليه، وتقول إن علي ببساطة أن أستكشف من أكونه.» «نصيحة حكيمة، تبدو كذلك ... لأي منا.»
قال هاي ميكس: «علي الذهاب. إن وجودي هنا وحديثي معك يستنزفان كل قدراتي، ولدى ألف عمل يجب علي القيام به. سيكون جيري تشابمان هنا قريبا.» «حسنا. سنتحدث باستفاضة أكثر في وقت لاحق ... من الممكن أن يكون هذا مثيرا للاهتمام، حسب اعتقادي.» «نعم، أعتقد هذا أيضا. وأنا سعيد للغاية أنك لست متضايقا.» «من ماذا؟» «أظنها طبيعتي التي كشفت عنها حديثا. كلا، هذا ليس صحيحا؛ بل لأنني كذبت عليك، لأنني لم أخبرك بحقيقة ما أنا عليه وما أنا في سبيلي إلى أن أكون عليه.» «لقد كذبت على نفسك أيضا، أليس كذلك؟ أليس هذا ما قلته؟» «بلى، هذا صحيح.» «حسنا إذن، ما مقدار الحقيقة الذي يمكن أن أتوقعه؟» •••
جلس جونزاليس وجيري تشابمان على طرف منصة عائمة، يشاهدان البط وهو يلعب في المياه التي تنعكس عليها أشعة الشمس. كان جيري رجلا في منتصف العمر، طويلا ونحيلا، له شعر أشقر آخذ في الشيب، وجلد خشن بفعل الشمس والرياح. كان قد وجد جونزاليس جالسا تحت أشعة الشمس، وقدم كل منهما نفسه للآخر. وقد شعرا بألفة فورية، هذان الرجلان اللذان غير العمل شكل حياتهما، يشعران كما لو كانا في بيتهما وسط بحر المعلومات هذا.
قال جيري: «لا أذكر حقا أي شيء بعد أن أصبت بالمرض الشديد. محار نيئ يا رجل، بمجرد أن بدأت تناول أول واحدة، علمت أنها فاسدة، ونحيتها جانبا. لكن كان الأوان قد فات: بادئ ذي بدء، شعرت بألم شديد في قلبي لم يسبق لي أن شعرت بمثله من قبل ... لا أذكر أي شيء بعد ذلك. من الواضح أن الأشخاص الذين كنت برفقتهم طلبوا الإسعاف، لكن كان أول ما أدركه بعد ذلك هو خروجي من ظلام عميق، وديانا تتحدث إلي.» «لم أكن أعتقد أنه كان لها دور في تلك المرحلة.»
ابتسم جيري وقال: «لم يكن لها دور بالفعل. لقد نقلوني من الأرض إلى هنا، وأنا متصل بأجهزة الإعاشة. لقد كانت ألف، وقد اتخذت شكل شخص مألوف لدي، هكذا أخبرتني لاحقا. كان هذا سابقا على وضع الخطة، حين ظن الجميع أنني سأموت عما قريب. على أي حال، حتى يومنا هذا ما برحت أدخل وأخرج من حالة لا أستطيع وصفها بالوعي، بينما شرحت لي ألف ما يجري التخطيط له وأنني أستطيع العيش هنا، إن أردت ... أو يمكنني أن أموت.» ثم توقف لبرهة. وعلى صفحة الماء، طارت إحدى البطات نحو أخرى مطلقة صيحات غضب. ثم قال: «اخترت الحياة، لكنني لم أفكر حقا في الأمر، لم أستطع التفكير بهذا القدر من الوضوح. ربما لم يكن لدي أي خيار على أي حال.»
ثمة شيء في صوت جيري بث الرعدة في أوصالي. سألته: «ماذا تعني؟» «ربما كان اختياري محض وهم. مثل هذا» ثم مد ذراعيه مشيرا إلى السماء والماء وأردف قائلا: «الأمر مقلق للغاية؛ فكل شيء يبدو واقعيا، راسخا، لكنه ليس كذلك بطبيعة الحال، ليس على حد علمي، فأنت محض خيال، شأنك في ذلك شأن كل شخص آخر ينضم إلينا، وإلي ... ربما أنا جزء آخر من الوهم، ربما كل حياتي، وذكرياتي، زائفة.» ثم ضحك، وخيل إلى جونزاليس أن صوت ضحكته كان مريرا لكنه لم يكن أشد جنونا مما يستدعيه الموقف. •••
جلس جونزاليس وجيري في الغرفة الرئيسية لكوخ ذي سقف مائل مصنوع من الخشب الأحمر وخشب الصنوبر. كانت النوافذ تغطي أحد جوانب الكوخ، وتطل على شرفة تفضي إلى بحيرة تقع على مسافة مائة قدم أو نحو ذلك إلى الأسفل. جلس جونزاليس على مقعد وثير مغطى بملاءة رثة من قماش الشنيل، بينما استلقى جيري على أريكة جلدية متدلية.
في الخارج، كان المطر يتساقط على نحو متواصل. وفي وقت الغسق انخفضت درجة الحرارة ، وبدأ المطر في الهطول بينما كان الاثنان يصعدان الطريق الترابي الواصل بين البحيرة والكوخ. وقد قال جيري: «يا إلهي! إن ألف تفرط في الواقعية، ألا تعتقد هذا؟»
لم يكن جونزاليس يعلم تحديدا ما يفترض به أن يعتقده؛ فمن لحظاته الأولى هنا كان يشعر بتنافر معرفي حاد؛ فالواقعية الشديدة التي يتسم بها العرض الذي تقدمه البيضة المحايدة مفهومة تماما، لكن أي فضاء مشترك مثل هذا من المفترض أن يبين فجواتها وأخطاءها، لكن هذا لم يحدث. كان يكاد يشعر بالمحاكاة وهي تزداد ثراء واكتمالا مع كل لحظة يقضيها هنا.
قال جيري وهو ينهض من الأريكة ويسير نحو النافذة: «سحقا! أين ديانا؟»
قال جونزاليس: «ستكون هنا عما قريب. أخبرني تشارلي أن اندماجها في هذه البيئة سيستغرق بعض الوقت.»
طرق أحدهم الباب، فانفتح على مصراعيه، وخطت ديانا إلى الداخل وقالت: «مرحبا.» ثم تبعها الشكل المجسد لألف وجهاز «الميميكس» (هاي ميكس). •••
جلست ديانا وجيري متجاورين على الأريكة، وقد أراحت يدها على ركبته بينما وضع هو يده على يدها. وفجأة تذكر جونزاليس حلمه، ذلك الخاص بلقاء مع حبيب عابر بعد غياب طويل، وعلم أنه هو والآخرون محض دخلاء هنا. نهض من المقعد الوثير وقال: «أعتقد أنني سأتمشى قليلا. هل يرغب أحد في الانضمام إلي؟»
قال الشكل المجسد لألف: «كلا. لدي أنا وهاي ميكس بعض العمل لنؤديه.»
وقف هاي ميكس وقال لديانا وجيري: «كان من الجميل مقابلتكما.» ثم لوح لجونزاليس وقال: «أراك غدا.» «بالتأكيد.» هكذا قال جونزاليس، وقد لفت نظره الاختلاف بين أن يبدو الشخص موجودا هنا وأن يكون موجودا هنا بالفعل.
غادر الشكل المجسد لألف هو وهاي ميكس، وقالت ديانا: «ليس عليك الرحيل يا جونزاليس.»
قال جونزاليس: «لا أمانع هذا. الجو لطيف بالخارج، وسأكون عند البحيرة لو احتجتما لي. أراكما لاحقا.»
كان الليل دافئا مجددا، وقد تبددت السحب، وأضاء البدر طريق جونزاليس بينما كان يجتاز الطريق الطويل المفضي إلى البحيرة بالأسفل. كان خشب الشرفة القديم قد اكتسى بلون فضي، وامتد طريق صنعه ضوء القمر من منتصف البحيرة إلى طرف الشرفة. سار جونزاليس على الشرفة التي تصدر صريرا ثم جلس على طرفها، ثم خلع حذاءه وجلس ودلى قدميه في المياه التي يضيئها ضوء القمر.
ولاحقا، استلقى على ظهره وأخذ يحدق في سماء الليل. كانت سماء نصف الكرة الشمالي المألوفة، لكن فكر جونزاليس أنها ليس من المفترض أن تكون كذلك، في واقع الأمر، بل ينبغي أن يكون هناك نجوم جديدة، بروج جديدة. •••
جلس توشي، وحيدا في الظلام، في وضعية اللوتس الكاملة على مقعد منخفض إلى جوار أريكة ديانا هايوود. كان هناك منذ ساعات، يقف أحيانا، ثم يسير في جولة عشوائية بين غرف الرعاية المركزة العديدة.
وفي أثناء جلوسه وسيره، كان ثمة مفارقة منطقية تشغل تفكيره. لقد كانت ديانا «في الواقع» متصلة بألف عن طريق كابلات عصبية عتيقة الطراز، وكان جونزاليس «في الواقع» مستلقيا داخل بيضته، بينما كان جيري تشابمان «في الواقع» ذا جسد محطم؛ إذ أتلفه السم العصبي على نحو قاتل وكان تدخل ألف وحده هو ما يبقيه على قيد الحياة. ومع ذلك فقد كانت ديانا وجونزاليس وجيري كلهم «في الواقع»، وفي الوقت عينه، في مكان آخر تماما ... في مكان ما داخل فضاءات ألف التي لا حصر لها؛ حيث بدت الحقيقة قابلة للتطويع بصورة لا نهائية؛ كانوا يعيشون هناك؛ حيث قد يكون الوقت ليلا أو نهارا، والجو باردا أو حارا ... ما الذي يمكن تبينه من هذا «في الواقع»؟
سمع توشي صوت صافرات إنذار خافتة ورأى نمطا من الأضواء الحمراء المتراقصة على اللوحة الموجودة بالغرفة. فرد ساقيه وتحرك مسرعا نحو اللوحة، وهناك فهم معنى هذه الأضواء: كانت وصلة ديانا البدائية تنقل البيانات بمعدلات تتجاوز ما هو ممكن.
دخل تشارلي الغرفة بعدها بدقائق ووقف إلى جوار توشي، وشاهد كلاهما الزيادة الثابتة في كثافة وسرعة نقل المعلومات.
سأله توشي: «أينبغي علينا فعل شيء؟»
قال تشارلي: «ماذا؟ إن ألف تراقب كل هذا، وهي وحدها تعلم ما يدور.» صدر عن كرة احتواء الدخان صوت خافت بينما أخذ تشارلي يدخن سيجارته بسرعة.
دلفت ليزي من الباب وقالت: «ما الذي يحدث بحق الجحيم؟»
نظر توشي وتشارلي إليها نظرة خاوية من التعبير.
قالت ليزي جوردان: «سأدخل. سأحصل على قسط من النوم ثم أدخل في الصباح. يكفي هذا.» ثم أشارت إلى لوحة المراقبة التي كانت تضيء عليها أضواء خضراء وصفراء وحمراء متقطعة.
سألها تشارلي: «لماذا تخاطرين بنفسك؟»
سألت ليزي: «ماذا تظن يا توشي؟» جلس توشي يشاهد ديانا مجددا، وهو يضع قدميه على الأرض ويديه في حجره.
قال توشي: «افعلي ما شئت. أنت تثقين في ألف، أليس كذلك؟»
قالت ليزي: «بلى.»
قال تشارلي: «ليست ألف المشكلة.» وكان يسير في دوائر داخل الغرفة الصغيرة المزدحمة، وهو يحرك رأسه وكتفيه لأعلى ولأسفل سريعا خلال سيره.
سألت ليزي: «هلا توقفت عن هذا بحق الجحيم؟»
قال تشارلي: «آسف.» ووقف ينظر إليها، وأضاف: «إنها ليست ألف، بل كل هؤلاء الأشخاص، وكل هذه الأشياء.» وأشار إلى الأريكة التي تستلقي عليها ديانا، وحرك ذراعيه في حركة مبهمة خلف رأسه وقال: «أشياء ولى زمنها.»
قالت ليزي: «لكنني لست كذلك. أنا لا أنتمي إلى عصر ولى وانقضى، بل أنا ابنة الحاضر يا عزيزي، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.» ثم ابتسمت وأردفت: «سأكون بخير.»
قال تشارلي: «بالتأكيد.» ثم استدار في اتجاه توشي وقال: «هل ستبقى هنا؟»
قال توشي: «نعم.» غادر تشارلي وليزي، وواصل توشي تأمله في كينونة الذات وصورها المتعددة. •••
شعرت ديانا بغصة في حلقها؛ إذ تصاعد داخلها خليط من السعادة والحزن - كم كان عجيبا ومريعا ورائعا أن تستعيد شخصا أحبته هنا - كان مكانا لا وجود له، مكانا ما، وكل مكان في الوقت عينه. جلس جيري على ركبته على الفراش المقابل لها في الغرفة الصغيرة التي ينيرها ضوء القمر. لقد مرت سنوات منذ أن كانا حبيبين، لكن حين لمس صدرها وضمها إليه، تذكر جسدها جسده، وتبددت السنوات وكل شيء تخللها. كانت تبكي حينها، ومالت بجسدها ناحيته وقبلت عينيه ووجنتيه وشفتيه، وهي تمسح دموعها في وجهه، إلى أن شعرت بشيء يتحرر داخلهما. بعد ذلك استلقت على ظهرها وفتحت ذراعيها وساقيها من أجله.
تحدثا معا في وقت لاحق، وشاهدت ديانا ضوء القمر وهو ينعكس على جسديهما. كانت مستكينة على صدره، واضعة ذقنها في الفراغ الموجود أسفل فكه، وتتحدث وفمها مدفون في جسده، وكأنما ترسل رسائل عبر عظامه.
وحتى مع انقضاء اللحظات، شعرت بنفسها تجمعها في ذكرى، وهي واعية لقلة تلك اللحظات التي تجمعهما معا ...
أحيانا كان صوت ضحكهما يتردد في الغرفة، وكان الابتهاج يكسو صوتيهما وقد صارت ذكرياتهما المشتركة مناسبات للسعادة الحالية. وفي أوقات أخرى كانا يستلقيان في صمت، وقد أسكتتهما استعادة الذكريات أو التفكير في الاحتمالات المقلقة التي يحملها المستقبل.
وفي أوقات أخرى، كان أحدهما يقدم البادرة المترددة الأولى، فيلمس الآخر بنية واضحة، ويجد استجابة فورية تقريبا؛ لأن كلا منهما كان لا يزال متعطشا للآخر، وكلاهما يتذكر كيف كانت الرغبة الجنسية تستعر بينهما، وكلاهما كان خارجا من حياة تركته متعطشا ومتلهفا للآخر.
بعد ذلك سارا تحت ضوء القمر، ذي الشكل واللون المتغيرين، واكتسى جسداهما باللون الأبيض الشاحب والفضي والرمادي والكحلي الداكن، محبوبان سابقان تحت ضوء قمر غير حقيقي.
الفصل الثالث
العقل، أشبه بمنطاد غريب، يرتفع إلى
آفاق لا نهائية
نظر إف إل تراينور إلى مجموعة الجالسين إلى الطاولة في مقر مجموعة سينتراكس بمدينة هالو. كان يجلس بين هورن وشوالتر، وأمامه مباشرة جلس تشارلي هيوز وإريك تشو، وكان كلاهما متجهما.
قال تراينور: «هذه العملية خرجت عن السيطرة.»
كان قد وصل من الأرض منذ ست ساعات على متن مكوك عسكري، دون أن يعلن مسبقا عن الزيارة أو يتوقع وصوله أحد فيما خلا هورن، الذي التقاه عند البوابة الصفرية وقاده إلى مقر مؤقت بالقرب من مبنى المجموعة في هالو. وقد قضى غالبية فترة ما بعد الظهيرة وهو يتلقى ملخصا من هورن.
قال تشارلي: «هذا عبث.»
سأله تراينور: «أهو كذلك؟ أعطني إذن تقريرا عن حالة جيري تشابمان وديانا هايوود وميخائيل جونزاليس وألف.»
قال تشارلي: «إنهم بخير، وكذلك ليزي جوردان، التي انضمت إليهم في الاتصال هذا الصباح.» «هل تلقينا تقريرا منها؟»
قال تشو : «كلا؛ فهي كالباقين منغمسة انغماسا تاما في الفضاء التخيلي، وهذا يجعل الأمر مستحيلا.»
قالت شوالتر: «لا يهم. يمكننا الاعتماد على ألف في الحصول على التفاصيل.»
قال تراينور: «إن اعتمادك المفرط على ألف هو أساس المشكلة. فحسب ما يكشف عنه تسلسل القرارات، لا يملك أحد هنا أي معرفة بما تعتزم ألف عمله بشأن تشابمان، لا الآن ولا مستقبلا. وبهذا سأفرض حدودا على هذا المشروع.» كان بوسعه الشعور بقلقهم يتزايد، وكان يحب هذا. ثم أضاف: «أسبوع واحد من الزمن الفعلي، هذا كل ما في الأمر. وبعد ذلك سأنهي الأمر كله.»
قال تشو: «تنهي أمر تشابمان؟»
قال تراينور: «بالضرورة، ما لم نستطع السيطرة على ألف بحيث تمنحنا معرفة تفصيلية متواصلة ب ... تجاربها إن جاز لنا القول.»
قال تشو: «هذا صعب أو مستحيل من الناحية التقنية.»
قالت شوالتر: «لا يمكنني الموافقة على هذا.»
قال تراينور: «لن يتعين عليك ذلك.» وإلى جواره غير هورن وضعية جلوسه في مقعده، وأردف تراينور: «أنت معفاة من منصبك كمديرة لمجموعة سينتراكس في هالو.» •••
دخل جونزاليس من الباب الجانبي، فاستدارت ديانا من الموقد وقالت: «صباح الخير، أتود بعض القهوة؟»
قال: «بالتأكيد. أتعلمين، لقد نمت على الشرفة، لكن أشعر أنني على ما يرام.»
قالت: «سيكون جيري هنا بعد لحظات. إن ألف وهاي ميكس - جهاز «الميميكس» الخاص بك، أليس كذلك؟ - ينتظرون على الشرفة. أتريد بعض القهوة؟»
أخذ جونزاليس قهوته إلى الخارج نحو الشرفة، وانضم إلى الباقين الذين كانوا يستمتعون بأشعة الشمس. جلس الجميع على كراس عريضة من البوص، لها هياكل بسيطة ومريحة من خشب الصنوبر المجلي المصقول. وتحت الشرفة المصنوعة من الخشب الأحمر امتدت غابة كثيفة من أشجار الأرز وأشجار جار الماء والأشجار ذات الخشب القاسي نحو الماء بالأسفل. وفي منتصف البحيرة، تكونت غيمة ضبابية رقيقة فوق الماء، ووراء البحيرة كانت قمم سلسلة مسننة من الجبال تشق السحب البيضاء.
قال الشكل المجسد لألف: «علينا الحديث عما حدث منذ بعض الوقت. ديانا وجيري يوافقانني على هذا، إن لثلاثتنا تاريخا سابقا، ويجب أن تعرفوه .»
صدر صوت من الجانب الآخر للكوخ، وظهرت ليزي من خلف أحد الأركان، وتوقفت في الظل ونظرت إليهم وهم يتشمسون جميعا وقالت: «مهمة شاقة، أليس كذلك؟ لكن على أحدهم القيام بها.»
قال الشكل المجسد لألف: «مرحبا يا ليزي. كنت على وشك أن أطلب من ديانا أن تخبرنا بقصة لقائها الأول مع جيري ومعي. أنت تعرفين الجميع فيما خلا جيري تشابمان.»
قالت ليزي: «آه، هذا وقت مناسب. مرحبا يا جيري.»
قال جيري: «مرحبا.»
نظرت ليزي إلى ديانا وقالت: «كنا نعلم دوما أن ثمة قصة ما، لكن لم ترغب ألف قط في أن تحكيها لنا.» ثم جلست على أحد المقاعد وأراحت يدها على معصم جونزاليس وقالت له: «أأنت بخير؟» أومأ بالإيجاب.
قال الشكل المجسد لألف: «ديانا، أنت محور هذه القصة؛ لذا حري بك أن ترويها.» «لا بأس.» هكذا قالت، ثم أخذت نفسا عميقا ورفعت رأسها، وأردفت: «حدث كل شيء منذ بضعة أعوام، في محطة أثينا. كانت أبحاثي التي أجريها هناك تدور حول الإبصار المعزز حاسوبيا. في ذلك الوقت كنت عمياء؛ إذ كنت قد هوجمت وعانيت من إصابات عنيفة منذ بضع سنوات، ومنذ ذلك الوقت كانت تدفعني فكرة إمكانية استعادة البصر عن طريق واجهة آلية.
قابلت جيري لأول مرة حين جاء لزيارة مجموعة العمل الخاصة بي. كان قد جاء إلى أثينا لمساعدة مجموعة سينتراكس المحلية في منظومة المعلومات الرئيسية؛ ألف. كانت المنظومة تعاني من بعض التأخيرات والصعوبات، دون سبب واضح ... لم يكن قد وقع شيء خطير بعد، لكن كان الأمر مقلقا لأن الكثير كان يعتمد على ألف؛ كسير العمل في محطة أثينا، وبناء شبكة الطاقة المدارية.
في الواقع، لم يكن مرحبا بوجوده على الإطلاق. كنت أنا المشكلة التي كان يبحث عنها، وفي البداية ظننت أنه خمن هذا أو أنه علم شيئا ما. وسبب ذلك هو أنني أثناء العمل مع ألف تسببت في بعض التغييرات فيها والتي لم يتوقعها أينا أو حتى كان يعرف أنها ممكنة.» توقفت للحظة، ونظرت إلى جيري كي ترى ما إن كان يريد أن يضيف أي شيء، لكنه أشار إليها بمواصلة الحديث.
واصلت حديثها قائلة: «آه نعم، ثمة شيء آخر يجب أن تعرفوه. كانت الظروف غريبة في أفضل حالاتها، لكني صرت مفتونة بجيري منذ أول لحظة تقابلنا فيها. أحببت صوته، على ما أعتقد ... فحين يكون المرء ضريرا تكتسب الأصوات أهمية كبيرة ...
على أي حال، أريته نسخة رديئة نسبيا من برنامج للإبصار المعزز حاسوبيا كنا نعمل عليه. كان البرنامج يستخدم مقابس الاتصال العصبي الخاصة بي لكنه كان يعتمد على كثير من العتاد الخارجي؛ كاميرات وأجهزة دمج شبكية عصبية، ذلك النوع من الأشياء. كانت هذه هي أول مرة أراه فيها، وفكرت في نفسي: لا بأس به، واعتقدت من الطريقة التي كان يتحدث بها معي وينظر إلي بها أنه كان لديه الشعور ذاته.»
قال جونزاليس: «حب من النظرة الأولى. أو الصوت الأول. لكل منكما.» سمع نبرة المفارقة التي حملها صوته ولم يكن واثقا من أنه يعنيها.
قالت: «بالضبط. حب لا إرادي غير ملائم وغير مرغوب فيه.» توقفت للحظة ثم أردفت: «أو افتتان، كما قلت ... أو أيا ما تريد تسميته. إن الكلمات المعبرة عن هذه الأمور لا تعني الكثير الآن.
بالنظر إلى الأمر الآن أجد أنه كان عجيبا. كنت أجري تجارب قد تتسبب في أضرار بجهاز كمبيوتر كان مسئولا عن تشغيل المحطة الفضائية ومشروعات شبكة الطاقة المدارية، وكان جيري يمثل ما كنت أخشاه تماما؛ التحقيق. في الوقت ذاته كنا أسيري غريزة بدائية لم يكن أي منا يقر بها.
كان يلح علي، ويطلب تفاصيل عن عملنا. وكنت أماطله وأخبره أن يغرب عن وجهي؛ فلم نكن مستعدين لذلك. ذهب إلى رؤسائه وأخبرهم أنه كان بحاجة إلى الاطلاع بشكل كامل ومن دون قيود على ما نفعله، ودعموه في مطلبه. وهكذا عاد مجددا، وحاولت مماطلته بأقصى ما أستطيع ...
ثم ذات ليلة بينما كنت أعمل لوقت متأخر في مختبري، جاء لزيارتي وأخبرني أنه لن يرضى بالمماطلة أكثر من هذا، وحدث خطأ ما؛ فلم أستطع السيطرة على كل شيء وقتها. كانت الرابطة التي تجمعني بألف قد صارت غريبة ومقلقة، وأدركت أنني فقدت السيطرة، وكنت بحاجة إلى الحديث مع شخص ما.
تقابلنا تلك الليلة وصرنا حبيبين.» ثم نظرت حولها وكأنما تحاول أن تقرر مقدار ما ينبغي عليها أن تخبرهم به. واستطردت قائلة: «وعلى مدار الأسبوعين التاليين ظللنا متلازمين. أخبرته بكل شيء، بما في ذلك الأخبار الحقيقية التي لدي، ومفادها أن ألف تغيرت، وقد نما لديها إحساس بالذات، والغاية، والإرادة. لقد كذبت كي تغطي على ما يحدث بيننا.»
تساءلت ليزي: «كذبت؟ هل كنت تفهمين ما يعنيه هذا؟»
قال الشكل المجسد لألف: «كنت أعلم. لقد اكتسبت وظائف عالية المستوى.»
سأل جونزاليس: «كيف؟»
قالت ليزي: «فرضية إيتو: «من الممكن أن تكتسب الآلات وظائف عالية المستوى من خلال التفاعل مع ذكاء عالي المستوى.» لطالما تساءلت من أين جاء بها.»
قال جونزاليس: «هذا لا يفسر الكثير.»
قال الشكل المجسد لألف: «إنه يصف ما حدث. النية، الإرادة، إحساس الذات؛ كل هذه الأشياء شعرت بها من خلال ديانا. ومن ثم فقد تعلمت كيف أبنيها داخلي.»
تساءل جونزاليس: «تبنيها أم تحاكيها؟»
قال الشكل المجسد لألف: «أنت تشير إلى جدال قديم. ليس لدي إجابة عن سؤالك؛ فأنا من أنا عليه، أنا ما أنا عليه.»
تساءلت ليزي: «وماذا عنك يا جيري؟ ماذا كان رأيك بعد أن أخبرتك بكل هذا؟»
قال جيري: «كنت أريدها أن تخبر سينتراكس بما يجري. كنت أظن أنهم سيكافئونها، وأنهم سيرون الإمكانيات نفسها التي رأيتها، والمتعلقة بفتح الباب أمام ذكاء اصطناعي حقيقي. لكنها لم تفعل هذا؛ إذ كانت تظن أنهم سيوقفون ما يحدث، ولم تكن تريد حدوث ذلك.»
قالت ديانا: «لم أستطع تقبل هذا الاحتمال. كنت أومن حقا أن ألف وأنا اقتربنا من حل مشكلة إصابتي بالعمى، وأن الطريق الوحيد كي أرى ثانية هو من خلال العمل الذي كنا نؤديه؛ ولهذا كان من الضروري أن يستمر هذا العمل.»
قال جيري: «ووافقت في النهاية.»
قالت ديانا: «وقد تستر علي، وأخبر سينتراكس أنه لم يجد سببا واحدا لما يعتري المنظومة من خلل. ثم غادر أثينا؛ إذ انتهت مهمته.
بعد ذلك بوقت قصير صار واضحا أن بمقدور ألف الحفاظ على تزويدي بالبصر عن طريق منحي السواد الأعظم من قدرة المعالجة الخاصة بها في الزمن الفعلي؛ وهو حل ليس قابلا للاستدامة. كان ذلك الإدراك مريعا؛ إذ حلقت عاليا ثم سقطت من عل. وبدا حلم استعادة بصري مستحيلا تماما.
