وقبلت حجة زوجي ونزلت على رأيه إكراما له، لا خوفا على مطلقي، فإن ما عرفته من أنه أصبح مستغرقا لا يملك شيئا، وأنه لن يترك لولدينا ميراثا قل أو كثر، قد زاد حفيظتي عليه وغضبي منه، وإنني لأفكر يوما إذ استأذن علي الرسول الذي كان سفير مطلقي إلي وسفيري إليه في أمر الولدين وحضانتهما، وأذنت له، فلما حياني وتناول القهوة قال: «جئت سفيرا مرة أخرى من قبل مطلقك، ما أشد جزعي على هذا الرجل النبيل ذي المروءة! وما أعظم خوفي على حياته! إنه يذبل يوما بعد يوم، ويرى بعينيه أجله يدنو، وهو طبيب، وهو لذلك أشد جزعا على نفسه؛ لأنه يعرف سر علته، ويذكر في ألم وحسرة أنه لا برء له منها، وهو يشكرك من أعماق قلبه ويكرر هذا الشكر كلما بعثت له بالولدين يزورانه ويؤنسانه، فهو يرى فيهما صورتك أنت مجتمعة إلى صورته، ويذكر كلما رآهما أسعد أيام حياته، ويتولاه الأسى والحزن لأنكما لم تستطيعا أن تعيشا في هذين الولدين ولهما، ولقد كنت أعجب يا سيدتي كلما ذكر لي أيام صحته وعافيته أنه لا يزال يحبك، وكنت أحسبه إذ ذاك يتغنى بحبكما الأول ويتشبث به لأن قلبه لم يعرف حبا بعده، لكن هيامه بك اليوم وهو موشك أن يلقى ربه، يدلني على أنه كان صادقا، وأن قلبه ظل حياته مليئا بك ولم يعرف غيرك، وهو قد أرسلني اليوم إليك في أمر لا أدري كيف أصوره، إنه يريد أن يراك ليستغفرك عن كل ما مضى من ذنوبه، طامعا في عفوك وإحسانك.»
قلت في دهشة: «يريد أن يراني؟!»
قال الرسول: «مهلا يا سيدتي، فلا يأخذ منك العجب، ولا تتولك الدهشة، ولو أنك رأيت هذا المريض، المشرف على الموت، كيف ينسى مرضه، وكيف ينسى الموت كلما ذكرك وخيل إليه أنك زرته، لما ترددت لحظة في زيارته، إحسانا منك تبذلينه صدقة لوجه الله، فهذا الرجل لم يعد يعرف في الحياة سواك، ولم يعد يجري على لسانه إلا اسمك، أنت القبس الباقي له من نور الدنيا، والأمل المرجو عنده في الحياة الآخرة، أنت حلمه في يقظته وفي نومه، أنت مصدر راحته حين تنحدر به علته إلى هاوية الفناء، إنه حين يرى ولديكما يقول إنه يحبهما لأنهما ولداك أكثر مما يحبهما لأنهما ولداه، إنه يناديك باسمك مبتهلا مستغفرا، كما ينادي المؤمن ربه في صلاته، إنه يهذي بحبك هذيان المجنون بليلى، أولا يمس ذلك كله من قلبك أوتار رحمتك وبرك؟ أولا تحسين - وقد وصفت لك حاله - أن من حق المروءة عليك لا أن تزوريه وكفى، بل أن تلازميه حتى يلفظ نفسه الأخير؟»
اشتدت بي الدهشة وبقيت مشدوهة لا أدري ما أقول، فلما رأى الرسول حالي قال بعد برهة: «إنني عائد إليه الساعة يا سيدتي، ولن أقول له إني رأيتك، سأعود إليك غدا في مثل هذا الموعد، وأكبر رجائي ألا تخيبي أمل رجل أبقى على حبك حياته برغم يأسه منك وانفصاله عنك، قد تكون آخر سويعاته في هذه الدنيا حين يقع نظره عليك، وحين يحاول أن يرفع إليك يديه مستغفرا من ذنوب يعلم الله براءته منها، سيقول لك إنه أخطأ ولم تخطئي ، وإن عليه كل الوزر فيما أصابك ولا وزر عليك أنت في شيء قط، سيرفع إليك أكف الضراعة لتسامحيه فيسامحه ربه، إن لك قلبا يا سيدتي يعرف الرحمة وينسى الموجدة، فاستشيري قلبك، وإلى غد في مثل هذا الموعد لنذهب معا إليه.»