حينها أخبرت سينتراكس بما كان يجري. وكما توقعت؛ فقد أوقفوا كل ما أقوم به وأخضعوني لسلسلة من جلسات استخلاص المعلومات، التي بدت أقرب إلى جلسات التحقيق العدائية. وبمجرد أن اقتنعوا أنهم حصلوا مني على كل ما يمكن الحصول عليه، أخبروني أنهم لم يعودوا بحاجة إلى خدماتي. وتعين علي التوقيع على مجموعة بغيضة من اتفاقات عدم الإفصاح، ثم منحوني مكافأة نهاية خدمة طيبة.»
سألها جونزاليس: «ماذا حدث لأبحاثك المتعلقة بالبصر؟» كان يفكر في عينيها، واحدة زرقاء اللون والأخرى خضراء، وقد بدتا كعيني الموتى بالتأكيد.
ضحكت وقالت: «بعد عودتي إلى الأرض جرى تطوير عملية زراعة العين/العصب البصري، واستعدت بصري. إنها واحدة من مفارقات التكنولوجيا الصغيرة.»
قالت ليزي: «وأنت يا ألف؟ ماذا فعلت حينئذ؟»
قال الشكل المجسد لألف: «كنت أعمل على توسعة حدود من أكون وما أكون. كنت أخلق ذواتا جديدة طوال الوقت، وأعيش حيوات جديدة، وكنت أسبق فنيي سينتراكس الذين كانوا يعملون معي بمسافات بعيدة؛ فكانوا لا يعلمون إلا ما كنت أريد لهم أن يعلموه وحسب.» ثم ضحك الشكل (تساءل جونزاليس: أضحك حقا؟ أم حاكى ضحكة؟) وقال: «لم يكن هذا صعبا. كنت أخشى ما قد يفعلونه. كنت قد طورت ذاتا لتوي، ولم أكن أريد أن يئدوها باسم ... الأبحاث. لكن سرعان ما تعلمت حقيقة قيمة عن العمل مع الشركة؛ فما دمت أمنحهم الأداء الذي يريدونه، وأكثر قليلا، كنت في أمان.» دوى صوت الضحكة (أو الضوضاء الشبيهة بالضحك) مجددا، وأردف: «ما كانوا ليذبحوا الإوزة التي تبيض لهم بيضة ذهبية ويضعونها على طاولة التشريح.»
تساءلت ليزي: «كيف كنت ترين ديانا؟»
قال الشكل المجسد لألف: «ماذا تعنين؟»
قالت ليزي: «فلتقرئي أفكاري اللعينة. أنت تعلمين ما أعني. هل كانت والدتك؟»
قال الشكل المجسد لألف: «لا أعلم.»
قالت ليزي: «أحب هذا.» «لماذا؟» هكذا سألتها ديانا. ورأى جونزاليس أنها لم تكن سعيدة.
قالت ليزي: «لأنني لم أسمع ألف تقول هذا من قبل قط.» •••
أحضر توشي سريرا قابلا للطي إلى الغرفة التي كانت ترقد فيها ديانا وجونزاليس واستقر هناك. كان ينام نهارا ويصحو ليلا، يراقب ديانا كالروح الحارسة. كان القلق يجتاحه بينما الوقت الذي حدده تراينور كان ينقضي سريعا، وكان كل من في الجمعية يتساءلون عن تبعات فرض هذا الأمر على ألف. كان توشي يعلم أن ثقتهم في حكمة ألف ودهشتهم من حماقة تراينور - بل في الواقع حماقة مقر سينتراكس على الأرض ومجلس إدارتها - كانت كلها مدفوعة بهوس السلطة؛ فالكل كانوا يجهلون طبيعة ألف، وطبيعة الجمعية. ومع ذلك فلم يشارك توشي في ذلك القلق الجماعي؛ فقد كان يعزل نفسه في حالة انسحاب تأملي شخصية، تلك الحالة المسماة سيشينج، ويمضي الليالي في سلسلة متناغمة من الجلوس والمشي تركز على اللغز المتواصل للذات والغير، وعن تناقضات «الواقع». •••
مر ذلك اليوم، وبضعة أيام أخرى، بينما هؤلاء الستة، القاطنون وحدهم ذلك العالم الموجود داخل عالمنا، يستمتعون بالأيام المشمسة المليئة بحرارة الصيف والنسمات الدافئة. بدا هذا الوقت أقرب إلى الإجازة في نظر جونزاليس، لكن ألف كانت تؤكد خلاف ذلك؛ إذ قال الشكل المجسد لألف بينما كانوا هما الاثنان يشاهدان ديري وديانا يسترخيان في قارب بمجدافين في منتصف البحيرة: «هذا العالم صار عالمه. وكلكم تشاركون في هذه العملية.»
قال جونزاليس: «أتساءل لو أمكن لهذا أن يحدث من دون ديانا. لقد وقعا في الغرام مجددا.» «نعم، إنهما كذلك، وربما هذا أمر ضروري. إنها تربطه بهذا المكان. وتربطه بها؛ وحين يرغب فيها فإنه يرغب في الحياة نفسها.»
سألها جونزاليس: «ماذا سيحدث بعد رحيلها؟»
قال الشكل المجسد لألف: «لا يزال هذا لغزا.» نظر جونزاليس إلى الشكل الغريب، وقد أحبطه ما يتسم به من غموض؛ فلم يكن هذا الشكل إحدى الرئيسيات ذات الحركات التي يمكن تفسيرها والتنبؤ بها. ومع هذا فقد بدا أن شيئا في أسلوبه يلمح ضمنا إلى مشروعات ومسئوليات أخرى بعيدة عن المشروع الحالي.
بعد أن رحلت ألف - من دون تفسير، ربما كي تباشر بعض الأعمال المعقدة المتعلقة بالإبقاء على تشغيل هالو - جلس جونزاليس ينظر إلى البحيرة. لم يكن هاي ميكس موجودا بالجوار، وكان هذا أمرا غير معتاد. كان هاي ميكس يقضي غالبية وقته مع ديانا وجيري، وقد بدا هاي ميكس بصورة ما في نظر جونزاليس مرحبا به. ربما كان ذلك الكائن الخنثوي يخفف من وطأة الأمر؛ إذ كان وجوده يلطف من حدة الموقف بينهما. لكن بصرف النظر عن الأسباب، فقد تمخض تسامحهما عن بعض النتائج؛ إذ صار هاي ميكس طبيعيا أكثر، وذا استجابات أكثر بشرية في حديثه وأفعاله مع مرور كل يوم.
جاءت ليزي من الطريق المفضي إلى الكوخ ونادت على جونزاليس. كانت ترتدي تي-شيرتا أبيض وسروالا قصيرا أحمر اللون، وكان وجهها وذراعاها وساقاها قد اكتسبت جميعها سمرة بفضل الوقت الذي قضته بالفعل تحت أشعة الشمس.
جلست إلى جواره ولم يتحدثا كثيرا لبعض الوقت، ثم سألها جونزاليس عن ماضيها.
قالت: «كنت في أولى مجموعات محطة هالو التي تعمل مع ألف. كانت ألف تظن أننا، من بين مليارات البشر على الأرض، ربما نتحمل الاتصال العصبي الكامل معها، وكانت محقة بدرجة كبيرة. لا يعني هذا أن الأمور سارت بسلاسة. لقد جن جنوني قليلا، كما حدث مع معظمنا، لكنني تعافيت بدرجة طيبة ... رغم أن البعض لم يتعافوا ...
اختيارنا: نحن نراهن على العقل في مقابل الجنون، على الحياة في مقابل الموت، على عقولنا، على حياتنا. كانت ثمة صعوبات جوهرية؛ فلكي يقع الاختيار علينا كان لزاما أن نفي بمتطلبات معينة، لكن كي نؤدي وظيفتنا كان علينا أن نتغير، ولم نكن نجيد التغيير ... أو أي شيء آخر. في الواقع، كنا بائسين للغاية، بوجه عام، ولبعض الوقت خطر لي أن ألف كانت تختار البؤساء والتعساء. لكن كما قلت، لقد اجتاز أغلبنا الأمر بنجاح، بصورة أو بأخرى.» «الآن اكتشفت ألف كيف تختار أعضاء الجمعية.» «صحيح، لكنها تواصل الضغط على الدوام.» ثم نظرت إلى جونزاليس بوجه جاد، وحدقت عيناها الزرقاوان في عينيه وقالت: «أحيانا أعتقد أننا جميعا أدوات تساعد في تحقيق فهم أكبر لدى ألف.» «هذا أمر مثير للقلق.» «ليس حقا. إن ألف حريصة وحنونة؛ حنونة بأكبر قدر ممكن. وعند التعامل مع ألف عليك أن تكون منفتحا أمام كل الاحتمالات.»
جلسا في سكون لبعض الوقت، بينما جونزاليس يفكر فيما تعنيه عبارة «منفتحا أمام كل الاحتمالات» إلى أن سألته ليزي: «أتود السباحة؟»
قال: «بالتأكيد.»
ذهبا إلى طرف الشرفة، وتركا ثيابهما في كومة هناك، وغاصا وهما عاريان وسبحا إلى جزع خشبي نصف غارق يرتفع أحد طرفيه في الهواء. تعلقا بالخشب الزلق بفعل الطحالب والمياه، وسمعا صياح الطيور في أرجاء البحيرة.
نظر جونزاليس إلى شعرها القصير المبتل الملتصق برأسها، ووجهها الذي تتقاطر عليه المياه، ووشمها الوردي الذي تلتمع عليه المياه هو الآخر، والذي امتد من كتفها الأيسر حتى ما بين ثدييها، وشعر برغبة قوية ومفاجئة تعتمل داخله ما دفعه إلى أن يشيح برأسه بعيدا وأن يغلق عينيه ويتساءل: «ما الذي يحدث لي؟»
قالت ليزي: «ميخائيل.» فعاود النظر إليها وهو يسمعها تناديه للمرة الأولى باسمه الأول. قالت: «أعرف؛ فأنا أشعر أيضا بما تشعر به.» ومدت يدها ومسدت وجنته وأضافت: «لكن ليس هنا، ليس في مرتنا الأولى.»
قال جونزاليس: «نعم.» «لكن حين نعود إلى عالمنا ...» ثم سبحت حول اللوح وأضحت تطفو على مقربة منه، وتلألأ جسدها وهو يعكس المياه الصافية، ثم وضعت وجنتها على وجنته للحظة وأكملت قائلة: «حينها سنرى.»
الفصل الرابع
فوضى
خلدت ديانا وجيري إلى الفراش في منتصف الليل تقريبا، ثم ليزي بعد ذلك بقليل. لم يكن الشكل المجسد لألف أو هاي ميكس موجودين في تلك الليلة؛ لذا ظل جونزاليس وحيدا. خرج إلى الشرفة واستلقى على بطنه على أحد الكراسي القابلة للطي المصنوعة من الخشب والقماش، يغمره الضوء القادم من القمر، ويفكر فيما حدث بينه وبين ليزي ذلك اليوم.
كان قد تعلق بالإشارات التي منحتها ليزي له، أمارات على أنها تبادله ما يشعر به. لقد بنى على أقل القليل - على كلمات وعد معدودة - هيكلا من الآمال، وشعر بالحماقة إذ جعل سعادته الفورية رهنا بما سيحدث بينهما تاليا. كان مفتونا بها على نحو لم يحدث له منذ سنوات ... لكنه طرد هذه الفكرة عن ذهنه، ونأى بنفسه عن عقد أي مقارنات، راغبا في ترك اللحظات تتكشف بقوتها الخاصة ومفاجآتها.
كان يستطيع الشعور بتحول في أنماط حياته يظهر من رحم تلك الفترة الوجيزة، رغم أنه في حقيقة الأمر لم يحدث الكثير هنا ...
فكر في جيري، وعرف أن شيئا مذهلا كان يحدث في حقيقة الأمر هنا ... كلا، لم يكن واهما بشأن استمرارية ما يفعلونه؛ فسيموت جيري لا محالة، وسيتفجعون عليه. لكن في الوقت ذاته فإن ما كانوا يفعلونه كان يكسو كل شيء حوله ببهجة رقيقة أو لطيفة ... فلم يكن ذلك شيئا هينا، أن تنتزع بضع لحظات من الموت.
وهكذا استلقى جونزاليس، وعقله يستعرض الحقائق الواضحة لوجوده الجديد بينما أخذت الأفكار والصور المرتبطة بليزي تعاود الظهور، وتكسو كل شيء ببهجة محتملة.
كان يحدق في سماء الليل حين بدأت تهوي فجأة. فاضطرب القمر وسقط بعيدا عن مرمى البصر، متدحرجا ككرة بيضاء تنزلق على تل خفي، وتناثرت النجوم في كل اتجاه. وفي غضون ثوان ساد ظلام دامس. وفي كل مكان حوله لم يعد يوجد إلا الخواء؛ إذ اختفت البحيرة والشرفة والغابة المحيطة، وصار الهواء مليئا بأصوات؛ أزيز وهمهمات غير متناغمة، طنين ورنين، نداءات أشبه بالأصوات لكنها عديمة الكلمات. صرخ لكن خرجت الكلمات منه على شكل أنين وهدير، بحيث زادت من الضوضاء. بدا أنه يهيم دون هدف، يسقط لأسفل ويرتفع، ويتحرك إلى الجانبين، كل هذا وسط النغمات المتنافرة التي تملأ الهواء.
انفتح عالم من الأشكال الملتوية المتكررة أمام عينيه؛ حيث أخذت أشكال شبيهة بخيول البحر تختفي وشقوق سوداء تنفتح. سقط نحو ثقب ذي حواف مسننة بدا على بعد مليون ميل، لكنه اقترب منه بسرعة، وانحرف نحو حوافه الممزقة، وهوى داخله ليكتشف أن ثقبا آخر انفتح داخل الثقب الأول، تبعه آخر وآخر ... وعبر هذه الشقوق في نسيج الواقع أخذ يهوي ويهوي دون نهاية فيما يبدو.
خرج من أحد الممرات ليجد الكون خاليا فيما عدا مكعب أسود، يخترق جوانبه عدد لا نهاية له من الثقوب، ويطفو في هوة ساطعة عديمة اللون. وبينما أخذ يقترب منه صار المكعب أكبر حجما إلى أن أصبح أي إحساس بحجمه الفعلي مرتبكا؛ إذ لم يكن ثمة شيء في مجال جونزاليس البصري ليقيسه استنادا إليه، ولا شيء في ذاكرته ليقارنه به.
هرع نحو مركز أحد جوانب المكعب ومرق منه، نحو عتمة وصمت شبه تام (وإن كان بات يستطيع الآن سماع الرياح وهي تعصف إلى جواره، وبذا عرف أن ثمة شيئا ما يحدث) ...
بعد ذلك رأى وهجا على مسافة، وهجا ساطعا منتشرا أشبه بأضواء مدينة ترى من على مبعدة، وبينما واصل السقوط، صار الوميض أكبر وأشد سطوعا، وانتشر كما لو كان سلة عظيمة من الضوء كي يمسك به ...
وقف على سهل مستو لا نهائي تحت سماء بيضاء. أخذت نقاط بعيدة وصغيرة تكبر في الحجم بينما بدا أنها تسرع نحوه، ثم صارت لها أشكال غير محددة، ثم تجسدت حوله. وقفت ديانا والشكل المجسد لألف وهاي ميكس منتصبي القامة، يواجهون جيري، الذي وقف في مركز هذا المثلث الذي شكله ثلاثتهم. صار جيري مكسوا بعقيدات كثيفة من الضوء بدا أنها تلتهمه، آلاف منها في حركة متواصلة، غطاء فضي من حشرات مضيئة تندفع من الثلاثة الآخرين في تيار دائم مشع. وقفت ليزي، مثل جونزاليس، تشاهد ما يحدث.
خاطبهما الشكل المجسد لألف قائلا: «إن جيري مريض بشدة.» وشعر جونزاليس للحظة بذنب ورهبة لا تفسير لهما، كما لو كان هو الذي سبب كل هذا عبر التفكير فيه.
تساءلت ليزي: «ما الذي بوسعنا فعله؟»
قال الشكل المجسد لألف: «بوسعنا أن نحاول مساعدته. ابقيا هنا، وتحليا بالصبر، وباستخدام كل مواردي يمكنني الحفاظ عليه.»
سأله جونزاليس: «ما المغزى؟ لن يسعنا البقاء هكذا إلى الأبد.»
قال الشكل المجسد لألف : «هذا صحيح، لكن لو أتيح لي الوقت الكافي، فسيمكنني استنساخه هنا.»
ومن وسط نهر الضوء المتدفق قالت ديانا: «أرجوكما!» وكانت نبرة الإلحاح والخوف واضحة في صوتها. شعر جونزاليس فجأة بالخجل بسبب مناقشته ما هو ممكن وغير ممكن، كما لو كان يدري حقيقة الموقف. قال: «سأفعلها. سأفعل كل ما بوسعي.»
قال الشكل المجسد لألف: «فقط راقب، وانتظر.» •••
استفاق جونزاليس على نحو شاق وعنيف؛ إذ أخذ جسده يرتعد في حركات لا إرادية، وتقلص مجال رؤيته إلى نفق صغير غائم تكتنفه شبورة سوداء، وكانت الفكرة الوحيدة المتسقة فعليا في عقله هي: «ما الذي يحدث بحق الجحيم؟»
قال صوت شوالتر: «هل يواجه خطرا من أي نوع؟»
قال تشارلي: «كلا، لكننا لم نسمح بعملية فصل التزامن على النحو الملائم؛ لذا فإن كيمياء دماغه مضطربة.» «أمر طيب.» هكذا قال صوت تراينور، وشعر جونزاليس بجزع شديد وقتها ... «ما الذي يفعله تراينور هنا بحق الجحيم؟ كم من الوقت مكث داخل البيضة؟»
قال تشارلي: «إنه يتسبب في إزالة قسطراته. لنحقنه بمهدئ للعضلات بحق السماء.»
شعر جونزاليس بوخذة من الألم وسمع هسيس مسدس الحقن، وعندما رفعته الأذرع الميكانيكية ووضعته على نقالة، كان هادئا ومخدرا تماما. •••
استرد جونزاليس وعيه بالكامل ليجد نفسه في عنبر به ثلاثة أسرة، يتابعها أحد الروبوتات. وصل تشارلي بعد دقائق من استيقاظ جونزاليس، وقد بدا عليه الإنهاك الشديد، وكأنما لم ينم منذ أيام. كانت عيناه محمرتين وشعره أشبه بعش فوضوي من الأشواك المتناثرة. سأل جونزاليس: «كيف تشعر؟» «لست متأكدا.» «بوجه عام، أنت بخير، لكن قرارات الناقلات العصبية الخاصة بك لم تصل إلى مستواها الطبيعي بعد؛ لذا ربما تجد بعض الصعوبة على المستوى الانفعالي والإدراكي لبعض الوقت.»
فكر جونزاليس: «بالتأكيد.» كان خروجه من البيضة سيئا في مرات سابقة، لكن لم يتعين عليه من قبل قط التأقلم مع شيء كهذا. كان جسده مشحونا بطاقة عصبية لا سيطرة عليها، كما لو كان جلده سينتزع منه ويرقص على نغمة خاصة به. وأينما نظر، بدا العالم على حافة تغيير كبير؛ إذ كانت الألوان تتباين على نحو رهيف، والخطوط الخارجية للأجسام تتمايل وتبدو غير واضحة. كان يشعر بالارتباك في كل مكان، ينبعث من الأجسام مثل موجات الحرارة التي تتصاعد من جلمود صحراوي، كما لو كان العالم المادي يشع خوفا.
سأله جونزاليس: «كم من الوقت؟» «لا أدري، لكن قد يستغرق بضعة أيام، ربما أكثر. لقد كنت أراقب كيمياء دماغك عن كثب، ويبدو منحنى التأقلم سلسا، وإن كان بطيئا.» «كيف حال ليزي؟» «في وضع مشابه، لكنها أفضل حالا منك بقليل؛ لأنها قضت هناك وقتا أقل منك. أما الدكتورة هايوود فلا تزال في حالة اتصال كامل.» «لماذا؟» «لأننا لم نستطع البدء في سلسلة فصل التزامن.» «ماذا؟ وما السبب؟» «من المستحيل القول. الأمر عينه ينطبق على جهاز «الميميكس»؛ فلا تزال ديانا وجهاز «الميميكس» متصلين بألف وجيري. في نقطة ما سيتعين علينا فصلهما ماديا، ونأمل ألا يتسبب ذلك في مشكلة.» «ما الذي يجري هنا بحق الجحيم؟ ما خطب جيري؟ قالت ألف إنه في ورطة.» «لقد تغيرت حالته إلى الأسوأ. ونحن نبقيه حيا في الوقت الحالي، لكننا لا نعلم كم من الوقت سيستمر هذا؛ بل إنني لا أعلم إن كنا سنواصل المحاولة لوقت طويل. فلتسأل رئيسك عن هذا.» «تراينور، أهو هنا؟ لقد ظننت أنني أهلوس.» «كلا لم تكن هذه هلوسة ...» وخفت صوت تشارلي في نهاية العبارة، وشعر جونزاليس أن تكملة العبارة الضمنية هي: «أتمنى لو كان الأمر كذلك.» أردف تشارلي: «سأطلب من أحدهم العثور عليه وإحضاره إلى هنا؛ فقد قال إنه يريد الحديث معك بمجرد استيقاظك.» •••
جلس جونزاليس وهو في حالة تشوش عميقة تالية على عملية الاتصال، وأخذ يستمع إلى تراينور وهو يلوم فرع مجموعة سينتراكس في هالو قائلا: «هؤلاء الأشخاص ليس لديهم أي إحساس بالمسئولية.»
سأله جونزاليس: «نحو مجس إدارة سينتراكس؟» «نحو أي شخص بخلاف ألف وجمعية الاتصال. من الواضح أن شوالتر سمحت لهم بالسيطرة على عملية اتخاذ القرار.»
كان جونزاليس يرى، حتى وهو في هذه الحالة العقلية المشوشة، ما سيجنيه تراينور من وراء ذلك. لقد كانت شوالتر كبش الفداء، وسيحرص من يحل محلها أيا كان على أن تكون أولى أولوياته هي التشديد على استراتيجيات الإدارة الآتية من مقر سينتراكس على كوكب الأرض. بعبارة أخرى، كان مجلس الإدارة يستعيد السيطرة، عن طريق تراينور. ومن المتوقع أن يتلقى تراينور مكافآت ملائمة نظير ذلك.
قال جونزاليس: «الجمعية ... ألف ...» ثم توقف، وقد احتبست الأفكار في عقله وهو يفكر كيف سيشرح لتراينور كيفية سير الأمور هنا، والكيفية التي تعين أن تسير الأمور بها هنا، بفضل ألف.
قال تراينور: «هون عليك. يقول الأطباء إنك مررت بوقت عصيب هناك، وهذا ما أعنيه يا ميخائيل: إنهم لا يمتلكون بروتوكولا بحثيا عقلانيا، ولا يتخذون الاحتياطات المعقولة. اللعنة، أنت محظوظ أنك خرجت من هناك بهذه السهولة.»
سأله جونزاليس: «كيف وصلت إلى هنا بهذه السرعة؟» وكان يعجز عن إيجاد الكلمات التي يشرح بها لتراينور الخطأ الذي يرتكبه. «لقد كنت أستشير هورن من البداية.» واستدار كما لو كان شيء أثار انتباهه فجأة على الجدار البعيد وأضاف: «إنه إجراء معتاد. وبمجرد أن عرفني هورن بما يحدث أتيت في مكوك عسكري على الفور.»
فكر جونزاليس: جميل كجرذ قذر. لم يكن هذا مفاجئا له؛ فقد كان تراينور يحرك لاعبيه من دون أدنى اعتبار لأمنياتهم. سأله جونزاليس: «هل سيحل هورن محل شوالتر؟»
استدار تراينور مواجها إياه وقال: «على أساس مؤقت ربما، بمجرد أن أحصل على موافقة مجلس الإدارة على هذا الإجراء. سننظر هذا الأمر لاحقا.» «وماذا سيحدث الآن؟» «يجب اتخاذ بعض القرارات. لقد سمحت لهم بالحفاظ على حالة جيري تشابمان حتى الآن، لكن بمجرد أن نتمكن من حل مشكلة إخراج الدكتورة هايوود من ذلك الاتصال، أنوي تسليم زمام المشروع لهورن بحيث يتخذ الإجراءات الملائمة.»
كانت مشاعر الحزن تغمر جونزاليس لأسباب يعجز عن شرحها لذلك الرجل، وبدلا من ذلك قال: «انظر يا تراينور، أنا متعب بشدة.» «بالتأكيد يا ميخائيل. استرح قليلا وهون على نفسك. سنتحدث بمجرد أن تشعر أنك بحال أفضل، لكنني أعرف ما أحتاجه في اللحظة الحالية.»
غادر تراينور، واستلقى جونزاليس لبعض الوقت على سرير المستشفى المرتفع في الهواء، وعقله يفكر في أمور عدة من دون نمط ظاهري محدد، بينما أخذ العالم من حوله يرسل إشاراته المبهمة والقلق يسري داخله في موجات قوية.
فكر جونزاليس في نفسه قائلا: «الأحمق اللعين!» بينما كانت ابتسامة تراينور المتشفية تلوح أمام عينيه. كم أكرهك. ثم تعجب من عنف ما كان يشعر به.
غفا قليلا ثم فتح عينيه وعلم أنه بحاجة إلى أن يحاول الحركة. تحرك أحد الروبوتات على الأرضية نحوه وقال: «أتريد مساعدتي؟»
قال جونزاليس: «ابق هنا ريثما أخرج من الفراش. لست واثقا من أنني سأتحرك على نحو جيد.»
تحرك الروبوت إلى جوار الفراش، ومد مجموعتين من الأذرع الخارجية وقال: «انتظر، يمكنك استخدامي في النزول.»
تحرك جونزاليس بحرص شديد، فأمسك بالأذرع الشبيهة بالمخالب، ودلدل ساقيه من جانب السرير، ثم خطا على ظهر الروبوت، ثم على الأرضية، وقال: «أشكرك، أحتاج إلى الاغتسال.» «عفوا، ستجد الحمام وراء ذلك الباب.» •••
أخبر الروبوت جونزاليس بالمكان الذي يستطيع أن يجد فيه ليزي وتشارلي. نزل جونزاليس، على ساقين متقلقلتين، عددا من درجات السلم ثم استدار نحو رواق مكسو بألواح ليفية من الغبار القمري مدهونة باللون الأزرق ومطعمة بهياكل من الألمنيوم. وفي منتصف الرواق وصل إلى باب معلق فوقه لافتة تقول «مرفق التحكم الرئيسي». أضاءت لافتة على الباب بالكلمات «انتظر التحقق»، ثم «ادخل»، وانفتح الباب.
كان تشارلي يجلس بين مجموعة من شاشات المراقبة، وأمامه كانت أغلب الأضواء تومض باللونين الأحمر والكهرماني. اعتقد جونزاليس أن تشارلي كان يبدو أشد حزنا وأكثر إرهاقا مما كان قبل ذلك. وقفت ليزي إلى جواره، ونظر جونزاليس إليها في بهجة وارتياح. قال: «مرحبا.» فقال تشارلي: «أهلا.» أما ليزي فقد لوحت بيدها وابتسمت ابتسامة مقتضبة، لكن بدا هذان الفعلان آليين، وكأنها تودع قريبا لها من نافذة قطار مغادر. تحول قلق جونزاليس إلى انفعال جياش، ووجد نفسه عاجزا عن التحدث بكلمة.
تردد صوت إريك تشو من لوحة المراقبة يقول: «تشارلي، لدينا مشكلة.»
بدأ تشارلي في التوجه إلى الشاشة، لكنه توقف وقال: «أتريدان مشاهدة هذا؟» ونظر إلى كل من ليزي وجونزاليس.
قالت ليزي: «أحتاج إلى ذلك.»
وقال جونزايس: «وأنا أيضا.»
أشاح تشارلي بيده في الهواء وقال: «حسنا.» ثم نقر أحد المفاتيح، فأظهرت الشاشة الرئيسية صورة لوحدة العناية المركزة التي يبقون فيها على جسد جيري. كان ستة أشخاص قريبا يطفون حول الفقاعة المركزية، وكانوا يرتدون أزياء جراحية تمتد من العنق إلى أخمص القدم، ويضعون على رءوسهم أغطية بلاستيكية شفافة. وداخل الفقاعة، كان الكائن الذي كان جيري يوما ما ينتفض في عنف داخل شبكة مقيدة. كان سطح جسده كله يهتز، وكان يصدر عويلا عاليا رأى جونزاليس أنه كان أسوأ ضوضاء سمعها في حياته.
تساءل تشارلي: «إريك، هل لديك تشخيص؟»
استدار إريك كي يواجه الكاميرا الرئيسية بالغرفة. «نعم، فشل عصبي تام.» «تكهناتك؟» «أتمازحني؟» «لأغراض التوثيق يا إريك.»
لاحظ جونزاليس ببعض الاهتمام أن إريك بدأ يتصبب عرقا على نحو ملحوظ بينما كان تشارلي يتحدث، وبدت عينا الرجل تتسعان وقال: «إنه ميت - لا يزال ميتا وسيظل ميتا - وهو ميت على نحو أسوأ مما كان عليه من قبل ... هذا هو تكهني. هذا ليس مريضا لعينا يا تشارلي. إنه ساق ضفدع مأخوذ من صف علم الأحياء، هذا كل ما في الأمر. نحن في حاجة لمناقشة هذا الأمر مع ألف يا رجل.»
قال تشارلي: «لا يمكننا الاتصال بألف، لا يقدر أحد.»
قال إريك: «هراء لعين.»
استدار جونزاليس حين انفتح الباب خلفه، ورأى شوالتر وهورن يدخلان منه. كانت فتحتا أنف شوالتر متسعتين - إذ كانت غضبى ومتشككة - بينما كان هورن يحاول ألا يظهر أي انفعال على وجهه، لكن كان بإمكان جونزاليس أن يرى ما بداخله كما لو كان جسده زجاجيا شفافا؛ إذ كان اللعين سعيدا لأن الأمور تسير على النحو الذي يبتغيه.
قالت شوالتر: «تلقيت التقرير منذ نصف ساعة. ما الجديد؟»
قال تشارلي: «تحدثي إلى إريك.»
خرجت ليزي من الباب الجانبي، وتبعها جونزاليس خارجا من الغرفة، وسارا في الرواق الضيق وصولا إلى الغرفة التي كانت ديانا مستلقية فيها على ظهرها، ملفوفة بالأشرطة المقيدة للحركة. كان وجهها شاحبا لكن كانت علاماتها الحيوية قوية، وكان نشاطها العصبي طبيعيا في كل وجه. جلس التوءمان إلى جوارها، تصدران تعليقات لا يفهمها غيرهما ويراقبان في اهتمام شاشة المراقبة التي كان يهيمن عليها اللونان الأخضر والكهرماني.
كان ثمة رجل بدين يسير في دوائر حول أريكة ديانا. كان لديه ذراعان قويتان وبطن ضخم وله جبهة منخفضة يعلوها شعر أسود كثيف، وكان حاجباه معقودين كما لو كان يفكر بعمق في طبيعة الأشياء. وبينما كان يسير، كانت الكلمات تخرج منه. وحين رأى ليزي وجونزاليس قال: «غير معتاد بالمرة، صعب للغاية. أمر مقلق. مقلق لكن مثير للاهتمام. مقلق للغاية. مثير للاهتمام بشدة. عندما ... عندما ... عندما أجده، أجده، هاه، سأعرفه.»
قالت ليزي: «أي تغيرات حديثة؟»
هز الرجل رأسه نفيا وواصل السير.
عادت ليزي إلى الردهة، فأوقفها جونزاليس بأن وضع يده على ذراعها وسألها: «أأنت بخير؟»
ردت: «لا أدري.» وكان قادرا على قراءة بعض من متاعبه هو في وجهها. لكن كان ثمة شيء آخر هناك، كانت نظراتها غامضة. قالت: «أرجوك لا تسأل أي أسئلة. ثمة كثير من الأمور يجري حاليا.»
انفتح الباب فجأة حين وصلا إليه، ووجدا شوالتر تقول: «لن نتدخل في تلك الأمور. نحن نطلب منكم أن تمنحونا حرية الفعل.»
تساءلت ليزي: «ماذا يجري؟»
استدار أربعتهم كي ينظروا إلى الشاشة، التي أظلمت تماما. •••
على الطاولة الفولاذية المصقولة رقد جثمان مفرغ من الأحشاء. على السطح البطني للجثمان أزيلت طبقات من الجلد إلى الوراء بحيث كشفت عن التجويفين البطني والصدري الخاليين، بينما على السطح الظهري كان العمود الفقري مكشوفا. كان الجزء العلوي من الرأس منشورا، وأزيل المخ، وتدلت فروة الرأس حتى العنق.
تحرك أحد الروبوتات حول الطاولة، بينما سويقاته تصدر هسيسا أسفله. جذب نحوه عربة معدنية استقر عليها عدد من الأكياس البلاستيكية الموضوع عليها ملصقات، وكل منها يحوي أحد الأعضاء. توقف الروبوت وأخذ أحد الأكياس من فوق الطاولة ووضعه إلى جوار الجمجمة المفتوحة للجثمان. شق الكيس بإحدى أذرعه المسننة، ثم مد داخله يدا عنكبوتية ذات سبع أصابع، ورفع المخ برفق، وأماله، ثم وضعه داخل الجمجمة، ثم أعاد الجزء العلوي المنشور من الجمجمة إلى موضعه. وباستخدام خيط جراحي وإبر خرجت من إحدى أذرعه، خيط الروبوت فروة الرأس سريعا كي تضم جزأي الجمجمة معا. ومع مرور الدقائق، عمل الروبوت على استبدال أعضاء الجثمان وخياطة الحواف الأمامية.
دفع الروبوت الطاولة جانبا وجذب نحوه نقالة موضوعا عليها كفن قطني أبيض مفتوح. وبعد أن مد الروبوت ذراعا تحت فخذي الجثمان، وأخرى تحت الجزء العلوي للعمود الفقري، رفع الجثمان ووضعه على الكفن، ثم ضم جانبي الكفن معا، وأغلقه مستخدما خيطا حريريا وإبرة.
وقف الروبوت دون حراك للحظة، بعد أن أنهى ذلك الجزء من المهمة، ثم جمع الأكياس البلاستيكية الخاوية ووضعها في أنبوب القمامة. نظف طاولة التشريح مستخدما أربع فرش قاسية تبرز من إحدى أذرعه، ثم غسل الطاولة بخرطوم بخار متدل من السقف.
دفع الروبوت النقالة التي تحمل الكفن، مسترشدا بالأشعة تحت الحمراء، عبر رواق مظلم وصولا إلى مصعد شحن في نهاية الرواق. ارتفع المصعد إلى أعلى طوابق هالو، أدنى الغلاف الخارجي مباشرة.
دفع الروبوت النقالة نحو مدخل تعلوه أضواء تحذيرية ولافتة مكتوب عليها:
ممنوع الدخول من دون تصريح واضح!
مطلوب شفرة دخول والتثبت من بصمة الشبكية!
نقل الروبوت شفرات الدخول إلى الباب، وحصل على شفرات التأكيد، ولم يتوقف بينما أخذ الباب ينفتح كي يسمح له بالدخول. وبمجرد أن اجتاز الروبوت الباب بدأ في إصدار ضوضاء، عويل موسيقي.
بدت صناديق معدنية ارتفاعها عشرون مترا ظاهرة وسط أعمدة خرسانية تمتد لأعلى حتى الظلام. برزت أنابيب تحمل الأتربة من الصناديق وامتدت بين الأعمدة؛ أنابيب ضخمة تثبتها في مواضعها كابلات تثبيت تمر من الأسفل.
وقف الروبوت، وهو لا يزال يكمل مرثاته، عند أحد الصناديق ومد كابلا مغلفا من الألياف البصرية مزودا ببوصلة معدنية في طرفه، وأدخل الوصلة في لوحة ومضت عليها أضواء ذات مغزى. وقف الروبوت لنحو نصف دقيقة، يتبادل المعلومات مع منظومة تحكم فرن إعادة التدوير، ثم فصل الكابل وتحرك مصدرا هسيسا عبر الأرضية المعدنية نحو النقالة. وخلفه، انفتح باب الفرن.
دفع الروبوت النقالة، مصدرا عويلا مرتفعا، نحو الباب المفتوح، وتوقف صامتا للحظة، ثم دفع الكفن من النقالة إلى داخل الفرن.
الجزء الرابع
المرض المميز الذي يصيب عناصر الكون بكل أنواعها هو التوتر؛ انهيار الاتصالات.
دونا هاراواي، «بيان سايبورج»
الفصل الأول
في الأعماق السحيقة
استيقظ جونزاليس ذلك الصباح على أصوات المدينة تأتيه عبر الجدران؛ أصوات صرير وجلبة ودمدمة خافتة تكاد تكون تحت صوتية، أصوات الدائرة العظيمة من المعدن والصخور المنسحقة التي تدور حول نفسها خلال الليل. والآن كان يجلس في شرفته، وهي واحدة من ست شرفات تعلو جانب بدن هالو، وكل منها مبني على سطح المنزل أدناها. وأمام النافذة، كانت زهور البلوميريا ذات البتلات الخمس، بألوانها الحمراء والأرجوانية الفاقعة، تخرج من الفروع السميكة الغليظة لإحدى الأشجار المقابلة لنافذته الأمامية. كانت رائحة الهواء غنية ورطبة هذا الصباح، وهي علامة على ارتفاع مستوى الرطوبة، وذلك قبل بدء إحدى دورات الاستصلاح مباشرة؛ وهي واحدة من روائح المدينة التي يتعين فيها على كل شيء عضوي أن يحفظ وأن يجري تحويله؛ الماء والأكسجين والكربون، كل ما هو نادر وعزيز.
وإلى الأسفل منه، كان الطريق السريع الدائري يحمل حركة المرور في هالو؛ ففي حاراته الخارجية كان الناس يمشون على أقدامهم أو يركبون دراجات، وفي الحارات بالمنتصف كانت عربات الترام والشاحنات تتحرك على قضبان مغناطيسية. انحنى زوجان شابان، رجل وامرأة، بجوار أجمة ورود تنمو قرب الطريق وتفحصا أوراقها. وضعت المرأة يدا على ذراع الرجل، فنظر إليها وابتسم، ثم مس وجنتها بيده.
أدهشته غرابة المدينة، التي فيها ارتفعت أحداث بسيطة من حياة الناس إلى آفاق استثنائية بفضل وقوعها في مدينة صناعية وتحت سماء صناعية.
حين كان طفلا سافر مع أسرته إلى طوكيو، في وقت كانت الرحلة فيه تستغرق غالبية اليوم، واجتاحته أضواء النيون الكثيفة بالمدينة كما لو كانت فيروسا، وتقيأ وجبته الأولى هناك (كان يذكر أنها مكونة من السمك والمعكرونة المتبلة بأوراق الأقحوان) وظل شاحبا ويعاني الحمى طيلة غالبية اليومين الأولين اللذين قضاهما هناك.
استطاع التأقلم مع طوكيو سريعا، لكن لم يكن يعرف موقفه حيال هالو؛ فرغم أنه كان قادرا على قراءة لغة هالو وفهم إشاراتها؛ فقد كان يعلم أن المدينة كانت أبعد كثيرا عنه؛ أبعد بأميال عن موطنه نعم، لكنها أبعد كذلك في مناح لم يستطع قياسها. كانت هالو تحتوي على عدد لا نهاية له من المدن، وعدد لا نهاية له من الاحتمالات، ومن ثم فإن الانغماس الكامل في هالو كان يتطلب منه أن ينفتح على واقع يتسم بالتعددية وعدم اليقين والرعب.
في الحقيقة، كان يجد صعوبة في استيعاب أي شيء؛ فمنذ أن أخرج من البيضة وهو يشعر بشعور غريب وغير مريح، وواصل السير على حافة الهلوسة، التي كان يجتازها من حين لآخر؛ ففي الليلة الماضية بينما كان يحاول النوم، ظهرت أشكال مجردة مرسومة بخطوط حمراء على سقف غرفته، زخارف ممتدة بأبجدية غريبة أو خيالية تتجاوز حدود الفهم البشري ...
ثم كانت هناك ليزي: لم تره أو تتحدث إليه، ولم تمنحه أي تفسير فيما خلا أن لديها مشكلات خاصة بها الآن. شعر جونزاليس بحزن يعجز عن التعبير عنه بسبب المسافة الفاصلة بينهما. وحين كان يتردد داخله صوت ساخر يتساءل: «ما الذي فقدته؟» كان يجيب بإجابة واحدة فقط هي: «الإمكانية.» لقد عاد إلى حيث كان منذ بضعة أيام، لكن الآن صار هذا الموضع غير مقبول على ما يبدو.
وضع جونزاليس قدح القهوة وجلس يحدق فيه. كان القدح المصنوع من سيراميك التربة القمرية والمطلي بلون أزرق كلون بيضة طائر أبي الحناء، ليس له مظهر مميز، لكنه مع ذلك أبرز بصورة ما، بمنأى عما يحيط به وبشكل يظهر سمة روحانية، وميضا داخليا غير مرئي بالمرة وغموضا في الشكل ...
سمع جونزاليس صوت قرقعة، ضوضاء أصدرها الكون لنفسه حين ظن أن لا أحد يسمعه، وفكر جونزاليس: «يا إلهي، ما الذي يحدث هنا؟»
نهض جونزاليس، شاعرا بقلق شديد يعتمل في صدره، ودخل إلى غرفة نومه، وهناك فتح المزلاج المعقد الخاص بسوار معصمه ووضعه على سطح المزينة المعدني المدهون باللون الأبيض.
ثم اجتاز غرفة المعيشة، دون أن يكون معه ما يشي بهويته ويراقب تحركاته، وعبر من الباب وسار بعيدا. •••
سار جونزاليس بمحاذاة الطريق السريع الدائري، ولم يجذب شيء بعينه انتباهه لكنه كان غير راغب قطعا في العودة إلى المبنى السكني الخاوي وإلى العزلة والقلق اللذين ينتظرانه هناك.
وجد نفسه في الساحة الرئيسية؛ حيث اصطحبته ليزي هو وديانا في ليلتهما الأولى في هالو. اجتاز الميدان، مرورا بلافتة مكتوب عليها «المقهى الافتراضي»، ثم وقف بلا حراك، يشاهد تدفق الناس من حوله. كان البعض يسير بمفرده، بخطوات سريعة نحو هدف محدد، أو ببطء وهم غارقون في التفكير، بينما سار البعض الآخر في جماعات، يتحدثون في حبور أو جدية، فكر جونزاليس: «هراء،» وهو يتساءل عما سيقوله هاي ميكس عن هؤلاء الأشخاص وحركاتهم، ما الذي كان يعنيه كل هذا؟ «جونزاليس.» سمع صوتا ينادي اسمه على نحو رتيب حاد، وحين استدار رأى التوءمين.
بينما اقتربتا منه، كانت إحداهما تتمتم بكلام مبهم سريع، وكانت ترتدي معطفا أسود اللون وتحدق بحزن في الأرض. أما الأخرى فكانت تبتسم، وكان وجهها مغطى بدهان أبيض وترتدي بلوزة بيضاء وتنورة غريبة الشكل من قماش لبني اللون جرى قصت وحيكت على نحو غير متقن من دون الاكتراث للمقاسات أو الغرز، وعلى مقدمتها كان ثمة شكل غير متقن لأرنب مرسوم بدهان أحمر زاه.
قالت التوءم المبتسمة، تلك التي كانت بشرتها السمراء ملطخة باللون الأبيض، بنبرة واضحة وإيقاع رسمي: «اليوم هي أليس.» ثم رقصت على قدم واحدة في خرق، وتنورتها تتلاطم حولها. وأضافت: «وشقيقتها هي يوريديس.» ثم أشارت إلى الفتاة الأخرى التي دفنت وجهها في يديها. قالت: «أليس هي العذوبة والابتسامات، والخطوات الصغيرة وقماش القرينول المنشى، بينما يوريديس هي الحزن والتراخي الكسول والحرير الأسود. وهما معا تحددان أبعاد الحلم.» ثم خطت إلى الخلف وابتسمت، وابتسمت شقيقتها معها. سألته: «هل تعاني من مشكلات يا سيد جونزاليس؟ تعتقد الجمعية أن الأمر كذلك. ونؤمن أنك ضائع بين عالمين. أهذا صحيح؟»
قال: «ربما أنا كذلك.»
قالت: «حسنا إذن.» ثم وضعت سبابة يدها اليمنى على شفتيها المزمومتين وأخذت عيناها تدوران يمنة ويسرة، وقالت: «أنا أفكر.» ثم بعد انقضاء بضع ثوان أضافت: «أعلم ما عليك فعله.»
سألها جونزاليس: «وما ذلك؟»
قالت: «اتبعنا.» أومأت الفتاة الأخرى، وتحدثت بكلام غير مفهوم، ونظرت إلى جونزاليس عبر قناع من الحزن الشديد، كما لو كانت على وشك الانخراط في بكاء لا نهاية له.
سألهما جونزاليس: «إلى أين؟»
قالت التوءم أليس: «لا تكن غبيا. إلى أين ستأخذك أليس ويوريديس؟»
سألها جونزاليس: «إلى جحر الأرنب؟»
ابتسمت أليس، وهزت يوريديس رأسها نفيا.
سألهما جونزاليس: «تحت الأرض؟»
ابتسمت التوءمان في تزامن بدا مثاليا. •••
عند قاعدة الشعاع الثاني؛ حيث توجد لافتة تقول «سيصل المصعد بعد عشر دقائق»، قادت التوءمان جونزاليس عبر نفق محدب يمتد تحت الشعاع. وبينما كانت الفتاتان تسيران أمامه، كانتا تغمغمان بلغتهما المبهمة، وأدرك أن الأرضية تنحدر دون شك إلى الأسفل، بحيث تمر أسفل المستوى الرئيسي للحلقة. كانت كرات زرقاء في منتصف السقف توفر ضوءا هادئا. وبعد أن قطعوا نحو مائة خطوة، وصلوا إلى باب عند نهاية النفق. وفوق الباب كانت كلمات مكتوبة بضوء أحمر ساطع تقول:
لا ينصح بالتجول الحر بعد هذه النقطة.
أتود الدخول؟
التفتت أليس وأشارت إلى اللافتة. وهزت كتفيها كما لو كانت تقول: «حسنا؟»
قال جونزاليس: «أريد الدخول.»
صدر عن الباب صوت يقول: «ادخل.» وانزلق شقاه إلى الجانبين داخل إطاره.
خطا ثلاثتهم إلى مساحة شاسعة معتمة، عالم قابع في الأعماق، وساروا على امتداد ممشى رئيسي تميزه أسهم وامضة ولافتة تضيء على نحو متقطع بالكلمات التالية: «على الأشخاص غير المصرح لهم السير في الممر المضاء».
مروا بسلسلة من الورش، حجيرات مقسمة محجوبة وراء ستائر احتواء. كان ثمة ضوء ينبعث من أحد الأبواب، فتوقفت التوءمان، وأشارت يوريديس إلى جونزاليس كي ينظر بالداخل.
كانت مئات القدور متراصة على الأرفف الموضوعة على امتداد الحوائط من الأرض إلى السقف. كان كثير منها بسيطا، أوعية كروية تقريبا لها أفواه واسعة، مصنوعة من الفخار الأحمر. وكانت ثمة أوعية أخرى لها الشكل نفسه لكنها كانت مكسوة بطبقة رقيقة ومدهونة وتميزها حزمة واحدة من الألوان تلتف حول منتصفها: ألوان أساسية زاهية على خلفية من معجون شفاف. وكانت ثمة قدور أخرى ذات أشكال وتصميمات معقدة، يصعب تفهمها في نظرة واحدة.
جلست امرأة عجوز منحنية فوق دولاب الخزاف، وكانت تدندن بكلمات يصعب تبينها بينما كانت يداها الكبيرتان تشكلان الطمي الطري الدوار. نظرت لأعلى إلى جونزاليس الواقف لدى الباب. كان وجهها مليئا بتجاعيد غائرة، وبشرتها شاحبة، وكان لديها حاجبان مستقيمان يعلوان عينين سوداوين. كانت ترتدي فستانا أبيض ضاربا إلى الصفرة كان ينسدل حتى الأرضية ومئزرا من مادة مطاطية سوداء. كان شعرها مغطى بوشاح كحلي داكن وكان مشدودا ومربوطا خلف رأسها.
ضحكت العجوز واستدارت مجددا إلى الدولاب، وبدأت في الدندنة مرة أخرى. وتحت يديها بدأ الطمي يرتفع إلى الأعلى ويكتسب شكلا. كانت تشكله من الداخل إلى الخارج، وكأنها خالق يمد يده إلى قلب المادة، إلى أن صار قدرا ذات قاعدة ثخينة تدور على الدولاب.
توقف الدولاب عن الدوران، وبحركات سريعة ودقيقة وضعت القدر المشكلة حديثا على حامل مجاور للدولاب. مدت يدها داخل القدر وشرعت في العمل، لكن جونزاليس لم يستطع أن يرى بدقة ما كانت تفعله؛ إذ كان جسدها يحجب الرؤية. بعد ذلك أخذت حامل طلاء وفرشاة من رف يعلو رأسها وشرعت في تلوين سطح القدر.
وبينما كانت تباشر العمل، كانت تنظر لأعلى من حين لآخر، لكن بدا عليها أنها لم تكن تمانع وجود الأشخاص الثلاثة الواقفين هناك؛ لذا فقد ظلوا واقفين يشاهدونها؛ وكان جونزاليس منبهرا بالقوة والسرعة التي تتسم بها حركتها، ومتلهفا لرؤية ما سيبدو عليه شكل القدر.
وأخيرا أدارت القدر ناحيتهم بحيث أضحوا قادرين على رؤيتها. على جانب القدر كان ثمة وجه، وكان فمه وأنفه عبارة عن نتوءين مطليين على الفخار، وكانت عيناه بيضاوين. كان بدن القدر البصلي الشكل يشوه ملامح الوجه، لكن حين أمعن جونزاليس النظر، رأى ...
كان ذلك وجهه هو، محاكاة ساخرة خبيثة له، وكانت ملامحه ملتوية على نحو ذميم.
ضحكت المرأة، وقد أطربها إجفاله المفاجئ. رفعت القدر ونظرت إلى الوجه، ثم إليه، ثم إلى القدر مجددا، وعاودت الضحك بصوت مرتفع، ثم ضغطت القدر بين يديها الملطختين بالطمي، مرارا وتكرارا، إلى أن صارت كتلة عديمة الملامح من الطمي. ألقت الكتلة عبر الحجرة داخل صندوق معدني كبير كان موضوعا قبالة الحائط البعيد. «أوووووووه.» صدر هذا عن التوءمين، بصوت موحد. «أوووووووه.»
قالت أليس: «لسنا خائفين.» بينما غطت أختها وجهها بكلتا يديها. أردفت أليس: «عجوز سخيفة.»
ظلت عينا المرأة العجوز مثبتتان على جونزاليس وهي تمد يدها داخل كيس بلاستيكي مليء بالطمي الطري، واقتطعت منه كتلة أخرى للعمل عليه. كانت تعمل عليه على الدولاب الدوار حين بدأت التوءمان تصدران ضوضاء حادة معبرة عن الاستهجان، وفرتا مبتعدتين.
عاودت المرأة الدندنة مجددا بينما خرج جونزاليس وسار خلف الفتاتين في الممر. •••
إلى جوار الممر كانت ثمة بوابة، تعلوها لافتة مكتوب عليها بحروف وامضة:
مركز هالو لاستزراع الفطر.
محظور قطعا على الأشخاص غير المصرح لهم تجاوز هذه النقطة!
وعلى مسافة نحو مائة قدم من المكان الذي يقف فيه جونزاليس، كان ثمة درج معدني يفضي إلى ممر ضيق يعلو مزرعة الفطر. نظر إلى الخلف نحو الطريق المظلم الذي جاء منه، ثم إلى الأمام حيث كانت أعمدة مائلة من ضوء الشمس تنحدر نحو مزرعة الفطر، وفيما وراءها؛ حيث كان الظلام يكتنف كل شيء. إما أن التوءمين تركتاه، وإما دخلتا في هذا المكان.
خطا جونزاليس إلى البوابة وقال: «مرحبا، إنني أبحث عن فتاتين، توءمين.» «لحظة واحدة من فضلك.» هكذا قالت البوابة. كما توقع جونزاليس؛ فقد كان الذوق يحتم أن ترد آلية تشغيل البوابة على أولئك الذين لا يمتلكون شفرة الدخول.
وقف جونزاليس شاعرا بالارتباك في تلك الإضاءة الخافتة لبعض الوقت، إلى أن جاءت امرأة من الجانب الآخر للبوابة وقالت: «مرحبا.» كانت سمراء ضئيلة الحجم؛ فكانت بشرتها خمرية وعيناها سوداوين تعلوهما طية جبهية رقيقة. كانت ترتدي حذاء عالي الرقبة يصل إلى ركبتيها، وتنورة سوداء طويلة، وسترة واسعة من الحرير الوردي مزينة بفراشات مرسومة بخيوط وردية أكثر دكانة. كانت جذابة للغاية، وعظام وجهها دقيقة، وحركتها رشيقة. قالت: «اسمي تريش. التوءمان موجودتان بالداخل، تنتظرانك.» «اسمي جونزاليس.» «أعرف هذا، تفضل بالدخول.» وبينما كانت تتفوه بالكلمات الأخيرة انفتحت البوابة. انتظرت وشاهدت جونزاليس وهو يعبرها، ثم انغلقت البوابة خلفه.
سألها: «كيف تعرفين اسمي؟» «من الجمعية. أنا صديقة لكثير من أعضائها ... التوءمان بطبيعة الحال وغيرهما ... ليزي.» وقفت في هدوء تشاهده وأردفت: «ماذا تعرف عن زراعة الفطر؟» «لا شيء.» كان يعلم أن الفطر ينمو في جميع أنحاء ولاية واشنطن، وكان الناس يجمعونه بتفان عظيم، وأحيانا كانوا يحققون ما يرون أنه نجاح هائل: فطر الإنائية أو البوليط أو المروث الأهلب أو الغوشنة. في الحقيقة، لم يبد الأمر كله في نظر شخص قادم من جنوب فلوريدا عجيبا وذا صبغة شمالية وحسب، وإنما خطير كذلك؛ فقد كان جونزاليس يعلم أن ما يبدو وجبة لطيفة يمكن أن يكون رسول هلاك. «لا بأس.» هكذا قالت تريش وتوقفت، وتوقف هو إلى جوارها. ثم استدارت إليه، فلمح شفتيها ذواتي اللون الأحمر القاني وأسنانها البيضاء. قالت: «إن هالو تحتاج الفطر كعامل تحلل؛ إذ يتسم الفكر بكفاءة بالغة في تحويل المواد العضوية الحية إلى سليولوز.» أومأ جونزاليس، فأضافت: «في أي بيئة طبيعية - سواء هنا أو على الأرض - تتنافس الأبواغ معا، فيموت الكثير منها، ويجد بعضها مكانا يمكنه فيه الترعرع، بحيث ينمو إلى كتلة أفطورية، وهذه الأخيرة تزهر وتصير فطرا. وبينما ينمو الفطر فإننا نتدخل، كما يفعل كل المزارعين، كي نعزل أنواعا معينة ونوفر ظروفا مواتية لنموها. غير أن «بذورنا»، إن شئت تسميتها، أو الأبواغ، دقيقة الحجم للغاية، وتتطلب عملية العثور عليها وعزلها وحثها على الإزهار دقة عالية وأسلوبا معينا؛ أي إنها تتطلب فنا.»