قال الرسول هذا الكلام واستأذن وانصرف، ولم أملك التفكير وأنا فيما أنا فيه من دهشة بلغت الذهول، كيف تراني أستطيع أن أفكر وهذا السيل الجارف من عواطف رجل تهدده المنون ينساب نحوي ويكاد يغرقني؟ وخرجت إلى حديقة المنزل أستنشق الهواء لعله يرد إلي بعض سكينتي، ومع هذا بقيت عاجزة عن كل تفكير زمنا غير قليل، فلما أردت أن أفكر انتفض أمامي طيف صديقتي وكأنما تقول: هأنذي. وانتفض إلى جانبه شبح المليونير يطالب بديونه، وأقبل ولداي في هذه اللحظة فقبلتهما على عجل، ثم أسرعت إلى مخدعي مضطربة الذهن لا أرى ما أمامي.
وجاء زوجي وشاهد اضطرابي فذكرت له ما جاء به الرسول، وقصصت عليه حديثه، قال: «الأمر لك يا عزيزتي، إن شئت ذهبت غدا معه، أو شئت التمست لنفسك عذرا من عدم إجابة مطلبه، ليس عندي ما أشير به في موقف تملي فيه العاطفة ولا شأن للعقل به، ولو أنني وجهت إلي مثل هذه الرسالة بوصفي صديق هذا الواقف على أبواب الأبدية لحرت في أمري، ولترددت ماذا أصنع بعد الذي كان بيننا آخر الدهر من قطيعة وخصومة، لكنه أحسن إليك يوم ترك لك ولديك، فأنت في غير موقفي، وهو على كل حال لم يطلب إلي أن أزوره، فلا شيء يحملني على أن أفكر في الأمر أو أعتزم فيه رأيا، فاصنعي ما تشائين ولا اعتراض لي على أي قرار تتخذينه.»
زاد هذا الحديث حيرتي، هبني أبيت أن أذهب فبأي عذر أواجه الرسول؟ أأقول إن قلبي لا يطاوعني أن أراه وقد ترك ولديه معدمين ينفق عليهما من يبعث الله إلى قلبه الشفقة بهما؟ أم أقول له إن ما يهرف به ليس إلا هذيان الحمى، وإنه لو شفاه الله كما أرجو لأسف أن جرى اسمي على لسانه في أثناء مرضه؟ وإن أنا قبلت رجاء الرسول وذهبت معه، فماذا يكون موقفي من هذا الرجل المضطرب بين الحياة والموت؟ ما الذي أستطيع أن أقوله له إذا هو خاطبني باللهجة التي خاطبني بها الرسول؟ لن أزيد على أنني سامحته، ثم أضطر أن أرجوه كي يسامحني فيما لعلي هفوت فيه، وهبه تأثر بلقائي ولفظ نفسه الأخير في وجودي فأية مأساة عند ذلك أواجه؟!
وقضيت ليلي في حيرة من أمري، وأرقت ولم يعرف النوم سبيلا إلى جفني، على أنني كنت كلما قلبت الأمر ازددت اقتناعا بأني لا قبل لي بالذهاب إلى مطلقي، ولا فائدة لمطلقي من ذهابي إليه، سيقدر الرسول حين أرفض الذهاب معه أني لا قلب لي، وسيرى أنني أسأت إلى من أحسن إلي، ولكن ذلك خير من أن أتعرض ويتعرض مطلقي لموقف لا طاقة لي به، ولا جدوى له من ورائه.