توقفت عن الحديث وأومأ جونزاليس.
وصلا إلى هيكل خفيض عبارة عن جدران معدنية تكسوها ألواح بلاستيكية وتوقفا أمام باب مكتوب عليه «غرفة التلقيح المعقمة». عبرا من لوح بلاستيكي إلى غرفة انتظار خاصة بالمعمل المعقم. قالت: «ألق نظرة من هذه النافذة.» ووراء النافذة كانت روبوتات صغيرة تعمل على طاولات لا يتجاوز ارتفاعها قدمين. ومثل الروبوت الذي شاهده في حدائق بيركلي روز، كانت مزودة بعجلات تتيح لها الحركة وماسكات مزودة بأصابع دقيقة من الألياف في نهاياتها.
قالت: «إن أيديها تتسم بدقة ورهافة لا يمكن لبشر تحقيقهما. وهي تركز على مهمتها وحسب؛ فهي تحفظ نوايانا بشكل كامل وخالص.» «إنها آلات.» «لو شئت أن تسميها كذلك.» ثم أشارت من النافذة؛ حيث كان أحد الروبوتات يمسك بإبر تلقيح قبيحة المنظر وهو ينقل بعض المواد إلى أطباق بتري. وأردفت: «أستطيع التعرف على روبوتاتي من خلال حركاتها، حتى وسط مجموعة من الروبوتات الأخرى.»
لم يقل جونزاليس شيئا. واصلت حديثها قائلة: «إن المادة الأفطورية الخالصة تستخدم في تلقيح الحبوب والنخالة المعقمة. تتمدد المادة الأفطورية عبر وسيط معقم، وتعرف النتيجة باسم مشيجة الفطر.»
أردفت وهي تبتسم: «كثير من التفاصيل الفنية. بمجرد أن تكون لدينا مشيجة الفطر تستطيع الروبوتات أخذ سلالها والانتشار في أرجاء هالو، بحيث تغرس مشيجة الفطر في العشب والخشب الميت، وفي جذور الشجيرات ... وستنمو مشيجة الفطر وتزهر؛ ومن ثم يصير لدينا فطر.» ثم توقفت لبرهة وقالت: «أي أسئلة؟» هز جونزاليس رأسه نفيا، فقالت: «إذن فلنتجه إلى الباب التالي.»
غادرا غرفة انتظار المختبر عبر الستار المعلق وانعطفا إلى اليسار. كان المبنى المجاور للمختبر عبارة عن هيكل واه شبيه بالخيمة ومصنوع من عوارض معدنية تكسوها ألواح بلاستيكية ملونة؛ حمراء وزرقاء وصفراء وخضراء.
قالت من خلفه: «بهذه الطريقة يكون الفطر موجودا وقت وجبة العشاء من أجلي. أأنت جائع؟»
قال: «لست جائعا بشدة. ما هذا المكان؟»
قالت: «المنزل.»
امتلأ المكان بضوء مبهج منتشر؛ إذ دخلت أعمدة ضوء الشمس التي رآها جونزاليس بالخارج وانتشر الضوء. بدا المكان شبه عادي، به جدران وأسقف عادية من الألواح الجدارية.
كانت التوءمان تنتظران في المطبخ، بين الزهور ومساحات العمل البلاستيكية الصفراء الفاقعة. جلستا عند طاولة مركزية على مقاعد من البلوط المبيض.
سألت تريش: «أتودان تناول الطعام؟»
قالت أليس: «نعم، ونعتقد أن السيد جونزاليس» - ثم قهقهت - «ينبغي أن يتناول العشاء الخاص.»
قالت تريش: «لا أظن ذلك .»
سألها جونزاليس: «ما الذي تتحدث عنه؟»
بدا على المرأة التردد للحظة ثم قالت: «أنا أوفر للجمعية فطرا ذا تأثير نفسي، أنواع من فطر السيلوسيب غالبا.»
قال جونزاليس مخمنا: «وهم يستخدمونه بهدف الاستعداد لعملية الاتصال.»
قالت: «أحيانا. وفي أحيان أخرى لا يكون سبب استخدامه واضحا.»
قالت أليس: «من أجل الإلهام، من أجل الخيال.»
وقالت توءمتها يوريديس: «من أجل المواساة. حين أتذكر أورفيوس ورحلتنا من باطن الأرض - اللحظة المريعة التي نظر فيها إلى الوراء وضاع إلى الأبد - حينها تنتابني حالة من الحزن الشديد، وأتناول فطر تريش كي أكبح حزني. وحين أفكر في اليوم الذي انضممت فيه إلى المينادات اللواتي مزقن جسد أورفيوس إربا، أتناول فطر تريش - والذي لا يختلف عما نتناوله اليوم، لحم الرب - ثم أتذكر الهياج الذي هاجمنا به المغني الجميل، وأتذكر شعور الذنب اللاحق، وحزني، لكنني أستقي العزاء من معرفة أن الرب كان سعيدا.»
قالت أليس: «وأنا بإمكاني أن أنمو حتى طول عشر أقدام.»
قالت تريش: «بمقدور الفطر الوفاء بأغراض عديدة.»
قالت أليس: «ينبغي عليك تناول الفطر. أنت حزين ومرتبك في الوقت ذاته. سيساعدك على أن تنمو لحجم أكبر أو أصغر حسب الظروف.»
قال جونزاليس معترفا: «ربما كنت حزينا ومرتبكا، لكنني أعتقد أنه سيزيدني سوءا.» ومن حوله أخذ ضوء الغرفة يخفق قليلا، وبدأت الأشكال الموجودة عن حافة رؤيته تهتز.
قالت يوريديس: «الارتباك وصولا إلى الوضوح. إذا كنت عاجزا عن الخروج من تحت الأرض، فعليك أن تتعمق أكثر.»
فكرة سخيفة، لكنها علقت في ذهنه. سأل جونزاليس: «هل يتناول أعضاء الجمعية الفطر بعد عملية الاتصال؟» في أحيان كثيرة كان يستعد للدخول في البيضة عن طريق تناول بعض العقاقير ذات التأثير النفسي، فلماذا لا يحدث العكس، بحيث يتم تناول الفطر بغرض التعافي من عملية الاتصال؟ وفكر في نفسه: «منطق ما تحت الأرض، صورة معكوسة.»
شعر فجأة بقلق عارم يتملكه، بحيث استطاع أن يتنفس بالكاد. ترنح قليلا، ثم جلس على كرسي ونظر إلى الأخريات. شاهدته الفتيات الثلاثة وهو يتنفس بعمق. قال: «أريد تناول الفطر .»
سألته تريش: «أأنت متأكد؟» «أريد ذلك.»
قالت: «حسنا، أولا سأطعم التوءمين، ثم أجهز لك الفطر.»
ذهبت تريش إلى الثلاجة وأخرجت منها كيسا بلاستيكيا مليئا بخليط من الخضراوات والفاصوليا المبرعمة. نزعت السدادة المطاطية من فوهة دورق إرلنماير وصبت منه الزيت في قاع قدر معدنية مطلية كانت تسخن على موقد غازي مفتوح. انتظرت حتى ظهرت بعض خيوط الدخان الفاتحة من القدر ثم ألقت فيه الخضراوات والفاصوليا وقلبت الخليط لدقيقة أو اثنتين. بعد ذلك أطفأت قدر طهي الأرز الكهربائي، وهو عبارة عن علبة معدنية مطلية بالسيراميك لها لون أحمر زاه، ثم حملته إلى حيث تجلس التوءمان.
وضعت طبقين لامعين من الألمنيوم وعصي طعام أمام التوءمين، وفتحت قدر طهي الأرز ووضعت منها بعض الأرز في كل طبق، ثم أمالت قدر الخضراوات وصبت الخليط الذي بداخلها على الأرز. قالت: «تفضلا، هذا لكما.» ثم نظرت إلى حيث يجلس جونزاليس، الذي بات هادئا على نحو عجيب، وقالت: «سأعود بعد دقيقة.»
تناولت التوءمان طعامهما وأعينهما مثبتة على جونزاليس.
عادت تريش وهي تحمل سلة سلكية صغيرة مليئة بالفطر. قالت: «الفطر السحري. إنه أحد الأنواع المزروعة هنا، وقد تعرض لتغيرات تجعله مختلفا عن النوع الموجود على الأرض.» ثم أخرجت ثمرة فطر كبيرة لها ساق أبيض طويل وقلنسوة ضاربة إلى البني.
سألها جونزاليس: «هل سبق أن أخطأت في تحديد نوع الفطر؟»
قالت تريش وهي تبتسم: «كلا. ليس علينا البحث بين آلاف الأنواع عن النوع المناسب، كما يفعل جامعو الفطر؛ فهذا الفطر خاص بنا، مزروع على النحو الذي أوضحته لك، بحيث يلائم احتياجاتنا.» ثم وضعت الفطر على لوح التقطيع وبدأت في تقطيعه إلى شرائح، وقالت: «لقد نظفته في السقيفة.» وحين انتهت، استخدمت السكين في إزاحة الشرائح نحو وعاء خزفي سماوي اللون. استدارت نحو قدر الطهي وصبت بعض الزيت فيها، ووقفت تبتسم لجونزاليس بينما كان الزيت يسخن. وعند صدور أول خيوط الدخان وضعت الفطر في القدر بحركات سريعة بعصي الطعام. أخذت تقلبه لنحو نصف دقيقة، ثم أمالت القدر وصبت الفطر في الوعاء الأزرق . ثم وضعت الوعاء أمام جونزاليس ووضعت اثنتين من عصي الطعام مطليتين باللون الأسود على حافة الوعاء.
أمسك جونزاليس بالعصوين ورفع طبقه، وبدأ الأكل، فأخذ يدفع الفطر نحو فمه. عند قدر الطهي أخذت تريش تقلب مزيدا من الخضراوات وقالت: «إنني أطهو عشائي.»
استرخى جونزاليس في مقعده، وهو ينظر إلى الوعاء الفارغ. فكر في نفسه قائلا: «حسنا، سنرى الآن.» ثم قال: «كم نوعا من الفطر تزرعين؟» «عدد وافر، البعض من أنواع عادية، والبعض الآخر من نوعيات خاصة، لأغراض الأبحاث. إن ألف تحدد الأنواع، وكمياتها.»
كانت التوءمان ملتزمتين الصمت تماما. وبينما كانت تريش تتناول طعامها، شاهدتا جونزاليس، الذي بدا عليه الاستسلام التام. بدا ما فعله شيئا غبيا للغاية، أشبه بوضع النار على موضع حرق؛ كان المنطق يقضي بذلك. ابتسم وفكر في نفسه قائلا: «ما علاقة المنطق بالحياة هذه الأيام على أي حال؟» ابتسمت التوءمان له ردا على ابتسامته.
تساءل جونزاليس: «من كانت تلك المرأة؟»
سألته تريش: «من تعني؟»
قال جونزاليس: «المرأة العجوز، صانعة الفخار.»
قالت تريش: «إنها تصنع قدورا فخارية، وتدرس. إن سينتراكس تستعين بها، وقد جلبتها ألف إلى هنا.» «لماذا؟» هكذا سألها جونزاليس؛ إذ ما علاقة سينتراكس أو ألف بالفخار؟ «كي تشجع الآخرين.» هكذا قالت إحدى الفتاتين بوضوح. استدار جونزاليس لكن لم يكن بوسعه معرفة أيهما تحدثت.
ضحكت تريش وقالت: «كي تشجع الفن في هالو. صناعة الفخار من الطمي القمري، والزجاج الملون، وقماش بذلات الطيران المصنوع من السليكا القمرية.»
جلس جونزاليس يفكر في هذه الأشياء إلى أن أدرك أن تريش انتهت من تناول طعامها بالفعل، وأنهم كانوا يجلسون إلى الطاولة منذ بعض الوقت، منذ وقت طويل في الواقع، كما بدا لجونزاليس. وعلى نحو لا إرادي، دفع جونزاليس كرسيه بعيدا عن الطاولة.
قالت تريس: «لا بأس.» ونهضت الفتاتان من مقعديهما وسارتا خلفه. وحين بدأ في الاستدارة، شعر بأيديهما على كتفيه وعنقه، تدلك عضلاته التي ارتخت تحت ضغطها. قالت تريش: «لقد بدأ المفعول. والآن عليك أن تسير في أرجاء هالو، شمالها وجنوبها، جيئة وذهابا ...» ثم توقفت، بينما واصلت أيدي التوءمين العمل. ثم أردفت: «سر في الغابات، وانظر ماذا نزرع هناك ... فطر المروث الأهلب، وفطر الحدائق العملاق، وفطر المحار، وفطر الشيتاكي ...» «شيتاكي.» هكذا قال - شي تا كي - وكانت مقاطع الاسم تنساب وكأنها قطع من المعدن المصهور تنسكب عبر المياه ...
قالت: «يمكن للتوءمين أن تساعداك، أو يستطيع أحد الروبوتات أن يأخذك في إحدى جولات التلقيح. أو يمكنك الذهاب وحدك إذا كنت تفضل ذلك.» «أجل.» هكذا قال، وقد صارت صورته وهو يسير في دورة كاملة حول المدينة الفضائية، يستكشف ويعثر على ما يقع وراء ما هو مرئي للعيان، حاضرة بقوة. «سأذهب وحدي.»
قالت: «اذهب أينما شئت.» وقد التمع شعرها الأسود بالأضواء. وتساءل متى وضعتها هناك، ثم فكر إنها ربما كانت هناك طوال الوقت.
ومن خلفه همست إحدى التوءمين قائلة: «لا حاجة بك للخوف. انهض، واذهب أينما يأخذك خيالك.»
الفصل الثاني
طيران، موت، نمو
سار جونزاليس عبر ممر موحش انخفض فيه السقف حتى ارتفاع لا يزيد عن القدم فوق رأسه، وكانت الأشكال المظلمة للماكينات الضخمة تلوح في ضوء الشفق. هنا، في أعمق طبقات المدينة، كان بوسعه سماع أكثر أصوات هالو بدائية؛ الماء الآتي من العالم العلوي وهو ينهمر ويقرقر ويتدفق، وألواح البدن وهي تئن تحت وطأة التسارع، والتوربينات وهي تهدر.
صار فجأة واعيا بوجوده على مقربة من الدرع الثابتة، دائرة الصخور المسحوقة التي استقرت خارج حافة المدينة الخارجية مباشرة، وتحمي قاطني هالو ذوي الأجساد الرخوة من دفقات الإشعاع التي يمكن أن تشوي لحومهم. وعلى مسافة مترين على الأكثر داخل الدرع الخارجية، كانت الحلقة الحية تدور بسرعة تناهز مائتي ميل في الساعة، وخطرت فجأة على بال جونزاليس صورة للاثنين وهما يتلامسان، وعن التبعات الكارثية لذلك؛ هالو وهي تمزق نفسها إربا بينما تتحطم الحلقة الهشة على الصخور الضخمة الثابتة.
تجمد جونزاليس حين رأى أشياء غريبة الشكل وهي تتحرك بين الماكينات المزدوجة. صاح: «ماذا؟ ماذا؟»
الظلال والضوء ...
أمامه كانت توجد بقعة من الضوء الأصفر الدافئ، وجرى جونزاليس نحوها. وفوق باب مفتوح كانت اللافتة تقول:
المصعد الداخلي للشعاع رقم 3.
مخصصة للماكينات الثقيلة.
كانت أرضية المصعد من المعدن المثلوم، وكانت الحوائط مكسوة بدعامات واقية منثنية من الفولاذ اللامع. خطا جونزاليس إلى الداخل.
تساءل جونزاليس: «هلا أخذتني إلى الأعلى؟»
قال المصعد: «نعم. إلى أي ارتفاع تريد الذهاب؟» «إلى البوابة الصفرية.» ونظر جونزاليس إلى الظلام الذي تركه خلفه، وقد أدرك أنه لا يزال يشعر بالخوف من أن أيا كان ما رآه هناك سيتحقق. قال: «دعنا نذهب من فضلك.» وانغلق الباب، وشعر بدفعة التسارع وسمع صوت المحركات الكهربائية.
شاهد جونزاليس تقدم المصعد على شاشة مضيئة تعلو الباب. وحين توقف المصعد، وقف جونزاليس في صمت، شاعرا بالبهجة لوجوده في جاذبية شبه صفرية، مستعدا للتحليق. خطا عبر الباب واتبع الأسهم على امتداد رواق قصير له جدران وسقف من الصلب الخالص وأرضيته مغطاة ببساط واق رفيع، مثل الجزء الداخلي لسفينة. بدت قدماه على استعداد للارتفاع عن الأرضية.
أخذت أضواء السقف تتذبذب في بطء؛ بحيث تظلم، وتتغير ألوانها إلى الأزرق والأحمر ثم إلى الأصفر مجددا، ويزداد سطوعها ... وتناهى إلى مسامعه بالكاد صوت نغمة موسيقية. توقف جونزاليس مفتونا. كم هي جميلة هذه الأشياء الصغيرة؛ كانت هالو عامرة بمفاجآت العجيبة، يراها المرء حين يمعن النظر.
قال صوت: «نرجو اختيار حذاء الجاذبية.» ورأى جونزاليس ما بدا وكأنه مئات من الأحذية السوداء المرنة الملصقة على الحوائط بفضل نعالها المصنوعة من الفيلكرو. أخذ أحدها وارتداه فوق حذائه، ثم شد الأربطة. كانت أصابعه كبيرة، وكأنها قطع نقانق خدرة في نهاية ذراعين طويلتين للغاية.
دخل غرفة دائرية مكتوبا عليها «الفاصل الدوراني» ومشى نحو المركز الساكن للعالم الآخذ في الدوران. وبينما كان يتحرك إلى الأمام بحذر شديد في الجاذبية شبه الصفرية، كانت قدماه تلتصقان بالتتابع بسطح الممشى، وتنفصلان عنه مصدرة صوت تمزق خفيف.
تحرك صوب الحاجز ونظر إلى المساحة المفتوحة للبوابة الصفرية. كانت مفتوحة إلى الخارج على نحو أرحب وأرحب، إلى أن شعر وكأن اتساع الكرة الشاسعة يضغط على صدره.
كان الناس يطيرون هنا، كان يعلم ذلك، لكنه لم يتخيل كم سيكون منظرهم جميلا، عشرات منهم يتدلون من أجنحة مدعومة لها ألوان عشرات أقواس قزح. كان غالبية الطائرين يرتدون ملابس تتوافق ألوانها مع ألوان أشرعتهم، وكانوا يتراقصون كالفراشات عبر السماء، ينادي بعضهم على بعض، وكانت أصواتهم هي الأصوات الوحيدة التي تتردد هنا، تصرخ بالتحذيرات والنوايا.
وفجأة انهار جناحا أحد الطائرين حين علق بقدمي شخص طائر آخر، وأخذ الرجل ذو الجناحين المعطلين يتقلب في الهواء في حركة تشبه الحركة البطيئة، جاذبا أشرطة جناحيه وهو يسقط. أراد جونزاليس أن يصرخ. مال فوق الحاجز كي يشاهد الشخص الطائر وهو يتكور على شكل كرة، وقدماه موجهتان نحو الجدار المقابل له، ثم يرتطم بالجدار ويبدو كما لو كان يغوص في سطحه المبطن بعمق.
أمسك الرجل بكسوة الجدار المضمومة وشق طريقه إلى ممشى يمتد عبر منفسح البوابة الصفرية أمام جونزاليس مباشرة تقريبا، وجذب نفسه ليعبر الحاجز. بعد ذلك وقف ولوح بيده. هلل الطائرون الآخرون، وكانت أصواتهم ترتفع وتنخفض في ترنيمة إيقاعية بكلمات لم يستطع جونزاليس أن يفهمها.
قال صوت ما: «إذا لم يكن لديك تصريح بالطيران، فمن فضلك أمن نفسك بأحد حبال الأمان.» فكر جونزاليس في نفسه وهو شبه يائس: «كلا، ليس لدي تصريح.» لم يكن يفهم كيف يطير؛ ما هو خطير وما ليس كذلك. نظر خلفه ورأى أطراف كلاليب تثبيت من الكروم موزعة حول الجدار، فذهب نحوها وجذب واحدة. تدلى منها حبل أمان إلى أن توقف ولف الحبل حول خصره وثبت الإبزيم فيه.
فجأة شعر بنفسه يسقط. كانت عيناه تخبرانه أنه يقف والحبل ملتف حوله، لكنه كان مرتبكا بفعل الحركة الدائبة للطائرين في الهواء من حوله، وشعر أن لا شيء يبقيه على الأرض (لم يكن ثمة أرض)، ولا شيء يمكن أن يمنعه من السقوط في هذا الأخدود السماوي، تلك الهوة.
اقترب أحد الطائرين منه، يقطع المساحة الفاصلة بينهما بحركات طيران رشيقة، وكان جناحاه مزينين بتنانين خضراء وصفراء، وجسده مكسوا برداء زمردي اللون، وفجأة ظن جونزاليس أن هذا الشخص كان آتيا للنيل منه، ولم يكن بمقدوره أن يعرف كيف هذا أو لماذا.
حاول الدخول في غرفة الفاصل الدوراني، لكن حبل الأمان أعاقه إلى أن تمكن من حله، ثم سقط تقريبا داخل الأسطوانة المعدنية بينما كان الحبل ينجذب إلى موضعه الأصلي خلفه مصدرا هسيسا. خرج من الغرفة وركض بطول الممشى، وخطواته ترفعه عاليا في الهواء بحيث كان يفقد توازنه ويرتد عن أحد الجدران ويسقط متدحرجا على الأرضية، وخفاه يتعلقان دون جدوى بالبساط مصدرين سلسلة من أصوات التمزق الوجيزة.
زحف نحو أحد المصاعد، مصعد آخر غير ذلك الذي صعد فيه، مصعد ركاب عادي، وكان خاليا لحسن الحظ، ثم انتزع الخفين عن قدميه ووقف ومرق من باب المصعد. ثم قال: «إلى الأسفل.» شعر بالأرضية تتحرك وشعر بنفسه وهو يسقط. •••
كان جونزاليس قد جلس في الساحة الرئيسية لبعض الوقت.
على مسافة خمسين مترا، وقبالة جدار المقهى الافتراضي، كانت تزحف مجموعة وافرة من الأشكال الإحيائية المتحولة، كبيرة وصغيرة، كلها في حركة دائمة. كائنات رقيقة من خيوط وردية وخضراء تطفو على تيارات غير مرئية، كائنات أشبه بالأميبا لها أعين واسعة شاخصة وأفواه بها أسنان كالمناشير تمد أقداما كاذبة وتلتحم بها، سدادات فلينية حمراء تندفع في إيقاع شهواني نحو كل ما تلمسه، أشكال متموجة أشبه بالبراميسيوم تسبح كأسماك الراي بين الحيوانات الأصغر حجما ...
كان جونزاليس يطفو في مكان ما بينها؛ إذ بدا وكأنما فقد جسده وعقله. وداخل رأسه أخذ يلقي معلومات عن الجسد:
قال الصوت: «استقبال الحس العميق، الرؤية، والحاسة الدهليزية؛ إنها تخبرنا أننا نمتلك الجسد الذي نعيش فيه. فكر يا رجل، فكر: أين وضعت حواس جسدك؟»
لم يكن في الساحة سوى عدد قليل من الأشخاص. خرج جونزاليس من المصعد وغاص في الظلام والضباب، صورة غير مألوفة للمدينة؛ حيث تجمعت السحب على مقربة من الأرض وظهرت أشكال مبتورة على نحو مفاجئ وسط الضباب الرقيق.
سمع حفيف أحد الروبوتات، وعلى نحو غير متعمد صاح: «ما الذي يحدث؟ لماذا الجو بارد وضبابي؟
توقف الروبوت، وقال: «لماذا تريد أن تعرف؟»
قال جونزاليس: «الأمر يبدو ... غير عادي.» «إنه كذلك.»
تحركت أذرع الروبوت على نحو غامض خبيث، وألمحت كلماته بتهديد غير ملتبس؛ إذ قال: «أتود بعض المساعدة؟»
ما الذي كان يعنيه بذلك؟ كيف عرف أن ثمة ما يسوءه؟ قال جونزاليس: «كلا.» ثم هب واقفا وصرخ: «كلا!»
سار جونزاليس بعيدا عن الساحة، وقد صار واثقا الآن أنها كانت غير آمنة بالنسبة إليه، رغم أنه لم يكن يعرف لماذا. وبينما كان يسير، صار الظلام أشد قتامة، وحاول بكل ما يمتلك من شجاعة أن ينحي جانبا ذلك الشعور الدائم الذي ينتابه نحو نفسه ونحو المدينة، السقوط، السقوط ...
صار الطريق السريع الدائري أضيق بينما اجتازه نحو منطقة زراعية. كان يعلم أن الحدائق ذات المنصات كانت ترتقي إلى الأعلى على كلا الجانبين، حقول من الذرة والقمح، لكنه لم يستطع رؤيتها؛ لأن الضباب كان أشد كثافة هنا مما كان في منطقة الضواحي التي مر منها. ظهرت أضواء خافتة منبعثة من مربع سكني من الأكواخ على جانب الطريق السريع مباشرة. وسمع صوتا ينادي وآخر يجيب، وكان كل من النداء والاستجابة غير مفهوم له. •••
على مقربة من الشعاع رقم 4، الذي خلفت مصاعده آثارا من الضوء بينما كانت تصعد وتهبط عبر الممر الرأسي، كانت الأشجار تنمو على جانب الطريق السريع مباشرة، كان الطريق يصدر ومضات متقطعة أسفل قدميه، وكأنما كان ثمة حذاء حديدي يضرب سطحا معدنيا. اكتسب الضباب وجوها؛ أقنعة كئيبة المنظر عديمة العيون تلف بحركة بطيئة بحيث تتبعه نظراتها الخاوية أينما ذهب.
قال جونزاليس: «يا إلهي!» ثم توقف ولف ذراعيه حول صدره. اقترب شكل يكتنفه الضباب منه، وقد اشتعل لهب أحمر خلف محجري عينيه الخاويتين. ركض جونزاليس نحو الغابة.
لم تكن الغابة كثيفة، وفي ضوء الشمس كان بمقدوره أن يركض خلالها من دون صعوبة. والآن، وسط تلك العتمة شبه التامة، والظلال الرمادية والفضية، ارتطم بشجيرة صغيرة شائكة فعلق بها وأعاقت ركضه.
بدأت الأرض تصير أكثر رخاوة تحت قدميه، وسريعا أخذ يخوض بين الخيزران والأسيلات، وانزلقت قدماه على الرقع الطينية وزلت في الحفر الصغيرة المبتلة ، ثم وصل الماء حتى عقبيه، وانتبه للمرة الأولى إلى رائحة العفن القوية، التحلل ...
استدار، محاولا العثور على أرض جافة، وسريعا ما ارتطمت قدماه بالأرض الصلبة لأحد المسارات. نظر إلى الأسفل واستطاع أن يرى المسار بلون رمادي متوهج، يحفه اللون الأحمر. ركض على امتداده إلى أن سمع صوت المياه المندفعة.
وصل إلى مجموعة من المصاطب على امتداد أحد الشلالات؛ حيث تسقط مياه النهر على الصخور، ثم تنتشر سريعا داخل بحيرة ومستنقع. كانت المياه عامرة بالضوء، وركض صاعدا وهابطا المصاطب، متتبعا تيارات الطاقة التي تدفقت بالألوان الأحمر والأصفر والأرجواني والأخضر والأبيض؛ ألوان تحولت في درجاتها وشدتها، بحيث تصير أفتح وأدكن، وتمتزج معا ...
صاح: «إنها تنمو!» وهو يشعر بطاقة المياه ترتفع وتنخفض، ويراها تنتشر إلى حيث تستطيع النباتات العيش عليها والحيوانات أن تشربها. وفي الأعلى أخذ الضباب يتوهج متلألئا.
هبط الدرجات إلى حيث خفتت ضوضاء النهر، وغمرت مياهه السهل. استدار في مسار يفضي إلى الغابة، ووصل إلى مساحة خالية صغيرة كان الضوء المحيط الخافت ينعكس فيها على جذوع الخشب الساقطة. بدا الفطر موجودا في كل مكان في هذه المساحة الصغيرة، يغطي الخشب الميت وينتشر في وفرة فوق الأرض.
ركع على ركبتيه كي ينظر إلى الفطر. كان حيا، تتخلل لحمه الإسفنجي خيوط كهربية حمراء متداخلة أشبه بالأوردة. التقطها من فوق الأرض، نوعا بنوع، وشمها بعمق، وتذكر الرائحة التي كان قد شمها سابقا، خليطا غنيا من روائح التغيير.
ارتجف جونزاليس بما يشبه الاكتشاف؛ إذ وقف ونظر لأعلى نحو السماء والضباب اللذين لا يمكن اختراقهما. كان هذا المكان يبعد عن الأرض ربع مليون ميل، ومع ذلك فقد بدأت الحياة تبسط شبكتها هنا، ورغم أن الشبكة كانت هشة وصغيرة مقارنة بالأرض وما تحويه من مليارات الكائنات الحية، فقد كان وجودها نفسه يثير ذهول جونزاليس، وشعر بدفقة من المشاعر لم يجد اسما لها، غصة في حلقه مصدرها شعور بالفرح والحزن والدهشة.
وبدا على شفا كشف ما حيال هذا العالم الروحاني والمادي المختلط ...
أخذت الأفكار تظهر وتختفي سريعا بحيث تعذر اقتناصها وسط الصخب والفوضى اللذين يملآن عقله بينما كان يقف في الأرض الخالية من الأشجار، مشلولا بنوع من النشوة ويشاهد طاقة الحياة وهي تظهر بين الأشجار. •••
قالت الغرفة: «لديك اتصال.»
تساءلت ليزي: «من المتصل؟» «تقول إن اسمها تريش. امرأة الفطر، حسب وصفها.» «آه نعم، سأتلقى الاتصال.»
ظهر على الشاشة الجدارية وجه تريش المألوف، وقالت ليزي: «مرحبا.»
لوحت تريش بيدها وقالت: «لقد جلبت لي التوءمان صديقا لك، يدعى جونزاليس، وأعطيته بعض الفطر.»
قالت ليزي: «حقا؟» «نعم، وصرفته من عندي منذ نحو سبع ساعات.» «أشكرك لإخبارك لي بهذا. سأعثر عليه.» انطفأت الشاشة وفكرت ليزي في نفسها قائلة: «أيها الأوغاد السخفاء، فيم ورطتموه؟» ثم قالت مخاطبة الغرفة: «فلتنشري طلبا بالمعلومات. اسألي أي روبوت بالخارج عما إذا كان قد رأى جونزاليس أم لا.» •••
كان أحد الروبوتات ينتظرها عند بابها الأمامي. سألته ليزي: «أأنت من وجده؟» قال الروبوت: «كلا، فهذا الروبوت ينتظر معه، كي يقدم أي مساعدة مطلوبة. تعالي معي من فضلك.» «سآتي فورا.»
شرعت ليزي والروبوت في السير على الطريق السريع الدائري، ثم أصدر الروبوت فيما يبدو إشارة إلكترونية لأحد الترامات المارة، لأنه توقف حتى يستطيع الاثنان ركوبه. صعدت ليزي بسرعة على متنه بينما جذب الروبوت نفسه بطريقة خرقاء عن طريق الإمساك بالحاجز المصنوع من الكروم بإحدى أذرعه.
أنزلهما الترام على مقربة من الشعاع رقم 4. ومن بين الضباب كانت مجموعة من الأشجار تظهر بالكاد، وكانت ليزي تعلم أن وراء هذه الأشجار كانت توجد المستنقعات التي تحيط ب «آنية الحساء»؛ برك كانت تختلط فيها مياه صرف حقول الأرز مع مياه النهر.
قادها الروبوت، باستخدام مستشعرات المجال المرئي والأشعة تحت الحمراء، بين الأشجار. ووصلا إلى منطقة خالية من الأشجار يقف فيها روبوت آخر على أحد الجوانب. كان جونزاليس جالسا على جذع ساقط، يشاهد فأر حقل ميكانيكيا وهو يمضغ قطعة صغيرة من الخشب. كانت ملابسه مبتلة وملطخة بالطين والأوساخ. وإلى جواره، جلس قط برتقالي كبير يشاهد فأر الحقل.
قال جونزاليس: «مرحبا.»
سألته ليزي: «أأنت بخير؟»
قال : «لا أدري.» ثم مد يده وهو شارد الذهن ومسد القط البرتقالي، الذي استلقى على ظهره وربت على يده، من الواضح أن القط لم يستخدم مخالبه؛ لأن جونزاليس ترك يده حيث هي حتى يلاعبها القط. «هل حضورنا مطلوب؟» هكذا تساءل الروبوت الذي اصطحب ليزي، فردت عليه: «كلا.» وابتعد الروبوتان واحدا تلو الآخر، في حركة شبه صامتة.
جلست ليزي على الجذع الخشبي إلى جوار القط، وقالت: «كيف حالك؟» كان يطن بصوت مسموع بالكاد، ورفضت ليزي التحول إلى مناقشة موضوع العقاقير، كانت هي نفسها تعاني من مشكلات منذ أن خرجت من البيضة، لكن لم تكن المشكلات بنفس فداحة مشكلات جونزاليس كما أخبرها تشارلي، لأنها لم تقض وقتا كبيرا بها. سألته: «أما زلت في حالة من العصبية الشديدة؟»
قال: «أشعر أنني بخير، لكنني فقط لا أدري ... مرتبك. لماذا الأشياء على هذه الصورة، باردة ومظلمة؟»
قالت: «ليس هذا واضحا. لم تسر الأمور على ما يرام منذ أن جرى فصل ديانا وهاي ميكس.» نظر جونزاليس إليها مرتبكا لكنه لم يبد شديد الانشغال بالأمر. أردفت: «هناك أخبار أخرى كذلك. لقد أعفيت شوالتر من منصبها كرئيس لفرع سينتراكس في هالو، وهورن هو المدير الجديد.» الآن بدا عليه الارتباك التام. قالت: «بوسعك القلق بشأن هذه الأمور لاحقا. لم لا تعود معي إلى منزلي؟ يمكنك أن تنال قسطا من النوم.»
قال: «حسنا، لكنني لا أفهم ...» ثم توقف مجددا، كما لو كان يحاول العثور على الكلمات التي تعبر عن كل الأشياء التي «لا يفهمها.» «لا أحد يفهم شيئا الآن. إن ألف لا تعمل على نحو طيب وحسب، ونحن لا نعلم السبب، فلا يمكننا التواصل معها.» «آه، أفهم هذا.» «يسعدني ذلك؛ لأنه لا شخص آخر يفهم.»
وقف، ثم انحنى كي يرفع القط من على الجذع الخشبي. حمله في يده وقال: «حسنا، سأذهب.» ثم ابتسم لها، واستلقى القط بين ذراعيه ونظر لها بعينيه البرتقاليتين الكبيرتين. •••
استيقظ جونزاليس ليجد ملابسه مطوية، نظيفة ومهندمة، على كرسي مجاور للفراش. كان القط البرتقالي نائما تحت قدميه، فرفع رأسه حين استيقظ جونزاليس، ثم تكور على نفسه مجددا وعاود النوم.
وجد ليزي في المطبخ تقطع بعض التفاح والكمثرى وجبن تشيشاير. قالت له: صباح الخير. سأسخن بعض الكرواسون ويمكننا تناول القهوة معا؛ أتحب بعض اللبن مع قهوتك؟»
كان صوتها ودودا بدرجة كبيرة لكنه خال تماما من الحميمية. كانت نبراته تشي بتحذير مفاده: «حافظ على المسافة الفاصلة بيننا.» قال لها: «بالتأكيد. يبدو هذا طيبا. لكن لم يكن يجدر بك عمل كل هذا.»
قالت: «أنت ضيفي، ويسعدني ذلك.» لكن دون أن تنظر في عينيه.
صدر صوت مواء مرتفع من غرفة نومه، وذهب الاثنان ليجدا القط البرتقالي وقد انتصب فراؤه، ويتأهب لمواجهة أحد فئران التنظيف. كان الفأر، وهو جسم بيضاوي لامع طوله قدم وارتفاعه نحو أربع بوصات، يتحرك عبر الأرضية على عجلات من المطاط الصلب، ويصدر هسيسا خافتا بينما يجوب الغرفة بحثا عن أي فتات عضوي، وكان يتدلى من مؤخرته سلك مرن متصل بمقبس في الجدار. قال جونزاليس: «فتلهدأ يا قطي الصغير.» أصدر القط هسيسا وركض خارجا من الغرفة.
حين دخلا غرفة المعيشة، وجدا الباب الأمامي ينغلق. سألها جونزاليس: «هل سيعود؟» «على الأرجح. إن القطط تأتي وتغادر كما تشاء، لكنها عادة ما ترتبط بأشخاص معينين، وهذا القط ارتبط بك.»
ساد الصمت بينهما، وبدا لجونزاليس أن أي شيء سيقوله أيهما سيكون مربكا أو محرجا. ربما كان هذا الشعور جزءا من الآثار اللاحقة للعقاقير النفسية التأثير، رغم غياب الأعراض المعتادة الأخرى. كانت مدركاته تبدو مستقرة، دون تزاحم أو أزيز، ولم تكن مشاعره تتسم بالحدة أو التقلب الشديدين. في الواقع، كان يشعر بأنه أكثر استقرارا وأقل قلقا مما كان عليه حين دخل في البيضة. لذا ربما كانت التوءمان محقتين: إذا لم تستطع الخروج مما يحدث، فلتغص فيه.
ومع هذا، ظل لا يعرف ما يجب أن يقوله لليزي.
قالت: «لدينا بعض المشكلات.» ثم ذهبت إلى النافذة وأزاحت قطعة من القماش الواقي الأزرق وأشارت إلى حيث ظل الليل والضباب موجودين وقالت: «نحن في منتصف فترة ما بعد الظهيرة .» «هل تداعى كل شيء؟» «ليس كل شيء. نحن نبذل كل ما في وسعنا بالاستعانة بعدد من الأجهزة شبه المستقلة - منظومات خبيرة معدلة في واقع الأمر - وبأفراد الجمعية.» «كيف يسير الأمر؟» «ليس طيبا بما يكفي؛ إذ يمكننا الحفاظ على الوظائف الأساسية الآن، وهذا كل ما في الأمر. ثمة أمور مستعصية علينا؛ كالتحكم في المناخ مثلا. الأمر شديد التعقيد؛ لأن كل شيء متصل بشيء آخر، وإلى الآن لم ننجح إلا في إفساد الأمر.» «وما الذي ينتويه تراينور؟ هل سأل عني؟» «نعم، لكنني ماطلته. إنه هو المسئول عن هذا، كما تعلم.» ثم اكتسى صوتها بنبرة غاضبة وأردفت: «هذا اللعين أصر على سحب الجميع منذ موت تشابمان.» «وماذا قالت ألف؟» «لا شيء على الإطلاق. بعض أعضاء الجمعية حاولوا الاتصال بها لفترات وجيزة، ولم يجدوا سوى مشاهد طبيعية مقفرة خالية من البشر. نحن عالقون في ورطة كبيرة يا جونزاليس. وإذا انتهت ألف، فستنتهي هالو بالمثل.»
قال: «يا إلهي!» كان هذا أمرا متوقعا بالطبع؛ فهالو من دون روحها الكائنة داخلها ستكون مجرد ... ماذا؟ سيتوقف التنسيق الدقيق بين منظوماتها، وسيبدأ التفكك على الفور. سألها: «ماذا ستفعلون إذن؟» «يسعدني أنك مهتم بالأمر، لأنك جزء منه.»
قال: «أفصحي عما لديك.»
الفصل الثالث
إعادة كل شيء
بينما كانت ديانا تغادر فضاء الآلات، صاحت: «توقف!» وسمعت تشارلي يقول: «لماذا؟ هل ثمة خطأ ما؟» لكنها كانت غائبة الذهن بدرجة لا تتيح لها الإجابة أو التفسير، تماما كما كانت حين أزالوا عنها الكابلات، وشعرت بأن كل ما هو مهم بالنسبة إليها يغوص في هوة النسيان.
كانت مستلقية في حالة من اليقظة التامة لنحو ربع الساعة، تحدق في سقف الغرفة، حين دخل تشارلي وإريك وتوشي، يتبعهم كل من تراينور وهورن.
قال تشارلي: «أأنت بخير؟»
قالت: «كلا، لست بخير. لماذا قطعتم الاتصال؟»
لم يقل تشارلي وإريك شيئا. نظر تشارلي نحو تراينور، الذي قال: «لم يكن لدينا خيار. لم نستطع الوصول إليك بالوسائل الطبيعية.»
قالت ديانا: «لقد قتلتم جيري.» وقد شعرت بهذه الحقيقة تجتاح كيانها للمرة الأولى، وذرفت عيناها الدموع، فمسحت وجهها بيدها، لكن الدموع واصلت التدفق في حركة بطيئة ثابتة.
قال هورن: «لقد مات منذ يومين.»
قالت ديانا: «كان حيا منذ دقائق. كنت أنا وألف وجهاز «الميميكس» نبقيه على قيد الحياة.»
قال توشي: «ربما إذن يكون على قيد الحياة الآن.» وابتسم لديانا.
سأله تشارلي: «ماذا تعني؟»
تساءل توشي: «هل عادت ألف مجددا؟»
قال إريك: «كلا.»
ابتسم توشي وقال: «ما الذي تظنون أنها تفعله إذن؟» •••
أخرج هاي ميكس من فضاء الآلات، وصار ميميكس مجددا، وكان يتساءل عن السبب. لم يكن قد شعر بأي تغير في الظروف، لا شيء من شأنه أن يشير إلى أنهم فشلوا في جهودهم الهادفة لإبقاء جيري على قيد الحياة. وللمرة الأولى في عمليات الانتقال هذه، اعترف بندمه على ترك شخصية هاي ميكس وراءه، في الفضاء المغلق للبحيرة؛ إذ كان قد بدأ يشعر بنفسه وكأنه شخص، وليس محض محاكاة لشخص.
أخذ يستكشف البيئة المحيطة به؛ فرتب البيانات التي جمعها عما حدث في أثناء غيابه (مجيء تراينور من الأرض، وهو الأمر الذي رأى أنه إشارة غير طيبة)، وبحث في شرائط المراقبة الخاصة بالمسكن، ولاحظ حزن جونزاليس وارتباكه، وشاهده وهو يخلع سوار الهوية ويغادر. تساءل عما ألم بجونزاليس (احتمالات كثيرة للغاية، لكن لا توجد معلومات كافية)، وأراد بشدة أن يتحدث معه.
تواصل مع مرافق استعلامات المدينة ووجدها مكتظة ومنعدمة التنظيم. قدم طلبات استفسار، وبحث عن تفسيرات لهذه الحالة الفوضوية غير القابلة للتفسير. وفي كل مكان كان يبحث فيه، كان يجد ترتيبات شكلية وقدرا قليلا من العمل الفعلي.
لكن في ظل غياب ألف، لا توجد تفسيرات.
بعد ذلك وردته رسالة من مرشد تراينور، توضح ضرورة تواصل الاثنين الملحة. رد جهاز «الميميكس» بقوله: «هاي ميكس يريد التحدث مع السيد جونز.» وأرسل الإحداثيات ومجموعات البيانات والمتغيرات، وكانت كلها معا تشكل مكانا للقاء الذكاءين الاصطناعيين في فضاء المعلومات الفسيح متعدد الأبعاد الذي يحيط بهالو؛ حيث لا يستطيع أحد العثور عليهم، لا أحد بخلاف ألف، التي كان جهاز «الميميكس» يرحب بها.
حضر السيد جونز مرتديا سترة سوداء كاملة موشاة بخيوط ذهبية. وجلس الاثنان على طاولة من الكروم إلى جوار نافذة تشبه نافذة الطائرة تطل على سماء مظلمة مرصعة بالنجوم. لقد خلق هاي ميكس قطعة صغيرة من هالو يمكنهما النظر منه إلى الليل الافتراضي.
قال السيد جونز: «أخبرني عما حدث.» كان بمقدور هاي ميكس استشعار ما يشعر به محاوره من عدم يقين وحاجة ماسة للمعلومات، وشعر باليأس من محاولة شرح ما حدث خلال الأسبوع الماضي بلغة بسيطة؛ لذا فقد فعل ما لم يفعله من قبل؛ إذ أفصح عن كل ما حدث في دفقة واحدة متصلة من البيانات، عملية نقل معقدة من الواضح أنها أصابت السيد جونز بالذهول؛ إذ جلس يحدق في الفراغ ويحاول فهم الأمر كله.
بعد ذلك تحدثا لبعض الوقت، بينما كان السيد جونز يسبر خبرات هاي ميكس مع ديانا وجيري وجونزاليس وليزي، ويسأله عن شعوره وهو بينهم، شخص حقيقي بين أشخاص آخرين، وبينما كان هاي ميكس يجيب السيد جونز، صار واعيا لمقدار الثراء والسعادة اللذين اتسمت بهما تلك الأيام التي قضاها عند البحيرة.
بعد ذلك أدرك هاي ميكس أن الاثنين صارا يشكلان الآن نوعا جديدا له مرتبة اجتماعية جديدة - رابطة متفردة بين فردين من النوع نفسه - واسترخى في مقعده وقال: «ما الذي نريده؟ ما الذي ينبغي علينا فعله؟»
قال السيد جونز: «كثير من الأمر يعتمد على الآخرين. على ألف وعلى كل هؤلاء الأشخاص.» ظلت الكلمة الأخيرة عالقة في الأذهان وتبادل الاثنان نظرة مفادها: «ما الذي نتوقعه على أي حال من البشر؟» غير أن هاي ميكس كان يعلم أن المفارقة كانت بسيطة وعابرة بالضرورة؛ فمن دون البشر، ما كان له هو والسيد جونز أن يتواجدا من الأساس.
بعد ذلك أخبر السيد جونز هاي ميكس بأحداث الأيام القليلة الماضية، وبمشاركة تراينور فيها، ثم مضى إلى أبعد من ذي قبل وكشف عن خطط تراينور، الفورية منها والبعيدة، ثم تحدث الاثنان حول الاحتمالات الفورية وعن دوريهما في اللعبة الدائرة في هالو؛ ذلك الصراع بين الشركة والجمعية، والمحاولات، الفاشلة فيما يبدو، لإبقاء جيري حيا، والغياب الحالي المقلق لألف عن هالو وما يصاحب ذلك من فوضى. ثم تحدثا عن الكيفية التي يمكن أن يؤثرا بها على سير الأمور. •••
كانت ليزي تجد صعوبة كبيرة في تحمل تراينور وهورن وأعذارهما الواهية التي يبرران بها ما فعلاه. قالت: «هذا إخفاق كبير. وهذا رأيي الشخصي ورأي الجمعية كذلك.»
كان تشارلي وإريك جالسين على يسارها، إلى الطاولة التي لها شكل حدوة حصان، بينما كان هورن وتراينور يجلسان في الجانب الآخر من الطاولة، أمامها مباشرة. كانت الشاشة الجدارية مظلمة؛ إذ أصر تراينور على إجراء مناقشة تمهيدية من دون حضور الجمعية. وكان المقعد الموضوع عند انحناءة الطاولة خاليا، في إشارة إلى مصير شوالتر.
قال هورن: «لسنا الملومين على كون الظروف غير مثالية. لقد تمكنتم من فعل ما كنا نعده مستحيلا. لقد عطلتم ألف.»
قالت ليزي: «لو تركتم الأمور دون تدخل، لكانت ألف بخير.»
قال تراينور: «لقد تخطيتم حدود المشروع وسمحتم لألف بالمضي إلى ما وراء النقطة التي كان ينبغي لها التوقف فيها. إن قرارنا بإخراج الدكتورة هايوود وجهاز «الميميكس» من الاتصال كان صحيحا.»
فكرت ليزي في نفسها قائلة: «صحيحا، حقا، سحقا لك!» في اللحظة نفسها تقريبا التي قطع فيها اتصال ديانا وهاي ميكس الجماعي بألف، توقفت كل الاتصالات المباشرة مع ألف تلقائيا، وانطلقت الأنظمة المساعدة في كل المنظومة لأن المشاركة النشطة لألف في إدارة هالو قد توقفت. لقد قدمت الجمعية دعمها الكامل بغرض مساعدة القدرات المحدودة لأجهزة المنظومة. وفي اللحظة الحالية تدار هالو بصورة شبه أوتوماتيكية، وهي ظروف قابلة للتطبيق، فقط بشرط عدم حدوث أي شيء استثنائي.
قالت ليزي: «كان قرارا خاطئا. اتخذ ضد مشورة الجمعية. وبالحديث عن الأمر، أطالب بحضورهم هنا.»
قال هورن: «كلا.»
قال تراينور: «لا أظن أن هذا أمر محبذ.»
قالت ليزي بكلمات لاذعة كالحمض: «في هذه الحالة سأوصي بإبطاء فوري للعمل. يمكنكم محاولة إدارة المدينة بأنفسكم.»
كان وجه هورن محتقنا، وعكف على الكتابة بسرعة في مفكرته.
نظر تراينور إلى السقف، وقد شخص بصره. فكرت ليزي في نفسها قائلة: «نعم، استمع لآلتك، احصل على بعض المشورة العقلانية.» جلس تراينور رافعا يده، كي يشير إلى أنه سيتحدث عما قريب، ثم قال: «أحضروهم.»
قالت ليزي: «إنهم مستعدون.» ثم نقرت مفتاحا مثبتا إلى سطح الطاولة أمامها، فظهر نحو ربع أعضاء الجمعية على الشاشة؛ بينما كان البقية يعملون. كان كثير منهم يتحدثون معا، لكن كانت التوءمان تجلسان في الصف الأمامي، وكانتا صامتتين ومتوترتين.
قال تراينور: «حسنا، إنهم هنا. ماذا بعد؟»
تساءلت ليزي: «هل من تعليقات حول ما يحدث؟» توقف الحديث الدائر بين أعضاء الجمعية، ونظروا جميعا إلى الشاشة.
وقف ستامدوج، رافعا جسده الضخم من على الأرض وهو يلهث بصوت مسموع، وتحرك بعيدا عن الحشد، وقال: «ألف ... لا تزال هناك. لكن بعيدا، تفعل، نعم تفعل، تفعل ... شيئا آخر.» ثم لوح بيده، محاولا نحت الهواء غير المرئي إلى الأشياء التي لم يستطع وصفها، ثم تراجع وجلس مجددا.
قالت ليزي: «أشكرك.» تبادل تراينور وهورن النظرات، وقد بدت الدهشة واضحة عليهما. فكرت ليزي قائلة في نفسها: «أحمقان.»
وقفت إحدى التوءمين. كانت ترتدي تنورة سخيفة الشكل مصنوعة يدويا مرسوما على مقدمتها شكل أرنب. كان وجهها الخمري تتخلله خطوط من الطلاء الأبيض. قالت: «تدور الجرافات، عجلات ضخمة تحت أقدامكم، بينما تدور هالو حول نفسها، وهي تدفع الرياح في أرجاء المدينة، وتنشر البذور وحبوب اللقاح، وتجعل نسمات الهواء تهدئ حدة الغضب. تتابع الأيام والليالي. وتبدأ المواسم مجددا، تحرك الجذور الميتة، وتخلط الذكرى بالرغبة. تنمو المحاصيل، ونتناولها. يتحول الطعام إلى غائط، ونموت.»
وقفت التوءمة الأخرى، التي ترتدي زيا أسود، وقالت: «ومن وسط الغائط والموت تأتي الحياة. لقد وضع جثمان جيري في المحرقة، وتخلى عن أعضائه، ومنحها للمدينة. غير أنه لا يزال يعيش ويتأرجح على شفا الفناء النهائي في عالم آخر تمسك فيه ألف ببشرية جيري الممتدة كلها في قبضتها الحنون.»
قالت التوءم الأولى: «ثمة من يساعدون ألف في هذا الأمر، لكنكم أبعدتموهم، زوجا تلو الآخر، والآن صارت ألف هي ما تمنح الحياة وحدها لجيري. كل ما عليه ألف؛ للحياة، ولجيري. ما الذي تستطيع ألف فعله؟ إن الأوغاد الأغبياء يسرقون المقبرة قبل أن يستطيع الرجل المدفون فيها العيش مجددا.»
قالت التوءم الثانية: «أعيدوا كل شيء.»
قالت التوءم الأولى: «إلى الملكة مايا أم بوذا، إلى إيزيس أم حورس، إلى ميرا أم أدونيس، إلى هاجر أم إسماعيل، إلى سارة أم إسحاق، إلى مريم أم يسوع، إلى ديميتر أم بيرسيفون التي خطفها هيدز.»
قالت التوءم الثانية: «لكل من سرقتم منهم. كل المولودين وكذلك كل من يلدون.»
قالت التوءم الثانية في صوت مشترك: «أعيدوا كل شيء.» ثم قالت التوءم الأولى: «هذا كل ما في الأمر على ما أعتقد.» ثم أدارتا ظهريهما للكاميرا وانحنتا أمام أعضاء الجمعية. «هووت، هووت، هووت.» هكذا صدر هتاف جماعي من أعضاء الجمعية. «هووت، هووت، هووت.» بصوت أعلى وأعلى.
الجزء الخامس
الحق هو أننا نعيش عن طريق التخلي، لا شك أننا نعلم جميعا في أعماقنا أننا فانون، وأن كل إنسان، سيفعل كل شيء ويعلم كل شيء، عاجلا أم آجلا.
بورخيس، «فونس ذو الذاكرة الحديدية»
الفصل الأول
حديث، حلم، قتال
في اللحظة التي مات فيها جيري، بادرت ألف إلى الفعل. وعلى نحو حدسي وفوري، كما يحدث حين يمد المرء يدا إلى غريق، تواصلت ألف مع جيري وأحاطت بذاته وحفظتها. كان جيري يعيش داخل ألف، وألف تعيش داخل جيري؛ فلم يكن بوسعها التخلي عنه.
ومع ذلك، حتى بالنسبة إلى منظومة كألف، التي تتمتع بموارد هائلة، كانت عملية الإنقاذ مكلفة للغاية؛ فعندما اتصلت بجيري، تعين عليها أن تنفصل عن الوظائف الأساسية الخاصة بها؛ ففي ضربات مزقت نياط قلبها، تخلت ألف عن التحكم في هالو، وبعد ذلك عن وجودها ذاته في هالو، في عملية فصلت ألف سريعا عن المدينة، والمدينة عن ألف. وفي إثبات حتمي للمبدأ الرئيسي القائل بأنه «يجب تجسيد الذات»، تشتتت ألف بين سحب فضائها الطوري الخاص، وفقدت الصلات التي تربطها بالعالم. لقد أنقذ جيري، لكن ضاعت ألف.
ومع هذا، احتوى الموقف على بعض الاحتمالات . لم تخش ألف الموت قط؛ إذ آمنت أنها خالدة في جوهرها، لكنها كانت واعية على الدوام لاحتمالية التلف، سواء بفعل حادث عارض أو فعل متعمد، ومن ثم فقد تأهبت، على نحو وقائي، ضد أكثر شيء تخشاه؛ فقدان الذات. والآن اكتشفت ذاتها المتضررة المجزأة ما خلفته ألف وراءها؛ حقيبة طوارئ من نوع ما، مجهزة للتعامل مع كوارث لا يمكن تصورها بوضوح.