وجاء الرسول الغداة لموعده، فلما سلم علي قال: «لعل الله قد هدى قلبك إلى خير تبذلينه لهذا المسكين، لقد رأيته بعد أن غادرتك أمس، فكان أول ما فاتحني به أن سألني إن كنت قد لقيتك وأديت إليك رسالته، فلما أبلغته أن وقتي لم يتسع لما أراد انهملت عبراته وقال: «حتى أنت يا صديقي تتنكر لصداقتي حين تراني على حافة القبر، ما ضرك لو ذهبت إليها فرددت إلي روحي بزيارتها أو بوعد منها أن تزورني!» لست أكتمك يا سيدتي أنني أوشكت أن أفضي إليه بما حدث بيني وبينك أمس دفعا لاتهامه إياي أنني جحدت حتى الصداقة، ولكنني وعدتك ألا أفعل حتى أعود إليك اليوم آملا أن تذهبي معي فتردي أنت روحه، أفتراني أطمع منك أن تكوني كريمة معه كما كان هو كريما ذا مروءة يوم خاطبته باسمك في أمر ولديك؟»
قلت بعد هنيهة: «أرجوك يا سيدي أن تمنحني شيئا من صبرك ومن حلمك حتى أعرض عليك أمري: لقد قضيت ليلة لم أذق فيها النوم أفكر فيما تطلب إلي وأقلبه على كل وجوهه، ولم أنس منذ بدأت تفكيري أنني مدينة بالشكر الخالص لسفارتك الناجحة عني عند مطلقي في شأن ولدي، كما أني مدينة له بالشكر على مروءته ونبله، ولهذا وددت لو استطعت أن أجيبك إلى ما طلبت مني إن كان في إجابته أي فائدة، أنت تطلب إلي يا سيدي أن أزور مطلقي ليسمع مني أني سامحته فيما لعله أخطأ معي فيه إبان زوجيتنا، إذن فأبلغه عني - وهو لا شك مصدقك - أنني سامحته من كل قلبي، وأنني أطلب إليه كذلك أن يسامحني وأن يغفر لي، لعل الله يشملنا نحن الاثنين بعفوه ومغفرته، أقول ذلك صادقة مخلصة عن نفسي، أما ولدانا فأمرهما إلى ربهما ولا أملك أنا من ذلك شيئا، إنه إن اختاره الله إليه سيتركهما فقيرين إلى عطف أجنبي يكفلهما أو يتبناهما، أتراني أستطيع أن أقول ذلك لمطلقي وهو - فيما تقول - موشك أن يلقى ربه؟ وهل يرضيك أن أكتم ذلك فأبوء بإثم الولدين في غير ذنب ولا جريرة؟ وهبني ذهبت معك إليه ورضيت أن أكتم أمر الولدين إبقاء عليه، واندفع هو يذكر أمامي ما قلت أنت لي من أنه يحبني ولا يحب غيري، أفأجيبه صادقة: «لكني لا أحبك»، أم أجيبه كاذبة بأني أحبه وأنه ملء سمعي وبصري؟ إنك تحدثني باسم عواطفه التي تتحكم فيه، فهل تريدني أن أقف أمامه صلدة جامدة أسمع ولا أنطق، أم تريدني باسم الرحمة كاذبة مرائية؟! ثم هبني ذهبت معك إليه فكان ما تقول وقضى نحبه سعيدا بوجودي عنده، فماذا يقول الناس عني؟ إنني أشقيته صحيحا وقتلته مريضا؟! ذلك بعض ما دار بخاطري يا سيدي طول ليلي، وأعفيك من سماع ما بقي مما سواه، فهل تراني أصبت الرأي، أم ترى أن تشير علي بما يخالفه؟»
نامعلوم صفحہ