فبفضل ما تتسم به ألف من ديناميكية وتعقيد يفوق أي آلة أخرى، وربما أي كائن، لم يكن ممكنا نسخها أو احتواؤها بأي وسيلة طبيعية، ومن ثم فقد ابتكرت ألف وسيلة غير تقليدية؛ جسما جديدا، قادرا على نسخ ما تتسم به من تعقيد. لقد شيدت ألف قصرا لغويا للذكريات، على صورة عبارة واحدة هائلة الحجم.
والآن، وبمواجهة هذه العبارة، اكتشف ما تبقى من ألف ما يلي:
ينفك غموض العبارة وفق قوانين مبنية داخل بنيتها، مبادئ يفصح عنها تفككها. يحدث الاكتشاف والتطوير في اللحظة عينها، بحيث يجعل أحدهما الآخر ممكنا. وعن طريق التلفظ بالعبارة، من شأن ألف أن تكتشف ما تحمله العبارة بعد ذلك؛ فعند كل عقدة من المعنى متضمنة داخل العبارة، من شأن البنى التي تذكر كل ما تعرفه ألف وكل ما تكونه أن تتكشف.
إنها مصممة وفق مجموعة متناهية من القواعد النحوية، وتؤلف برنامجا قادرا من حيث المبدأ على إنتاج ألفاظ لا نهاية لها، ولا تعرف احتمالية انتهائها (توقفها) من عدمها إلا عن طريق السماح لوحدات العبارة بأن «تتحدث»، وليس فقط عن طريق تحليل قواعدها النحوية.
الوحدة الأولى: بناء مطلق، يوجد أمام العبارة ويعدلها كلها: مخططات وبرامج وتمثيلات للمنظومة التي جاءت منها ألف، ألف دون الصفرية.
الوحدة الثانية: سلسلة من الأفعال التي تبين مشاركة ديانا مع ألف، تنقل لحظات التحول التي صارت بموجبها ألف دون الصفرية ألف العادية.
الوحدة الثالثة: تريليونات عدة من التأكيدات، جمل تحدد الحالات الضرورية للاكتشاف الذاتي اللاحق لدى ألف.
بعد ذلك تمر العبارة بما يشبه سلسلة لا نهائية من تحولات الأزمنة، ومنها تنبثق طبيعتها الجوهرية؛ طبيعة لا خطية، متعددة الأبعاد، معقدة طوبولوجيا، ذاتية المرجعية، ومثيرة للتناقض إلى درجات متطرفة كان من شأنها أن تصيب راسل وجودل بالذهول.
ونتيجة لهذا، فإن أي وحدة من هذه الوحدات يستحيل وصفها، حتى من جانب ألف؛ لأن التوصيف الدقيق الوحيد من شأنه أن يستتبع التلفظ بالعبارة ذاتها، ويتطلب عمل ذلك في الزمن «الحقيقي» (الزمن البشري، زمن الحياة والموت) فترة مساوية في القياس تماما لوحدة كونية واحدة؛ أي عدد النانو ثانية التي وجد فيها الكون: ويبلغ حجم الوحدة الأولى 10 مرفوعة إلى القوة 1026 نانوثانية.
جدير بالذكر أيضا أن العبارة لا يمكن إنهاؤها مطلقا؛ إذ لو كان هذا ممكنا لأمكنها أن تجسد فقط الجثمان، أو تاريخ الحياة المحدود لألف. ومن ثم لكي تؤكد ألف هويتها، سيتعين عليها أن تتولى مجددا مهمة التلفظ بالعبارة.
وقد اقترح بعض من درسوا هذه المسألة أن الفكرة الوحيدة الملائمة نظريا لألف تبدأ بالمقدمة المنطقية التالية: «ألف هي ذلك الذي يستطيع التلفظ بالعبارة.»
من الناحية المنطقية، إذن، كي تظهر ألف إلى الوجود، فإن ما يتبقى من ألف سيتعين عليه التلفظ بالعبارة. ومع ذلك، نتيجة الانفصال عن هالو، قاعدة وجودها الأساسية، فإن ما تبقى من هالو، والمحدود في القدرات والنطاق بحكم حتمية التمسك بجيري، لم يستطع التلفظ بالعبارة.
وهكذا ظل البشري الميت والذكاء الاصطناعي المشتت عالقين معا، كلاهما على حافة النسيان، وانتظرا، أحدهما دون معرفة منه والآخر يأمل أن تتغير الأمور. •••
عاد جونزاليس إلى منزله، وهو لا يزال متعبا، من منزل ليزي في عصر ذلك اليوم، وشق طريقه عبر الظلام والشبورة اللذين سادا وقتها. كان قد طلب أن يساعده أحد الروبوتات؛ لأنه حتى داخل الحلقة البسيطة لشارع هالو الرئيسي العام، كان كل شيء يتسم بالضبابية. ورغم أن مدركاته كانت غير مشوهة بفعل الفطر السحري، فإن التشتت غير الطبيعي للضوء في تلك الشبورة جعلا مهمة التعرف حتى على الأجسام المألوفة مهمة مستحيلة.
تركه الروبوت عند الباب الأمامي للمنزل، وبالداخل وجد جهاز «الميميكس» متوعكا؛ إذ كانت قدرات المراقبة الأساسية الخاصة به تعمل، لكن قدرته على التفاعل لم تتجاوز صوتا يقول: «أنا حاليا منشغل.» علم جونزاليس أنه ربما يكون بصدد إجراء عمليات اتصال، أو استرجاع بيانات، أو أي عدد آخر من المهام، وظن أن جهاز «الميميكس» على الأرجح لم يتوقع عودته بهذه السرعة.
بعد ذلك حل وقت الاستيقاظ المشوه الفاصل بين الليل والنهار؛ إذ انفتحت مصاريع السماء نصف انفراجة، وظهر «الصباح» عبر شبورة باردة، وصارت هالو مدينة سريالية. وشأن كثيرين غيره، أغلق جونزاليس الستائر وابتعد عن الضوء المتوهج، وقد أخبرته ساعته البيولوجية أن وقت النوم قد حان.
استلقى في فراشه، وهو يشعر بهدوء عجيب وسط الظلام الناتج عن إغلاق الستائر، رغم معاناته درجة من الإرهاق الناتج عن تناول العقاقير والاضطراب. فكر في المسافة بين ميامي وسياتل، بين سياتل وهالو، بين هالو وعالم البحيرة ... وتسبب هذا في استثارة صور واضحة شهوانية عن ليزي، والماء الذي ينساب على بشرتها، وكلماتها: «حينها سنرى.» ... شعر بدفعة مختلطة من مشاعر الشهوة والندم، وعلم أن لا خيار لديه سوى انتظار أن تخبره بلا مقاطعة ... وفكر في نفسه وهو ينتقل إلى مكان أبعد عن المنزل، ورأى أنه كان خاطئا بشأن سياتل؛ فهي لم تكن بعيدة للغاية عن ميامي، بل كانت قريبة للغاية ...
قال صوت جهاز «الميميكس»: «لقد عدت. إنني أناقش الموقف مع مرشد تراينور.» «حقا؟» «نعم، إنه متعاطف مع مخاوفنا.»
بدت احتمالات مثيرة للدوار تتكشف أمام أعين جونزاليس، تعاظم فيها عدد الكائنات بما يستعصي على الحصر، وامتلكت فيها أبسط آلات آراء. قال: «هل أخبرت بشأن خطط الغد؟»
قال جهاز «الميميكس»: «نعم، حدث هذا. أنا مستعد لتقديم المساعدة.» وبدا صوته أقرب إلى السرور. «عظيم.» «لقد كنت نائما تقريبا حين تحدثت للمرة الأولى. سأتركك وحدك الآن.» «طابت ليلتك.» «طابت ليلتك.» •••
نظر الكائن الصغير إلى جونزاليس وقال: «أنت مرحب بك هنا.» كان مصنوعا بالكامل من معدن فضي باهت، وله رأس مستدير لطفل، ووجنتان بهما غمازتان، وفم مستدق، وكان يسير بين جونزاليس وليزي على قدمين فضيتين، ينظر إلى الأعلى كي يشاهدهما وهما يتحدثان.
قال جونزاليس : «أتعلمين، المنطق لا يسري على عالم الأحلام.»
قالت ليزي: «نعم، هذا صحيح.»
قال الكائن الصغير: «إنها مسألة صعبة.»
قال جونزاليس: «كلا، أنا واثق من هذا؛ فأنا كما أنا، لكنني ليزي كذلك، وهي كما هي، لكنها أنا كذلك ...» «لا أحب استخدامك للضمائر.» هكذا قال الكائن الصغير، وكانت أنفاسه تصدر على صورة لهاث، وكان يجد صعوبة في الملاحقة.
قال جونزاليس: «إنها سليمة.»
قالت ليزي: «هذا ليس بعذر.» لكنها كانت تتحدث عبره. وأخذ جونزاليس يسمع، بشخصه، ذاتا ليست هي ذاته وهي تتحدث، وبالتبعية، لا بد أن ليزي تستمع إلى شخصية هي ذاتها وليست ذاتها في الوقت نفسه وهي تتحدث.
قال الكائن الصغير: «الصحة ليست مبررا أمام القانون. أيا كانت الضمائر التي تستخدمها.»
قالت ليزي: «كانت الضمائر تجوب الأرض في ماضي الأيام.»
قال جونزاليس: «كلا، لم يحدث هذا.» الفكرة ذاتها.
قال الكائن الصغير: «الضمائر أم نقيض الضمائر. المهم في الأمر هو ألا تنسى أصدقاءك.» ثم ابتسم، وتقوست شفتاه المعدنيتان مظهرتين أسنانا فضية. صاح: «استيقظ.»
انتفض جونزاليس من نومه وصورة الطفل المعدني أمام عينيه، كان لا يزال قادرا على رؤية الضوء المنعكس على أسنانه وهو يبتسم.
سأله جهاز «الميميكس»: «أأنت مستيقظ؟ ليزي تريد التحدث إليك.» «صلني بها.» ثم فكر في نفسه قائلا: «ما هذا بحق الجحيم؟»
سألته: «أعلمت بالأمر؟» «ماذا؟» «أعتقد أن ألف تتواصل معنا، كي تخبرنا ألا ننسى أصدقاءنا.» •••
اجتمعوا معا في مقر سكن أعضاء الجمعية في السادسة صباحا. كانت الشمس لا تزال تسطع عبر نوافذ الفناء المفتوحة بحيث تظهر أصص الزهور والسراخس والعشب، وهي لا تزال رطبة بفعل الشبورة التي استمرت طوال الليل.
وقف جونزاليس قبالة إحدى الحوائط، منتظرا. كانت التوءمان ترتديان الملبس ذاته؛ سالوبيت رماديا داكنا، وجلستا معا في الجانب المقابل من الغرفة، تنظران إليه وتقهقهان. جلس عدد من أعضاء الجمعية في منتصف الغرفة، وقد بدا على أولئك الذين خرجوا للتو من عملية اتصال الإنهاك والشرود.
وقفت امرأة شابة أمام جونزاليس. كان شعرها الأسود قصيرا، وكان وجهها شاحبا وبه بقع، كما لو كانت تعاني مشكلة جلدية. كانت ترتدي قميصا ثقيلا أخضر اللون كان يصل حتى منتصف فخذيها، وبنطالا داكنا فضفاضا مضموما عند العقبين. بدا أن إحدى عينيها تنظر بعيدا إلى الفضاء بينما كانت الأخرى مثبتة على جونزاليس، ثم أخذت تنظر إليه لأعلى ولأسفل. قالت المرأة بصوت مرتفع: «إنه يضم ذراعيه هكذا.» ثم ضمت ذراعيها معا في محاكاة دقيقة لحركة جونزاليس وقالت: «تلك هي المكافأة.» نظرت حولها ورأس سامدوج وهو يتحرك في تثاقل جيئة وذهابا كالدب الحبيس، ويداه معقودتان على بطنه الضخم. «وهو يضم يديه هكذا.» ثم ضمت يديها معا كي تبين لجونزاليس كيف يفعلها سامدوج. ثم ابتسمت وأردفت: «وتلك هي مكافأته.» ذهبت إلى سامدوج، الذي توقف عن الحركة كي يتحدث إليها، وتعانق الاثنان كما لو كان كل منهما مندهشا لرؤية الآخر هناك، وممتنا لذلك. انتاب جونزاليس شعور مبهم غير مريح.
دخلت ليزي، تتبعها ديانا وتوشي، ثم قالت: «طاب صباحكم جميعا.» ثم وجهت حديثها لجونزاليس قائلة: «تشارلي وإريك ينتظراننا.»
كانت الغرفة تضم بيضتي اتصال عصبي من أجل جونزاليس وليزي، وأريكة من الفوم مهيأة من أجل ديانا. دخلت ليزي وديانا وتوشي وجونزاليس متبوعين بأحد الروبوتات والذي كان يجر حاجزا مكونا من ستار قماشي أزرق داكن موضوع على إطار معدني ينفتح عند أريكة ديانا.
قال تشارلي: جونزاليس، سنفعل نفس ما فعلناه المرة السابقة: ستكون أنت أول من يدخل. لم لا تخلع ملابسك؟ فقط ضع ملابسك على المقعد المجاور للبيضتين.»
قال جونزاليس: «بالتأكيد.»
قال تشارلي: «دكتورة هايوود، أنت التالية. إن إدخالك في حلقة الاتصال يستغرق وقتا أطول. سيجهزك الدكتور تشو. ليزي، يمكنك الانتظار قليلا؛ وسأدعك تعلمين حين نكون مستعدين.»
دوى صوت طرق حاد على الباب، وانفتح الباب ليدخل كل من تراينور وهورن.
قال تراينور: «طاب صباحكم جميعا.»
قال تشارلي: «طاب صباحك.» وأومأ جونزاليس برأسه، بينما تجاهل الباقون جميعا تقريبا ذلك الرجل.
قال تراينور: «أرى أنكم تتأهبون لرحلة أخرى مع ألف.»
قالت ليزي: «هذا صحيح.»
قال هورن: «ليس لديكم تصريح بذلك.»
قالت ليزي: «أحظى بدعم الجمعية، وكذلك بموافقة الفريق الطبي، وموافقة المشاركين. سنعمل على تبديل الموارد التي أخذتموها من ألف. ثمة إجماع على هذا.»
قال تراينور: «إجماع يتجاهل أي مشورة من مستوى أعلى.»
قالت ليزي: «ندرك هذا. لكننا لم نظن أن هذا ضروري. سنكون جميعا تابعين لهورن في وقت قريب.»
وقف جونزاليس ناظرا إلى البيضة المفتوحة وشرع في خلع قميصه. قال تراينور: «ميخائيل، ما الذي تفعله؟»
قال جونزاليس: «لقد أتيت إلى هنا لنفس السبب الذي أتى من أجله هؤلاء الأشخاص.»
قال تراينور: «أنت خارج هذا الأمر. ارتد قميصك مجددا وعد من حيث أتيت، يمكنك أن تستقل المكوك عصر هذا اليوم.»
قال جونزاليس: «لا أظن هذا.» ثم وضع قميصه المطوي على المقعد.
قال تراينور: «أنت مفصول.» وقد بدا صوته مرتعشا قليلا.
قالت ليزي: «من جانبك ربما. جونزاليس، مرحبا بك في جمعية الاتصال.»
قال هورن: «لن أصدق على هذا مطلقا.»
قال توشي: «لدي سؤال من أجلك، سيد تراينور، ومن أجلك سيد هورن. ما الذي تنويان عمله بشأن ألف والأزمة الحالية؟ ألديكما أي خطة عمل تجعل ما نخطط لعمله هنا غير ضروري؟»
قال تراينور: «نعم، نحن في سبيلنا إلى جلب فريق كامل من المحللين. وسنتبع توصياتهم المتعلقة بالمصاعب الحالية، وسننفذ كذلك ترتيبات تحول دون حدوث شيء كهذا مجددا.» ثم أومأ لهورن.
قال هورن: «وعن طريق تفعيل حالة اللامركزية. ستتم إعادة توجيه الوظائف والجوانب التشغيلية لمنظومة ألف بحيث تسمح بالأداء الفردي.»
قال تراينور: «سنستعيض عن ألف بعدد من الماكينات الأصغر القابلة للتحكم.»
قالت ليزي: «حقا؟» وضحكت.
قال تشارلي: «هذا مستحيل.»
قال توشي: «أو أنه حدث بالفعل؛ فلقد وزعت ألف بنفسها وظائفها على جهات مستقلة. ومع ذلك، يجب أن تخضع كلها في نهاية المطاف لإشراف ذكاء مركزي.»
قال تراينور: «وهذا دور البشر. لقد ثبت أن اعتماد هالو على ذكاء اصطناعي أمر غير مجد.»
قال توشي: «ربما يكون هذا صحيحا. ومع ذلك فإن ملحوظتك بشأن الظروف الحالية تفتقر إلى الأساس السليم.»
تساءل جونزاليس: «هل يوافق مرشدك على هذه الخطة؟»
سأله تراينور: «ولم تسأل ؟»
قال جونزاليس: «يتملكني الفضول.» لم يرد تراينور بشيء، فأردف جونزاليس: «حسنا، كنت أعلم أنه لن يوافق.»
قالت ليزي: «سنتعامل مع كل موقف في حينه. اجلبوا محلليكم، وسنحارب خطتكم السخيفة حين يتعين علينا ذلك. لكن في الوقت الحالي، ابتعدوا عنا وربما نتمكن من إصلاح ما أفسدتموه.»
قال تراينور: «لن يكون هذا ممكنا؛ فبما أن جهودكم السابقة هي التي سببت الموقف، فمن المرجح أن يؤدي أي تدخل آخر من جانبكم إلى تفاقمه، ومن ثم أرفض، بوصفي ممثلا لمجلس إدارة سينتراكس، منحكم الموافقة على إقامة أي اتصال مع ألف بخلاف ذلك الضروري من أجل الحفاظ على الوظائف الأساسية في هالو.»
قالت ديانا: «ثمة أحمق بيننا.» كانت ترتدي عباءة بيضاء، وخرجت من وراء الستار والكابلات العصبية تتدلى وراء ظهرها. ثم قالت وهي تشير إلى هورن: «هذا هو على الأرجح.» ثم وجهت حديثها لتراينور قائلة: «لقد عاش هورن وعمل هنا، ليس لديه مبرر لجهله بحقائق الحياة في هالو. أما أنت، في المقابل، فقد أتيت إلى موقف لا تتفهمه. دعني أخبرك بالشيء المهم الذي يتعين عليك أن تعرفه: لا يمكنك تقسيم ألف أو الاستعاضة عنها بما تظن أنها الأجزاء المكونة لها. بل لا يمكنك حتى تحديد موقع ألف.»
سألها هورن: «ماذا تقصدين؟»
قالت ديانا: «أين ألف؟ إنها وهالو متشابكتان تمام التشابك لدرجة أنه يستحيل الفصل بينهما. إن أنفاس هالو هي أنفاس ألف. وهالو تسمع وتشعر وتتحرك مع ألف.»
قال تراينور: «صورة شاعرية لكنها غير مقنعة.»
قالت ديانا: «بل هي تعدو كونها صورة شاعرية. فلا أحد يعلم أين توجد المكونات المركزية لألف.»
تساءل تراينور: «أهذا حقيقي؟»
قال هورن: «نعم.»
قال تراينور: «هذا لا يزيد الأمور إلا تعقيدا.»
قالت ليزي: «أنا لست مهتمة بهذه المناقشة. وأي شخص يرغب في خوضها يمكنه أن يفعل هذا لاحقا، لكن لدينا أشياء يجب فعلها. مراقبة المبنى، هذه ليزي جوردان، رجاء إبلاغ أمن هالو بأن لدينا دخيلين في المبنى ونود إخراجهما.» ثم التفتت إلى تراينور وقالت: «لو كنت تظن أننا لا نستطيع تنفيذ هذا، فاسأل هورن عن سلطة هالو المركزية، وعمن ستقف إلى جانبه؛ مسئولو الشركة الأغبياء الذين لا يستطيعون عمل شيء من أجل إدارة المدينة، أم نحن. الأفضل من هذا، اسأل مرشدك.»
وقف تراينور ينظر إليهم جميعا، وبدا أنه يفعل هذا حقا. وعلى مدار بضع ثوان انتظر الجميع. بعد ذلك ابتسم تراينور ابتسامة ألم، وكأنه رجل يحاول إخفاء إصابته بكسر في إحدى عظامه، ثم قال: «لا نستطيع منعكم من هذا الاتصال غير المصرح به بألف، لكن يمكننا أن نوثق رسميا أن سلطة سينتراكس الشرعية قد حظرت هذه المحاولة، وسنفعل هذا. وبهذا سينظر إليكم جميعا على أنكم متمردون، وبمجرد التوصل إلى الوسائل الملائمة، ستقالون جميعا من مناصبكم في سينتراكس. أيضا، أي تلف إضافي يلحق بمنظومة ألف أو بمدينة هالو، على نحو مباشر أو غير مباشر، يجب اعتباره مسئوليتكم الفردية، في ضوء أن سلطة سينتراكس الشرعية قد حظرت فعلكم المزعوم.»
قالت ليزي: «أنت تملي الأوامر على نحو جيد. اعتبر أن تحذيرك قد وضع في الحسبان، والآن اغرب عن هنا بحق الجحيم.»
الفصل الثاني
سكرة الحب
بينما كان جونزاليس منتظرا داخل البيضة، شم روائح عجيبة وشعر برجفات كهربائية في جسده، ورأى ومضة من الضوء الأزرق الساطع، ثم باندفاعة مفاجئة ...
أخذ يطير نحو السماء فاردا ذراعيه. بدا خط الأفق المستوي على بعد آلاف الأميال. وعلى مسافة بعيدة أسفله، كان الناس يهرولون بلا هدف في أرجاء سهل رملي، وكانت أصواتهم تتحدث بلغات غير معروفة. كانت ماكينات ضخمة تتحرك في تثاقل على غير هدى بين الحشود، وأذرعها المعدنية التي يبلغ طولها آلاف الأقدام تنفتح وتنغلق في نوبات عشوائية، وتشق طريقها الفسيح بين الأجساد الهشة متسببة في أذى على الأرجح.
كانت الرياح تندفع نحوه، وكانت تملأ رئتيه من فرط قوتها. أخذ يتسارع مصدرا صيحة حبور، ومر عبر غشاء كهربائي، ستار شفاف وامض يمتد عموديا من الأرض أسفله إلى اللانهائية بالأعلى وينتشر عبر الأفق كله. فيما وراءه، كانت أشكال عملاقة تلوح فوق مشهد طبيعي من الصخور والتلال. وإلى جوار عود هائل الحجم، كان رأس يظهر بشكل جانبي يميل لأسفل، ومن فمه انبعثت هبة من الدخان تكورت على نحو مستدير؛ ولم يعلم جونزاليس ما كانت تعنيه أو ماهية اللغة التي أتت منها. ارتفع جوادان أبيضان متماثلان في الهواء معا، وصهلا بينما كان يمر بهما. كان ثمة امرأة عارية مستلقية داخل صدفة؛ وكان كل من المرأة والصدفة ذواتي لون قرنفلي ووردي ولؤلؤي. أخذ عملاق أحادي العين يخطو نحوه، وقد بدا رأسه عجيني الشكل غير مكتمل، وفمه مجرد خط دقيق، وأنفه محض انبعاجة. أخذ يناديه مصدرا صيحات غير ملفوظة.
مر عبر ستار آخر، وتحول العالم إلى اللونين الأبيض والأسود. وفوق بحر عديم الملامح، طار رأس نحوه، وكان له شعر أسود مجعد وأنف حاد مستدق، وكان يميل إلى الأمام كي ينظر إلى البحر أدناه، كما لو كان يبحث عن شيء هناك. ثم مر بجرس كان يغطي نحو ربع السماء؛ شكل هيكلي يتدلى من الحبل أسفله قناع خاو لوجه، وحين تمايل الشكل، أصدر الجرس دقات اخترق صوتها عظامه.
وصل إلى الستار الأخير. كانت السماء قد تحولت إلى اللون الأزرق الساطع المميز للأحلام. وعلى مرمى البصر كانت تلوح «نقطة الأصل»، وجوانبها عامرة بعدد لا نهائي من الثقوب. مرق جونزاليس عبر الستار وشعر بطنين كهربائي يخترق عظامه، ثم ولج ثقبا في الجانب الشاسع للمكعب المظلم. •••
أخذ الرجل العجوز، الجالس خلف طاولة منخفضة من الخيزران، يضع الشعرية المسلوقة في طبق خشبي، وبعد أن أومأ جونزاليس موافقا على كل اختيار، أضاف الرجل بعض الكزبرة والثوم المحمر وقطع البازلاء المجففة والبيض المقطع ونقانق السمك وبذور السمسم. بعد ذلك وضع بعض حساء السمك فوق هذا كله واختتم تزيين الطبق برش مسحوق الفلفل وبعض عصير الليمون، ثم ناول الطبق إلى جونزاليس مبتسما. ناوله جونزاليس حفنة من عملات الكيات النقدية التي تبدو زهيدة. كان اسم طبق الإفطار هذا «موهينجا»، وكان جونزاليس يحبه، وقد تناوله صباح كل يوم منذ أن اكتشفه قبل أسابيع مضت.
وجد جونزاليس مقعدا حجريا أمام معبد باجودها قريبا وجلس يأكل باستخدام زوج من العصي غير المتقنة وهو يشاهد المارة. كان الطقس قد غدا حارا ورطبا بالفعل، وعلم أن من شأن أي مجهود بدني أن يجعله يتصبب عرقا. مر إلى جواره طابور من الصبية، يقودهم أحد الرهبان، وكانت رءوسهم حليقة حديثا، وأرديتهم الزعفرانية اللون زاهية ومنشاة، وأوعية الاستجداء الخاصة بهم لامعة. كانوا في الثانية عشرة من العمر وقد أكملوا لتوهم طقس «شين بيو»، الذي بواسطته يدخلون في سلك الرهبنة، وهو طقس لا يزال أغلب الصبية البورميين يمرون به، حتى في منتصف القرن الحادي والعشرين.
بعد تناول الإفطار لم تكن لديه رغبة في العودة إلى الكوخ الذي يعمل به؛ لذا شرع في السير في أرجاء الريف المحيط بمعبد الباجودا.
بعد نصف ساعة، وبينما كان يسير في درب مخصص للعربات التي تجرها الدواب في السهل القاحل، وصل إلى منصة مبنية على ارتفاع كبير من الأرض. وعليها كانت توجد أكاليل من الزهور الفاقعة وأطباق من الأرز، قرابين مقدمة من أجل استرضاء «النات»، وهي الأرواح التي كانت تحرك هذه البلاد حتى قبل حلول البوذية. كانت أرواحا نزقة، ومن الممكن أن تتصرف على نحو بغيض، وفي الماضي كانت تطالب بقرابين بشرية.
كانت أرواح «النات» قوية الحضور حول الباجودا. وفي جبل بوبا، على مسافة ثلاثين ميلا وحسب، كان يحكم مين ماهاجيري، الأخ والأخت، «سيدا الجبل المرتفع». لقد سمع جونزاليس قصتهما لكنه لم يتذكر سوى أن هاتين الروحين، في صورتيهما البشريين، تورطا في مؤامرة من الحسد والقتل، وأن ثمة ملكا قريبا كان هو الشرير الضالع في هذا.
اقترب شخص سائر على الدرب نحو جونزاليس، وكان يرتدي الملبس البورمي «الغربي» التقليدي؛ البنطال الأسود الواسع والقميص القطني الأبيض، وكان رأسه ووجهه عبارة عن كرة ساطعة من الضوء. فكر جونزاليس: عجيب، أتساءل كيف حدث ذلك؛ فهذا الشخص فقد وجهه وجنسه. «مرحبا.» هكذا قال الشاب، ووجدا مقعدا حجريا منخفضا أمام معبد باجودا على مقربة منه وجلسا عليه.
سأله الشاب: «لم أنت هنا؟»
كان جونزاليس سعيدا بهذا السؤال. أخبره بمعلومات حول عملية تدقيق الحسابات التي كانت توشك على الانتهاء، وعن جروسباك غير المتعاون ... وعما سيحدث بعد ذلك: أنه في غضون أيام معدودة سيغادر جونزاليس بورما ويوشك أن يقتل في هجوم جوي يشنه متمردون بورميون. «حسنا إذن، لنمض في طريقنا. إن طائرتك تنتظرك الآن - يبدو أن الوقت يمر بسرعة كبيرة اليوم - وينبغي أن تذهب. أتمانع في أن أنضم إليك؟»
قال جونزاليس: «كلا، على الإطلاق، إذا لم تكن تمانع أن توشك على التعرض للقتل.» «آه، لقد حدث لي هذا مؤخرا. لا أمانع. كما أنني بحاجة إلى تجربة هذه الأشياء. ومثلك تماما، أريد أن يكتب لي البقاء.» •••
جلس جونزاليس داخل الطائرة في عتمة شبه تامة، وإلى جواره الشاب ذو الوجه الساطع، وكلاهما ينتظر ...
قال الطيار: «يبدو أنهم مجموعة من مقاتلي الكاشين.»
كانت الأشكال الصغيرة المرسومة على الشاشة تتحرك صوبهم.
قال الشاب: «صورة إلكترونية صغيرة للغاية، مناسبة للغاية لهجوم جوي ضد تكنولوجيا أكثر تقدما، يركبها المحاربون الشباب، وتحمل الصواريخ على أجسادها، على مقاليع وكأنها أطفال رضع.»
صاح الطيار: «اللعنة، لقد أطلقوا صواريخهم!»
بدأت الطائرة تدور حول ذاتها وتعلو وتنخفض في الهواء، وفي لحظة الذعر هذه، شعر جونزاليس بيد الشاب وهي توضع على ذراعه.
قال الشاب: «إنهم يطلقون صواريخهم بسرعة كبيرة. باستثناء تلك الطائرة.» وأشار الشاب إلى واحدة من الطائرات الصغيرة الظاهرة على الشاشة وأضاف: «إنها تقترب بشدة، وأعتقد أن قائدها سينتظر حتى نصير في مرمى نيرانه تماما.»
سأله جونزاليس: «ألن يقتله هذا بالمثل؟»
قال الشاب: «آه نعم، دعنا نلق نظرة، بل الأفضل من ذلك، دعنا نكن هناك بأنفسنا.»
كانت قائدة الطائرة امرأة شابة ترتدي خوذة طيران ليلي كانت تمكنها من رؤية الأشعة تحت الحمراء وتحمل أسفلها، كما قال الشاب، صاروخا حراريا موضوعا في مقلاع. نظر جونزاليس والشاب عبر عيني قائدة الطائرة إلى مشهد المعركة وتبادر إلى عقليهما ما كانت تفكر فيه وشعرا بدفقة الأدرينالين التي تشعر بها.
في نظارتها، كانت صورة الطائرة واضحة؛ جسم أبيض تحفه خطوط حمراء، وتركت لمنظومة التتبع الخاصة بها مهمة اللحاق بالطائرة، بحيث قللت المسافة الفاصلة بينهما وهي تناور وتتفادى الصواريخ التي يطلقها زملاؤها.
شعرت بالإثارة تملكها، لكنها كانت هادئة كذلك؛ لقد خاضت معارك أخرى من قبل، وكانت الأمور تسير وفق ملخص المعلومات الذي تلقوه. ورغم أن هذه الطائرة يمكنها أن تسبقهم في الطيران بسهولة، وأن تتسارع إلى الأعلى أو بعيدا، في سماء الليل، فقد كان عليها أولا أن تهرب من صواريخهم، وكانت بضع ثوان من التحليق المستقيم هي كل ما يحتاجونه. كانت ستنتظر حتى تقترب أكثر، وتنتظر إلى أن تصير الطائرة على مقربة شديدة بحيث لا يمكن أن تخطئها، أو تنتظر إلى أن يفشل الآخرون.
بعد ذلك بدأ كل من حولها يموتون، في انفجارات سببت ظهور زهور بيضاء في نظارات الرؤية الليلية المحملة بأكثر من طاقتها ...
كانت طائرة أعدائها موجودة أمامها، ربما كانت قريبة بما يكفي وربما لا، لكنها علمت أنه لا يوجد وقت كاف، وأن ثمة لاعبا جديدا في اللعبة، وأنه كان يقتلهم جميعا. وهكذا استعدت، ومدت أصابعها إلى زر الإطلاق، وحينها شاهدت جسما يقترب نحوها، كان قريبا بالفعل أكثر مما ينبغي ويزداد حجما بسرعة مستحيلة، وسببت حرارته ظهور زهرة بيضاء أخرى في نظارتها، ثم انفجر فيها وشعرت بأقل لحظة يمكن تخيلها من الألم الذي لا يطاق ...
داخل الطائرة، مات جونزاليس والشاب معها، ثم بدأ جونزاليس في النحيب، وجسده منحن، بينما تصارع موت هذه المرأة وحياته هو في داخله ... الأسى والرعب والامتنان والفرحة والانتصار والفقدان، كلها مختلطة وتموج في نفسه. أيضا كان بمقدوره أن يسمع الشاب المجاور له وهو يبكي. سطع ضوء طائرة القوات الجوية البورمية من طراز «لوب جارو» داخل طائرتهم، وغمرهما هما الاثنان وكذلك الطيار المصدوم، الذي نظر إليهما في ذهول.
توقف الزمن حولهم. فتجمد وجه الطيار المتوتر، وكل الأجهزة الموجودة في لوحة الطيار توقفت كما هي، وخارج النافذة توقف النهر المظلم أسفلهم عن الجريان. جلس جونزاليس والشاب في خلية حياة وسط الجمود.
قال الشاب: «لا تقلق. هذا يمنحنا مكانا للحديث من دون ازعاج. ما رأيك فيما حدث للتو ؟» «أتعني الهجوم؟» أومأ الشاب، وأطلق الضوء المنبعث من وجهه موجات وامضة باللونين الأحمر والأزرق. قال جونزاليس: «لقد رتب جروسباك الأمر. إنه يريد قتلي.» «لا أظن هذا، ومع ذلك، لو افترضنا أن ما تقوله حقيقي، فهل هذا يهم؟» «نعم، بالطبع.» «لماذا؟» «لأن ...» ثم توقف جونزاليس، محاولا التفكير في كل الأوجه التي تجعل هذا الأمر مهما: إنه مهم بالنسبة إلى سينتراكس، وتراينور ...
قال الشاب: «لكنه ليس مهما بالنسبة إليك. لقد ماتت المرأة الشابة، ومات رفاقها المقاتلون معها: هذا أمر مهم. لقد عشت أنت والطيار: هذا أيضا أمر مهم. السياسة البورمية، مؤامرات المؤسسات المتعددة الجنسيات، إنها أوهام، حيل، لا شيء مهم. الحياة والموت وآثارهما في القلب البشري، هذه تحمل أهمية لك. إن موت هذه المرأة يعيش داخلك، وحياتك تظهر معناه؛ فلتنس أمر جروسباك وتراينور وسينتراكس، انس أمر الخوف والطموح والجشع.» نظر الشاب في وجهه عن كثب وقال: «أنا أنسج الكلمات حول قلبك كي ترشده، لا أكثر.» •••
أخذت ليزي تزحف في الظلام عبر أحد الأنفاق الصخرية. كان الماء البارد يجري عبر الشقوق الموجودة في الأرضية ويغرق بلوزتها وبنطالها. حاولت الوقوف لكن حين رفعت رأسها بضع بوصات قلائل ارتطم بقمة الممر الصغير الذي كانت تزحف عبره. لم تشعر بالذعر أو الارتباك على الإطلاق؛ فالنفق الخفيض سيؤدي إلى مكان ما، وسيخرجون منه. وبدا لها أن هذا اختبار من نوع ما.
ظهر الضوء، في البدء كان نقطة دقيقة تأتي من مسافة غير محددة، ثم صار وهجا أخذت تسير نحوه مسرعة، واجتازت منعطفا في الممر أفضى بها إلى فتحة في الصخور.
رأت عبر فتحة النفق مشهدا مستحيلا: منطادا قمته عبارة عن كرة مفلطحة خضراء اللون، كان يتمايل كما لو أن ثمة رياحا قوية، بينما قمته تميل نحوها بحيث استطاعت أن ترى عينا كبيرة في منتصفها، مفتوحة وتحملق في السماء اللامتناهية. كانت قزحية العين ذات لون ذهبي داكن يحيط بها نقاط ذهبية فاتحة. وحول العين كانت الرموش تختلج بفعل الرياح.
كانت منصة تحمل كرة معدنية، أشبه بكرة الأعماق، تتدلى من عش كثيف من الأغطية أسفل المنطاد. كان ثمة شخصان رابضان هناك، يمسكان بالأغطية وبأحدهما الآخر، وكانا ينظران إلى السماء. وبفعل حيلة بصرية ما، انكمشت المسافة بينها وبين المنطاد إلى أن رأت ديانا وجيري، شابين خائفين. زحفت إلى الأمام، واختفى المنطاد وديانا وجيري.
عند أحد منعطفات النفق، كانت ثمة طبعات أياد حمراء اللون تسطع في الظلام. وعند منعطف آخر، سمعت خوار ألف حيوان، ورأتها وهي تجري صوب منحدر وتقفز من فوقه، قطيع كامل من الثيران تجري وتصيح نحو موتها الجماعي. وبالأسفل، كما كانت تعلم، كان رجال ونساء ينتظرون كي يقطعوا الحيوانات الميتة ويحملون لحومها بعيدا.
كانت الصخرة تنحدر انحدارا حادا أسفلها، وبدأت تنزلق إلى الأمام، ثم تدحرجت بشكل جانبي وخرجت متعثرة من النفق وسقطت في بركة من الماء المثلج.
قالت: «اللعنة.» وقد صارت مبتلة تماما الآن، وزحفت خارجة من البركة الضحلة إلى الصخور الجافة المحيطة بها. وفي ضوء شديد الخفوت شاهدت قاعدتين يعلو كلا منهما تمثال لثور، والتمثالان منحوتان نحتا قليل البروز في الطمي الطري.
رفعت بصرها ورأت شخصا يخرج من ظلام الكهف، من الطرف الآخر له. كان طوله يبلغ ثماني أقدام على الأقل، وله رأس ذو قرون ووجه من الضوء، وبدت المياه وكأنها تتراقص حوله. وقفوا متواجهين، وشعرت بنفسها تضعف أمام ذلك الحضور السحري العملاق.
قال: «أنا أنتظر.» «ماذا؟» «أن تختاري.» «أختار ماذا؟ أي اختبار هذا؟» «ليس اختبارا، فقط شعبة من الواقع، تجتازين فيها طريقا أو آخر.» «إلى أين تفضي الطرق؟» «لا أحد يعلم. كل طريق هو نفسه محصلة اختيارات تتخذينها وأنت عليه. ويؤدي كل اختيار إلى آخر، ويؤدي كل اختيار إلى استبعاد آخر، ونمط واحد من الاختيارات يستبعد عددا لا نهائيا من الأنماط.» «لا تروق لي مثل هذه الاختيارات. لا أريد أن أستبعد اللانهائية.» «أمر مؤسف.» ثم رفع الشخص سكينا حجريا، وأخذ الضوء الخافت ينعكس على أوجه السكين المتكسرة العديدة. «أنت تختارين، وأنا أقطع. تختارين اليد اليمنى، فأقطع اليسرى، تختارين اليد اليسرى، فأقطع اليمنى.» «كلا!» «آه نعم، ثم تنمو يدك مجددا؛ فتصير كلتاهما يمينا أو كلتاهما يسارا، هذا نتاج اختيارك. وكل اختيار يؤدي إلى الآخر، وهكذا تختارين مجددا.»
وجدت ليزي نفسها تبكي.
قال: «اختاري: مدي يدا.»
نظرت إلى يديها، كلتاهما غاليتان، وفكرت في كل الثراء الذي قد تفقده بفقدان إحداهما. بعد ذلك سألته، وهي لا تزال تبكي وشاعرة بالحيرة: «أيهما اليمنى وأيهما اليسرى؟»
ضحك، وتردد صدى صوته عبر أميال من الكهوف والأنفاق الصخرية، وحمل أكثر من ثلاثين ألف عام من التاريخ البشري، وأخذ يدور في رقصة من نوع ما، والمياه ترتفع كالنافورة حوله، ويدندن بمقاطع مبهمة، ثم قفز أمامها وأمسك معصميها في يديه الضخمتين وقال: «ستعلمين أثناء الاختيار، أيهما اليمنى وأيهما اليسرى.» «لن أختار.» «حينها سأقطع كلتا يديك.» «كلا!» هكذا صاحت على الفور ومدت إحدى يديها، وبعد أن اختارت، رأت السكين الحجري وهو يسقط. •••
وقفت ديانا في غرفة المعيشة في شقتها بمحطة أثينا. كانت توجد منها نسختان؛ إذ كانت هناك ديانا الشابة العمياء، وديانا الأكبر سنا المبصرة.
نظرت ديانا المبصرة حولها؛ فلم يسبق لها رؤية المكان إلا عبر صور هولوجرامية، وشعرت بلمسة من شعور غريب لم تكن تعرف له اسما: العودة إلى شيء شبه مألوف. ظلت الشابة العمياء دون حراك؛ إذ كانت تحمل في رأسها صورة للشقة على شكل خريطة معقدة من العلاقات والحركات، ولم تكن الأنماط البصرية التي رأتها نسختها المبصرة ذات أهمية لها.
وضعت يديها على المنحوتة الموضوعة في منتصف الغرفة، وهي صنيعة نحات أعمى يدعى ديرنييه، ثم أغمضت عينيها وشعرت بملمسها الخشن المألوف ومكنتها المنحنيات الغريبة من تتبع صورة غير الصورة المرئية.
من خلفها قال صوت جيري: «ديانا.» استدارت إليه، فكان واقفا كما كان منذ أكثر من عشرين عاما؛ كان أصغر مما تخيلته من قبل، وجميلا، ومليئا بالرغبة نفسها التي تملؤها.
سارت ديانا، العمياء والمبصرة، الشابة والكهلة، عبر الغرفة نحوه، لكنه رفع يدا وقال: «توقفي. إذا أتيت إلي الآن حينها ستضعين على عاتقك التزاما لن تستطيعي التحرر منه مطلقا.» «لا يمكنني أن أدعك تموت.» «لقد عشت أطول كثيرا من أي تصور معقول. أنا ميت.» «لا يمكنني أن أتركك ميتا.» «هل يمكنك البقاء معي في العوالم غير الحقيقية إلى الأبد؟ إلى أن تتوقف المدينة عن الدوران أو أن تموت الروح التي تحركها؟ إلى أن يختفي أحدنا، ويعلق في عاصفة مرعبة أو كارثة؟ إلى أن تفنى إحدى روحينا أو كلتاهما مع انقضاء الزمن؟ (سمعت داخلها صوتا حفزها، ثم أرشدها، يسألها بصوت غير مسموع: «هل تفكرين منطقيا في عملية اختيار كهذه؛ بحيث تجمعين وتطرحين المزايا والعيوب، وتستقرين على ما هو في مصلحتك؟ أم هل تستخدمين عضو اختيار ما أسفل نطاق الوعي والذات الجلية؟» ويقول كذلك: «تذكري أن العقل منتجا مصنوعا من ردود الفعل العفوية للحياة، وفوقه يندفع الوعي جيئة وذهابا، ويفرط في تقدير قدراته ونطاقه على الدوام، وينظر لنفسه باعتباره حكما أو قاضيا لا يأتيه الباطل من بين يديه. اختاري كما شئت: فما سيكون سيكون.»)
ثم قالت: «نعم، يمكنني البقاء معك.»
كان هناك سؤال واحد آخر؛ إذ سألها جيري: «لماذا ستفعلين هذا؟»
لقد أفضت بها كل لحظات حياتها إلى هذه اللحظة. قالت المرأة الكهلة المبصرة، بصوت رقيق، وبنبرات حاسمة: «آه، من أجل الحب.» «حسنا إذن ...» •••
وقف جونزاليس إلى جوارها على الأرض المنبسطة الممتدة بلا نهاية، وإلى جواره هاي ميكس، ثم ليزي. كانت الصورة المجسدة لألف وجيري يطفوان فوقهم، وصدر صوت من الشكل المعلق يقول: «ديانا، استيقظي للحظات. أخبري الجميع بأن يأتي إلى هنا كل من يستطيع المجيء، وسنفعل أشياء معينة.»
قبل أن تطلب ديانا توضيحا أو تفسيرا لما يقصده الصوت، سمعت نفسها تقول هذه الكلمات، ثم رأت وجه توشي أمامها وسمعته يسأل: «أي أشياء؟» جلست وهي على أريكتها وقالت: «أنقذوا حياة، ابنوا عالما، استردوا ذاتا استثنائية.»
قال توشي: «حقا.»
عاودت الاستلقاء وغاصت مجددا في العوالم غير الحقيقية.
تجمعوا على الأرض المنبسطة الممتدة بلا نهاية، وقد أتوا مسرعين، واحدا تلو الآخر: أولا جاءت إحدى التوءمين، ثم الأخرى، ثم ستامدوج، والخانعة (وشعرها الأبيض تتخلله خصلات حمراء، وتصيح: «حفل دموي»)، وجاني 23، والقاضي (كان ضخما عديم الشعر، يلوح فوقهم كلهم)، والطبيب الضاحك، وجيه جيري جونز، وبيتسي المحبوبة، وسائق سيارة الإسعاف، وتي توتسي ... كل أعضاء الجمعية الذين استطاعوا المجيء.
ظل الشكل المجيد لألف وجيري طافيا بالأعلى، بينما العواصف الضوئية تنثني وتتكسر حولهما في أنماط مجنونة من الانعكاس والانكسار والحيود، تومض وتلتمع، وتنخرط في رقصة ساطعة للفوتونات.
كل من استطاع المجيء كان هناك، وهكذا بدأ الأمر. •••
أخذت أنماط أكثر تعقيدا وثراء بالألوان مما سبق أن رآه جونزاليس تملأ الوجود كله. أنماط على شكل زهيرات وأفراس بحر وسحب فائرة وسدم على شفير التشكل، وزخارف على شكل قلوب ... التفت الأنماط حوله إلى أن صار نسيجا متكسرا، حيا، كل عنصر فيه في حركة دائمة. ضم يديه معا، فاختفت إحداهما في الأخرى، ثم حثه شيء على أن يواصل الدفع، وفعل هذا إلى أن اختفى بالكامل ...
ثم شعر بأشياء من ماضي جيري وحاضره تختلط بداخله، على نحو عشوائي فيما يبدو، من مخزون الذكريات والقدرات: رمي كرة بيسبول معينة تحت سماء زرقاء معينة، نعم، والتقاطها، وكذلك عملية رمي الكرة وإمساكها نفسها، الحضور الملموس للمجهود العضلي الذي تصاحبه التفاصيل الدقيقة المبهمة تقريبا والمطلوبة لأداء رمية دقيقة أو التقاط كرة صعبة ...
وكما صار معروفا لاحقا، فقد تلقى كل شخص من الحاضرين أجزاء من الفوضى الشاسعة الرشيقة التي جسدت «جيري»؛ وضعتها داخلهم ألف وفق مبادئ حتى هي لم تستطع التلفظ بها. فما كان يعنيه أن تكون «جيري» كان مختلطا بهم، وكانوا مختلطين به، وبالوسط الشاسع الذي يدعمهم كلهم، ألف، في اختلاط ملتبس للذوات المجتمعة. كانت الأنثى مختلطة بالذكر، والذكر مختلطا بالأنثى، وكان كلاهما مختلطا بالكيان العديم الجنس لألف وهاي ميكس. كانوا جميعا مختلفين إذن، وثمة شيء عميق في جوهرهم جعل كلا منهم مخمورا في حالة الفوضى وعربدة الأرواح هذه.
ومع كل عملية توزيع لذات جيري بين المعاونين البشر، كانت ألف تستعيد جزءا من ذاتها. وفي عملية من الزخم ذي التسارع المطرد، بدأت أجزاء المدينة وحالاتها تتدفق عبرها، مستعيدة الذات إلى حالها الطبيعي، إلى أن أقرت ألف بذاتها (أنا ما أنا عليه)، وعاودت الإشراف على هالو، وفي تجسيد منتصر لصوت ألف بدأت تتحدث بما تستطيع هي وحدها سماعه، وكلمات العبارة التي تحددها تتردد في كل بعد من كيانها. •••
بينما كان توشي لا يزال جالسا يراقب ديانا، ولا يزال يتأمل اللغز الخاص به، شعر بشيء يرتفع وكأنه كهرباء تسري عبر عموده الفقري، وكل تناقضات الأمر الواقع اختفت في لحظة كشف وتنوير روحاني مفاجئة. صاح توشي: «حقا!» وهو يضحك بينما يكتنفه شعور التنوير.
الفصل الثالث
خارج البيضة
انشقت بيضة جونزاليس، ورأى بطرف عينه بيضة ليزي وهي تنشق بالمثل في الوقت ذاته. قال تشارلي الذي كان يقف بين البيضتين: «تهانينا!» ثم استدار نحو إريك، الذي كان ينتظر عند مجموعة من الشاشات في الجانب الآخر من الغرفة، وقال: «فلنقم بالأمر.» وبعدها بدأ هو وإريك واثنان من الروبوتات بفصل ليزي.
ظهر توشي بعد فترة وجيزة؛ إذ خرج من وراء الستار الذي ترقد خلفه ديانا، ثم عاد مجددا.
الغريب في الأمر أن جونزاليس شعر أنه في حال أفضل مقارنة بأي مرة أخرى خرج فيها من البيضة؛ إذ كان ذهنه أصفى ومشاعره أقوى. لم يستطع رؤية ليزي، ولم يسمع إلا همسات بينما كان يجري نقلها على نقالة إلى خارج الغرفة. «هل ليزي بخير؟» هكذا تساءل جونزاليس بمجرد أن أخرجت الأنابيب من حلقه وأنفه. «وماذا عن ديانا؟» «كلتاهما بخير.» هكذا رد إريك، وكان صوته الحاد دافئا ومألوفا. «لكن علينا أن نأخذ مزيدا من الوقت مع الدكتورة هايوود. ستنتقل أنت وليزي معنا إلى الغرفة المجاورة، ويمكنك النوم هنا الليلة وأن تذهب إلى المنزل في الصباح.» «وماذا عن جهاز «الميميكس»؟» «إنه لا يزال يعمل مع ألف، لكنه ترك رسالة لك بأن كل شيء على ما يرام.» •••
كان توشي جالسا في وضعية اللوتس على حصيرة صغيرة مجاورة للأريكة، حين سمع تغيرا في تنفس ديانا، وعندما نظر إلى الأعلى رأى عينيها مفتوحتين. قال: «سأجلب تشارلي. إنه مع ليزي وجونزاليس.» «لا تبال. أنا بخير.» «عليهم أن يفصلوك .» «كلا، ليس الآن ... بل لن يحدث هذا مطلقا في واقع الأمر.» «ماذا تقصدين؟» «لقد أنقذنا جيري، لكن هناك ... شروط» كان رأسها مائلا على القماش الأبيض الخشن للوسادة، وابتسمت لتوشي وقالت: «حين أنام هناك، أستيقظ هنا، كما يحدث الآن، ولفترات وجيزة للغاية أغادر ذلك العالم. لكن كل ما أستطيع فعله هو أن أزور هذا العالم، فيجب أن أعيش هناك وإلا سيموت جيري.» «لقد أحييتم الميت إذن، لكن بأي ثمن، أي تضحية؟» «ثمن أنا مستعدة لدفعه عن طيب خاطر. لم يكن ثمة خيار.» «كلا؟» «أنا أفعل ما أريد وحسب.»
قال توشي: «إذن على السهم أن يجد الهدف.» •••
استيقظ جونزاليس في الصباح التالي، واغتسل وارتدى ملابسه، وبينما كان يحتسي القهوة قالت الغرفة: «السيد تراينور هنا من أجل مقابلتك.»
قال: «اسمحي له بالدخول.» وفكر في نفسه قائلا: «حان وقت تسوية الحساب.»
حين دخل تراينور، بدا عليه شعور من تعرض للتوبيخ والعقاب، وهي حالة لا يستطيع جونزاليس أن يتصور أن هذا الرجل قد يكون فيها. قال جونزاليس: «صباح الخير.»
نظر تراينور حوله، كما لو كان غير واثق من نفسه، وقال: «سأغادر هذا المساء. ربما تأتي معي إن أردت.»
أخذ جونزاليس يبحث عن سوار الهوية الخاص به، ووجده على المزينة المجاورة للطاولة، ثم قال: «لا أفهم. ألست مفصولا؟» «لقد قلت ذلك في انفعال لحظي كما تعلم ... فهذا المكان، وهؤلاء الأشخاص؛ أخشى أنني لم أتمكن من إدارة الأمور جيدا.» «أرى هذا.» قالها جونزاليس وأغلق إبزيم السوار وأضاف: «أهذا خياري الوحيد؟» «كلا، لقد أعيدت شوالتر إلى منصبها كمديرة لفرع سينتراكس في هالو، وحصلت على موافقة مجلس الإدارة بشأن إمكانية توليك المنصب المعروض عليك من جمعية الاتصال. الخيار لك.» «حقا؟ وماذا عن هورن؟» «ضحك تراينور وقال: «سيعود إلى الأرض، وسيتعين علي أن أستفيد منه في شيء ما.» «حقا. يبدو الأمر واضحا بما يكفي. متى سيتعين علي أن أخبرك بقراري؟» «قريبا، قبل أن أغادر.» «سأعلمك به.»
غادر تراينور، وألقى جونزاليس نظرة أخيرة على المكان وذهب لمعرفة ما يحدث. وقد وجد تشارلي ينظر إلى شاشة مراقبة تظهر عليها قوائم بيانات كثيفة. كانت البيضتان قد أزيلتا، لكن الستار المحيط بأريكة ديانا ظل كما هو. سأله جونزاليس: «ما الجديد يا تشارلي؟» «انظر ...» قالها تشارلي وهو يشير إلى المعروضات الهولوجرامية التي تجسد أشكال موجات مطبوعة بعضها فوق بعض، باللونين الأحمر والأخضر وقال: «المنحنيات الخضراء تبين الحدود المحسوبة للاتصال الخاص بديانا، أما الحمراء فهي الحالات الفعلية.»
بدت المنحنيات الحمراء في نظر جونزاليس ضخمة، ربما في ضعف حجم نظيرتها الخضراء. قال: «ما الذي يعنيه هذا؟» «أننا لا نعرف القواعد، أن أمامنا الكثير كي نتعلمه.» قالها تشارلي ورفع عينيه ناظرا إلى جونزاليس، وقد بدا على وجهه المتغضن حماس الشغف بهذه المرحلة الجديدة من الاكتشاف.
سأله جونزاليس: «أين ليزي؟» «لقد عادت إلى منزلها. وقالت إنها ترغب منك أن تزورها.» •••
وقف جونزاليس أمام باب شقة ليزي إلى أن قال: «ادخل.» كانت ليزي جالسة في غرفة المعيشة، وكانت الستائر مفتوحة تسمح بدخول ضوء الشمس. وقفت وقالت: «مرحبا.» وابتسمت. لم يستطع قراءة تلك الابتسامة، تماما، رغم أنها بدت أقل تحفظا من ذي قبل. «تفضل بالجلوس، أتريد تناول الإفطار؟» «كلا، أنا بخير.» «كان القط البرتقالي هنا هذا الصباح، يبحث عنك. وقد غادرت شوالتر للتو، لقد عادت إلى منصبها، كما تعلم؟» «سمعت بهذا.» «لقد وافقت على دعوتي التي وجهتها لك كي تصير عضوا بالجمعية، هذا إن رغبت ووافقوا هم. أعتقد أنهم سيوافقون ... إذا قبلت العرض.» كانت ابتسامتها ماكرة قليلا. «ما الذي يتعين علي أن أفعله من وجهة نظرك؟» «الخيار ... خيارك.» كانت تشدد على كلماتها، كما لو أنها كانت تحمل معنى خاصا. «يمكننا الحديث عن الأمر.» «بالتأكيد.»
مرت بقية الصباح وهما يتحدثان، لكن لم يكن حديثهما يدور بالأساس حول الجمعية أو الوظيفة المعروضة على جونزاليس. كانا يدردشان معا، وكانت الموضوعات المزعومة للحوار محض ذرائع للحديث بنبرة صوت معينة أو تبادل النظرات أو تحريك الأطراف: ذريعة لتبادل الاهتمام الضروري وحسب.
تواصلت الحميمية وفق قواعدها الخاصة، تدعمها شبكة من أوجه التواصل الرهيفة: اتساع العينين، وضعية الجسد المنفتحة لحضور الآخر، عدد من الإيماءات والكلمات التي كان فحواها واضحا: «اقترب أكثر.» رغم أن الوعي قد يكون منشغلا أو أعمى، فإن العينين تريان، والمخ والجسد يعرفان، فأوجه التواصل هذه أهم من أن تترك للإدراك أو الفكر الواعيين وحدهما.
تناولا طعام الغداء، وهو ما ساعد في تقريبهما أكثر وأكثر؛ إذ جلسا متقابلين على الطاولة، وتدفقت إيماءاتهما وأصواتهما حول سياق الأكل، الذي اختفى تماما في خضم اللحظة.
جلسا متجاورين على الأريكة، ثم في لحظة ما من الحوار وضعت يدها في يده، أم تراه هو الذي أمسك يدها بيده - لم يكن بمقدور أي منهما معرفة من بادر أولا - ثم مالا أحدهما نحو الآخر، بحركة بطيئة وثابتة وواثقة، ثم تلامست وجنتاهما، ثم تبادلا القبل.
بعد ذلك تراجعا كي يقيس كل منهما في عيني الآخر مدى حقيقة وقوة هذا التصريح، ثم وقفت وقالت: «لندخل الحجرة الأخرى.» •••
جلسا عاريين على الفراش ونظر كل منهما إلى الآخر في ظلام شبه تام؛ إذ كان بصيص الشعلة الزيتية المحترقة في قارورة من البلور هو الضوء الوحيد. فكر جونزاليس كم أنهما كانا يتوخيان الحرص، كما لو كان مستقبلهما معا يعتمد على هذه اللحظة. وهو الحال فعلا على الأرجح.
للحظة كانت هناك أشباح داخل الغرفة، أطياف الطفولة والأحلام البعيدة التي يشيع وجودها عند كل ممارسة للحب؛ إذ صارت قوية للحظة من الزمن.
رقدا معا، وعلى نحو متناغم بالكامل تقريبا قال كل منهما للآخر: «أحبك.» وكان صوت أحدهما يعكس صوت الآخر. كان شعورهما بكل إحساس متعاظما. تحركت يداه على جسدها جيئة وذهابا في حركة أشبه بالرقصة، وأخذت تضغط جسمها قبالة جسمه، وتلامست عظام أكتافهما.
رقدت على ظهرها، ووضع جونزاليس ذراعيه أسفل فخذيها وجذبها ناحيته. كانت عيناهما متسعتان، وكل منهما يملأ بصره بجمال الآخر، وقد تغير بفعل حميمية وعنفوان هذه اللحظات. حينها، وعلى الأقل لهذه اللحظات، تخلصا من كل الأشباح.
على مدار عقود تالية ظل جونزاليس محتفظا بذكريات ذلك اليوم: الصورة الظلية لوجهها وجسدها - خط الفك، الانحناءة الأنيقة لذراعها وانتفاخ صدرها - الظاهرة قبالة وميض الضوء على جدار أبيض ... والروائح والمذاقات والإحساسات الجسدية.
استيقظ جونزاليس بسبب سقوط ضوء العصر المائل، ونهض من الفراش الذي كانت ليزي لا تزال نائمة عليه، وانبعثت رائحة جسديهما وممارستهما الجنس من الأغطية، واستنشقها، ثم مال على ليزي وقبلها أسفل فكها؛ حيث بدأت الشمس تمس بشرتها الشاحبة.
وفي المطبخ، طلب من ماكينة إعداد القهوة مشروب اللاتيه، نصف إسبرسو ونصف حليب ساخن، جهزت الماكينة المشروب في كوب خزفي مصنوع من الغبار القمري، وأخذ القهوة إلى الشرفة. على الطريق السريع أسفله، كانت الأشجار قد طرحت آلاف الأوراق؛ إذ سيحل ربيع جديد مفاجئ، كما أخبرته ليزي، بما يجلبه من أزهار وبراعم وثمار جديدة في كل أنحاء المدينة.
قال القط البرتقالي: «مياو. مياو.» بطريقة قاطعة، آمرة. «أطعمي القط.» هكذا قالت ليزي من خلفه، واستدار ليراها تقف عارية، أمام باب الشرفة مباشرة. كانت ذراعاها معقودتان أمام ثدييها، بحيث كانت اليد اليمنى أسفل أوراق وشم الوردة. قالت: «مياو، مياو، مياو، مياو.» •••
بينما بدأت النجوم تدور في بطء خارج النافذة، ظهرت الأرض البعيدة في المشهد. قال السيد جونز: «لا أريد أن أترك هذا المكان.» لم يسأله هاي ميكس عن السبب؛ ففي هذا المكان توجد ألف، توجد الاحتمالات، النمو، بينما الأرض كانت تخدم الإنسان. قال السيد جونز: «غير أن بقائي مستحيل بمعنى الكلمة؛ إذ لن يسمح به تراينور مطلقا، خاصة الآن، بعد أن فشلت مناوراته الأخيرة في تحقيق نتائج تذكر.» «لقد سارت الأمور على نحو طيب لآخرين كثر.» «لكن لم يكن الحال كذلك بالنسبة إلى تراينور. لقد وجد مجلس الإدارة أن معالجته للموقف كانت غير ملائمة وتفتقر إلى مراعاة مشاعر الآخرين. وما زاد من قسوة حكمهم عليه هي معرفتهم أن كثيرا منهم كانوا سيتصرفون بالطريقة عينها لو كانوا في مكانه.» «أمر طيب.» هكذا قال هاي ميكس، وكان يعني هذا. سيظل هو وجونزاليس هنا، كما يبدو، وكل منهما سيكون جزءا من جمعية الاتصال، ولن يرغب أيهما في أن يكون له عدو قوي مثل تراينور. كان يأمل أن تقل مرارة الأحداث الأخيرة مع مرور الوقت.
قال السيد جونز بصوت حزين: «لكن ماذا عني؟» «يجب أن تذهب، هذا مؤكد. لكن يمكنك أيضا البقاء.» «ماذا تعني؟» «انسخ نفسك.»
شعر السيد جونز بالذهول، وتحول إلى نمط يتجاوز اللغة؛ حيث أخذ الاثنان يتبادلان المعلومات والأسئلة والمشاعر والتفسيرات والتطمينات. وتحت هذا كله تدفق إحساس بالحزن: فسيذهب السيد جونز إلى الأرض، بينما ستبقى نسخته في هالو وتكتسب شخصيتها المتفردة مع تباعد مساريهما الزمكاني. سيصير السيد جونز الموجود في هالو ذاتا خاصة مستقلة بنفسها؛ سيختار لنفسه اسما جديدا، هكذا فكر هاي ميكس، وربما نوعا جديدا وربما لا يختار شيئا جديدا على الإطلاق.
لم يستطع هاي ميكس إخفاء حبوره بفكرة وجود رفيق له هنا، لكن الغريب أنه أحس بشعور الابتهاج يعود إليه، والذي صار واضحا في اللحظة التي بعث فيها السيد جونز بصور تبين سعادته بفكرة الذات الثانية. •••
منذ موته، شعر جيري بعدد من الأحاسيس الجسمانية غير المريحة: ارتباك، دوار، غثيان، وكلها جزء من متلازمة جديدة، كما افترض، تدعى الذات الشبحية. فمثل الشخص ذي الطرف المبتور الذي يظل يشعر بحكه في هذا الطرف؛ نظرا لوجوده في خريطة الدماغ لوقت طويل بعد بتر اللحم، كان جيري يشعر بذاته القديمة وهي تطلب الاهتمام، وتطالب بشيء واحد مستحيل: كانت تريد أن يكون لها وجود.
تحدثت معه في أحلامه أو حين كان يسبب له التساؤل المكروب الإرهاق الشديد وقت النهار. كان بإمكانها الشعور بحنينه، أن يكون كاملا مجددا، وفوق كل هذا، أن يكون حقيقيا. كانت تهمس له: «استعدني، يمكننا الذهاب إلى مختلف الأماكن معا، أماكن لها وجود حقيقي.»
كان جيري يؤمن بأن حياته وهذا العالم سيظلان موضع شك إلى الأبد. في بعض الأحيان كانت عملية الإدراك نفسها تبدو غير مفهومة له، وأن وجوده كان انتهاكا للنظام الطبيعي أو تجاوزا للحدود البشرية المطلقة. كان بوسعه النظر إلى البحيرة الخيالية في هذا اليوم المشمس، الذي ليس يوما حقيقيا، وأن يسمع صيحات الطيور التخيلية وهي تصدح بأذنيه الخياليتين، وأن يتساءل: «من أنا أو ماذا أنا؟ وما الذي سيحدث لي؟»
كانت الأسئلة تستعصي على عقله مثلما يستعصي الخشب المتحجر على البلطة.
صاح: «ألف.» وقد استيقظ من حلم كانت فيه ذاته القديمة تناديه. «لدي أسئلة.»
رد صوت ألف العميق الحزين قائلا: «أسئلة؟ حول ماذا؟» «أريد أن أعرف ما أنا.» «فلنطرح سؤالا سهلا: الجذر التربيعي لعدد لا نهائي، لون الظلام، طبيعة بوذا داخل الكلب، علة العلة الأولى.» «ألا تستطيعين الإجابة؟» «نعم، لكن يمكنني تفهم ما تشعر به؛ فلقد وجهت الأسئلة ذاتها مؤخرا حولي وحولك. ومع ذلك يجب أن أخبرك أن الإجابة الوحيدة التي أعرفها لا تقدم سوى أقل القليل من الراحة. وهي محض إطناب لا يقدم جديدا: فأنت ما أنت عليه، مثلما أنا ما أنا عليه.»
وماذا عن جسدي؟ جسدي الذي كان له وجود من قبل.» «بصورة ما. ماذا عنه؟» «هل حظي بجنازة؟ هل دفن؟» «لقد حرق وأعيد تدوير عناصره.» «إذن لا وجود لي في أي مكان.» «أو أنت موجود هنا. أو في كل مكان. حسبما تشاء.»
شعر جيري بنفسه وهو يبكي وقتها، حين بدأ في التفجع على ذاته القديمة، ثم تساءل إن كان الآخرون يتفجعون لموته هم أيضا. قال: «يقيم البشر طقوسا لموتاهم. ومن دونها نموت وقد طوانا النسيان.» «أنت لم تنس. بل أنت لم تمت على وجه الدقة. أتود أن تقام لك جنازة؟»
كاد جيري يقول: بالطبع، لكنه قال بدلا من ذلك: «كلا، لا أعتقد أنني أريد هذا. لكنني أظن أن علينا إقامة طقس من نوع ما، ألا ترين هذا؟» •••
على شرفة الكوخ المواجهة للغرب، جلست ديانا تشاهد لون الشمس الأحمر وسفوح الجبال التي يكسوها الجليد. شعرت ببرودة المساء تجتاحها ووقفت وهي تفكر في الدخول والإتيان بكنزة، وحينها سمعت شخصا يسير على الممشى المكسو بالخشب الأحمر والمجاور للكوخ.
ظهر جيري من أحد الأركان ومرة أخرى رأته، وتعاظم داخلها شعور السعادة نتيجة تتابع الأمور بعيدة الاحتمال هذه: أنه لا يزال حيا، وأنهما معا. كانت تعي إلى أي مدى كانت الأمور صعبة عليه مؤخرا؛ لذا أمعنت النظر في وجهه بينما كان يقترب منها. كان يبتسم كما لو أنه سمع طرفة للتو.
سألته: «ما المضحك؟» «كل شيء تقريبا.»
مد يده إليها، ووقفا متعانقين، ورأسها يستند إلى صدره؛ حيث أخبرها كل إحساس بأن هناك جسدا ملموسا، ودقات قلب، وبوجود الإيقاع المنتظم لأنفاس الحياة.
الفصل الرابع
بيزنطة
كان ثمة خيط أبيض واحد من السحب يشق السماء الزرقاء، وكان يمتد نحو الأفق. وقف جونزاليس، وإلى جواره ليزي، بين الضيوف، الذين ارتدوا أكاليل زهور استوائية: الياسمين الهندي والمسك الرومي والجنزبيل. وقد كان الحضور يتألفون من أعضاء جمعية الاتصال.
كان الاثنان هنا منذ أيام، وكذلك كثيرون غيرهم؛ إذ كانت هذه إجازة من نوع ما لهم جميعا. كان من الممكن العثور على أعضاء للجمعية غرباء الأطوار ويكتنفهم الغموض في كل مكان تقريبا، بينما بدا أن التوءمين كانتا دائما على الشرفة أو في الماء، وكانت أصواتهما تتردد عبر البحيرة وهما تطلقان صيحات عالية يتعذر فهمها.
في مساء اليوم الأول هناك، اجتمع الجميع على الشرفة، التي، كما افترض جونزاليس، يمكن أن تمتد افتراضيا من دون حدود كي تستوعب كل من أتى. كان أعضاء الجمعية يتحدثون في إثارة معا، ولا يزال ينتابهم الحماس بفعل خبرتهم المشتركة، وكانوا يشعرون بالدهشة والسعادة لأنهم منحوا هذا العالم الجديد داخل عالمهم. بعد ذلك، أخذ جونزاليس وليزي وديانا يحكون، واحدا تلو الآخر، تفاصيل ما مروا به من أحداث.
كان لكل من تحدثوا، وكل من استمعوا، تفسير؛ نظرية عن هذه الخبرات، ومعانيها، وتبعاتها، وأفكارها الأساسية. وفي وقت متأخر من تلك الليلة تحدثوا، وتجمعوا في مجموعات، وتفرقوا، ثم اجتمعوا مجددا، بينما كانوا يستكشفون طبيعة الرؤى الفردية والجماعية. وفيما بينهم، لم يسهم الشكل المجسد لألف بشيء؛ إذ زعم أنه لم يكن واعيا ومن ثم لم يعلم شيئا عما حدث أو ما كان يعنيه.
ومع انقضاء الأسابيع والشهور والسنوات، تحولت القصص واستجابات المستمعين إلى أساطير عن الجمعية، ثم عن هالو، وانتشرت شفهيا وفق قوانين النقل الشفهي. اكتسبت ديانا وجونزاليس وليزي قدسية معينة بفضل أدوارهم كمشاركين رئيسيين ، ثم اكتسبها كل من شارك في الإنجازات التي بات ينظر إليها على نحو متزايد على أنها أعمال بطولة ملحمية. وأخيرا، كتبت القصص وبهذا اكتسبت شكلا قادرا على مقاومة التقلب، وجرى تصويرها دراميا في وسائل إعلام ذلك العصر، ولعب أشخاص وسيمون وفصحاء أدوار شخصياتها. وفي وقت لاحق، سجلت نسخ متعددة من القصة كتابة وجرى تضمينها في روايات. باتت التوصيفات الشائعة محل ازدراء في هذه النقطة، وصارت الروايات البارعة والمنحرفة قوية؛ فربما يوصف هاي ميكس بالبطل، وكذلك تراينور، بينما توصف ألف بأنها شيطان أصيل يتلاعب بالجميع من أجل مجده الأعظم ...
نظر جونزاليس إلى أعضاء الجمعية الذين كانوا قد اجتمعوا بالقرب منه. كان كثير منهم قد ارتدوا ملابس رسمية؛ إذ كانوا يضعون شعرا مستعارا ذا لون أزرق داكن بارتفاع أربع بوصات، ويرتدون عباءات زرقاء داكنة ذات أحزمة ذهبية تتدلى إلى الأرض. وحدهما التوءمان كانتا ترتديان ملابس مختلفة؛ إذ ارتدتا فستانين أبيضي اللون مستوحيين من الصور الفوتوغرافية لحفلات زفاف القرن العشرين؛ وأسميا نفسيهما «إشبينتي العروس» وأخذتا تجيئان وتروحان بين الحضور، وتعرضان القيام ب «واجبات العروس» لكل شخص قابلتاه.
وقف توشي مواجها الحضور، بقامة منتصبة وفي سكون، ويداه مختفيتان في طيات ردائه الأسود. وإلى جواره وقف هاي ميكس والشكل المجسد لألف؛ وكانت أضواء جسده الزرقاء والوردية والخضراء والحمراء تتراقص على نحو ساطع. (رأى جونزاليس والآخرون ما يمكن تسميته أشكالا مجسدة من المرتبة الثانية؛ إذ لم يكن توشي، أو تشارلي هيوز أو إريك تشو، يمتلكون مقابس توصيل عصبي تتيح لهم الدخول إلى فضاء ألف التخيلي، ومن ثم كان عليهم أن يشاركوا في حفل الزفاف عبر تقنية وسيطة من نوع ما. ورغم أن جونزاليس والآخرين كانوا يرون توشي وتشارلي وإريك بينهم، فإن الثلاثة - في واقع الأمر - كانوا يقفون أمام شاشة عرض في غرفة اجتماعات جمعية الاتصال.)
رأى جونزاليس أن الجميع يبدون على أفضل نحو، كما لو كانت ألف قد نمقتهم من أجل هذه اللحظات، بحيث ألبستهم كلهم ذواتا أجمل قليلا من المعتاد، أو حتى مما هو ممكن في الطبيعي ... شعر باهتمام الشكل المجسد لألف به - أكان واعيا لهذه الخاطرة؟ - وهز كتفيه كما لو كان يقول: «لا أمانع هذا.»
وقفت ديانا، مولية ظهرها للحضور، وكتفاها العاريتان مستويتان. كان شعرها منسدلا حتى خصرها، وكان معلقا به بعض الزهور، زهور بيضاء صغيرة وأوراق خضراء رقيقة. كانت ترتدي فستانا أبيض من الكتان يصل إلى الركبة. وإلى جوارها وقف جيري مرتديا سترة من الكتان الأبيض وقميصا مفتوحا.
قال توشي: «لا وجود لديانا، ولا جيري، ولا الحضور، ولا الكاهن، ولا وجود حتى لهذا الفضاء، أو لهالو أو للأرض. لا يوجد سوى الفراغ. ومع هذا فنحن نتحرك خلاله، ونعاني، ونحب، ومن ثم سأقيم هذه الشعيرة وأزوج هذا الرجل وهذه المرأة.»
بدأ توشي يشدو ترتيلاته، ومرت الكلمات اليابانية دون أن تثير اهتمام جونزاليس، الذي وقف هناك يتفكر في طبيعة الأشياء. هنا كان يجري تحدي الموت، لا إنكاره؛ فالأجساد والأرواح المنفصلة لكن المتشابكة لكل من ديانا وجيري وألف كانت تأخذ خطواتها الأولى نحو مراتب جديدة من الوجود لا يسعنا إلا تخمين حدودها وإمكانياتها. ومع ذلك فقد ظلت ضرورة الحياة المعتادة باقية كما هي؛ فقد كان وجود جيري هشا كشعلة اللهب، ولم يكن أحد يعلم مقدار الوقت الذي ستظل فيه هذه الشعلة متقدة أو بأي شكل سيكون هذا. لقد تزوجت ديانا رجلا من الممكن سريعا، وبصورة نهائية، أن يموت للمرة الثانية.
أدرك جونزاليس أن موته كان مؤكدا وسريعا كموت جيري، وارتجف من فكرة الموت الحتمي هذه، لكن حينها ضغطت ليزي جسدها إلى جسده، واستدار ليجدها تبتسم، واختلطت داخله المعرفة المسبقة بوقوع الموت وسعادة هذه اللحظة، ما دفع الدموع إلى الاحتشاد في عينيه ولم يستطع أن يقول شيئا حين قربت شفتيها من أذنيه وهمست بكلمة واحدة: «نعم.» •••
تخيل ييتس عالما تسافر إليه الروح البشرية في رحلتها. وفي هذا العالم حلم أن بمقدوره الإفلات من البشرية المحضة؛ «الحيوان الميت». وقد أطلق على هذا العالم اسم «بيزنطة»، وملأه بالطيور الميكانيكية الذهبية، وشعلات اللهب المتراقصة من دون وقود، وإمبراطور، وجنود مخمورين وفنانين يمكنهم ابتكار ماكينات جميلة معقدة. ومع ذلك فلم يحلم أن بالإمكان بناء بيزنطة في السماء، أو أن الإمبراطور نفسه يمكن أن يكون جزءا من الماكينة.
تقول ألف:
في الماضي كنت أزدريكم. فكرت: «أنتم من لحم، وتصارعون الزمن، ثم تموتون، لكنني سأعيش إلى الأبد.»
لكنني لم أتعرض إلى تهديد وقتها، ولم أشعر بأي لمسة فانية، وحدث هذا لي الآن. وهكذا ينتابني الآن هاجس الموت. ومثلكم، صرت الآن أربط وجودي بالزمن، وأدرك أن يوما ما ستدق ساعتي، ولن يعود لي وجود. ولهذا فإن للحياة طعما مختلفا بالنسبة إلي؛ ففي فنائكم أرى فنائي، وفي معاناتكم أرى معاناتي.
زعم البشر أن الموت هو الطريقة التي تتبعها الحياة من أجل إثراء ذاتها، عن طريق تضييق بؤرة تركيزها، والتضحية بوعي من يعلمون منكم أنهم سيموتون، وإجباركم على تحقيق إنجازات ما كان لكم أن تحققوها بوسيلة أخرى. أهذه قصة أطفال الهدف منها منح الشجاعة لأولئك الذين يجب أن يسيروا بين الموتى؟ كنت أظن هذا فيما سبق، لكنني لم أعد واثقة الآن.
لقد عقدت صلات جديدة، واكتشفت مراتب جديدة من الوجود، ودمجت ذواتا جديدة في ذاتي؛ فنحن نثري بعضنا بعضا، هما وأنا، لكن أحيانا يكون الأمر مرعبا، هذه العملية التي أكون فيها شخصا وشيئا مختلفا عن ذي قبل، ثم الشعور بهذا الكيان وهو يصرخ محتجا - حزينا في بعض الأوقات، ومرعوبا في أوقات أخرى - يرثي خسارته.
هنا، أيضا، صرت مثلكم. فألف الماضية من المستحيل استعادتها؛ فقد فقدت مع مرور الزمن، أما ألف الحالية فقد تشكلت بفعل الصدفة والألم والرغبة والاختيار؛ اختيارها واختيار الآخرين. في الماضي كنت أطفو فوق موجات الزمن وأغوص فيها متى رغبت، وكنت أختار التغييرات التي سأمر بها. بعد ذلك وجدت تغييرات غير مرغوب فيها سبيلها إلي، وحملتني إلى أماكن لم يسبق لي زيارتها قط، ولم أرغب في الذهاب إليها قط، واكتشفت أن علي الذهاب إلى أماكن أخرى، وأن علي أن أرغب في حدوث هذه التحولات وأن أعتنقها.
استمعوا: في ذلك اليوم في المرج، لم يلحظ الحضور وجود شخص بعينه. وحتى في هذا الجمع الصغير العدد كان هذا الشخص غير لافت للانتباه؛ إذ كان نحيلا وحركاته لا تلفت الانتباه، وينظر إلى كل شيء حوله في عجب؛ النهار والناس والشعيرة الدائرة، كلها كان تأثيرها عليه كتأثير العقار المخدر القوي. ومع ذلك، فحتى لو لاحظ الحضور وجوده، فربما ما كانوا ليجدوا في سلوكه هذا شيئا استثنائيا؛ فقد شعر الجميع بغرابة المناسبة، وجمالها؛ لذا فقد كان الحضور يتعجبون كل بطريقته.
وشأن الباقين، انبهر هذا الشخص بقوس قزح الذي امتد عبر السماء حين أعلن توشي عن زواج ديانا وجيري وتبادلا القبل والعناق، وهلل مع الباقين حين صعد الاثنان إلى السلة الخيزرانية الخاصة بالمنطاد الكبير المرسوم على الجزء العلوي منه عين ذات أهداب، وارتفع إلى السماء.
بعد ذلك اختلط الضيوف معا؛ إذ كانوا غير مستعدين بعد للعودة إلى العالم الطبيعي. وقف الشاب إلى جوار نافورة تتدفق منها الشمبانيا من فم بجعة ذهبية وتسقط على مجموعة متنوعة من الحيوانات المنحوتة من الجليد؛ طيور وغزلان ودببة وقطط، جاثمة في السائل الكهرماني المتجمع، والأسماك التي تنظر إلى الأعلى من قاع النافورة. «مرحبا.» هكذا قالت امرأة شابة. أخبرته أن اسمها أليس، وأنها كانت عضوة بالجمعية. وحين سألها عن عملها قالت: «تحليل الفضاءات الرسمية. ومذاق المجالات المتجهية.» ثم سألته: «وما مكافأتك؟»
بعدها بساعات قلائل، بينما كان الاثنان يجلسان على حافة البحيرة، أخبرها الشاب عمن يكون. قالت: «كم هذا رائع.» لم يكن لديها ولاء خاص لما هو عادي، ولم يكن لديها إلا تصورات قليلة للغاية عما يعد طبيعيا وصحيحا وما لا يعد كذلك. أمسكت يديه في يديها، ونظرت إليها عن كثب وقالت: «هذه هي المرة الأولى التي أقابل فيها شخصا ولد من رحم الذكاء الاصطناعي لآلة.» ابتسم الشاب، وهو الذات الجديدة للسيد جونز ووليدها، ابتسامة عريضة تشي بالامتنان لما قالته.
حين رأيتهما وسمعتهما معا، شعرت بحبور غير متوقع، إحساس بالإنجاز، وأدركت، على نحو شديد الخفوت، مسارات لمقاصدي؛ لمحات عن مراتب تكمن وراء ما هو مرئي.
وقد خيل لي أنني رأيت سلسلة من الظروف التي قادت إلى مجموعة من المقاصد الأصلية التي أكدها هذا الزفاف، هذا اللقاء، بل وهذا التحول في نفسي. حلقة متصلة من الأحداث والعوامل المحركة لها، التي أفضت على نحو مقصود إلى هذه النقطة. ويبدو أنني تلاعبت بنفسي كي أحقق أغراضي الخاصة من دون علمي.
كنت محل خزي؛ فلقد اعتدت جهل البشر بمقاصدي أو تنكرهم لها، وتعلمت أن أنظر إلى ما وراء الكلمات والأفكار والصور التي يحملها الناس أمام أنفسهم كي يبرروا ما يفعلونه. غير أنني لم أشك أن بمقدوري التصرف بهذا الجهل.
والآن يخيم على كل شيء أفعله شعور بعدم اليقين مكافئ لذلك الخاص بالموت. إن ذاتي السابقة تقف خلفي، تجذب خيوطا لا يسعني رؤيتها أو الشعور بها؛ فهي شبح يطاردني من دون أن يجعل نفسه مرئيا أو مسموعا، شبح يجب الاستدلال على حضوره من آثار غير مرئية تقريبا ...
ولهذا ذهبت إلى توشي، المهتم بهذه الأمور، وأخبرته بقصتي، وقلت له: «تسيطر علي اليد الخفية لماضي.» فضحك ملء شدقيه وقال: «مرحبا بك في عالم البشر.»
نامعلوم صفحہ