قالت: ذلك أدعى ألا تعرف عني شيئا، وقد استحلفتني صاحبة القصة ألا أذكر لك شيئا عن شخصي، وقطعت لها العهد والميثاق أن أكون عند رغبتها، وأحسبك يا سيدي تشجعني على أن أحفظ عهدي، وتسمح لي بالانصراف.
قالت ذلك وهمت بالوقوف، وأيقنت أن ما أبذل من جهد لمعرفة اسمها أو شخصيتها سيذهب سدى، فوقفت وودعتها قائلا: لعلي أراك من بعد.
وأجابت: علم ذلك عند ربي. وانفلتت في رشاقة، وسرعان ما اختفت عن ناظري، تاركة لي هذا الملف الأنيق الذي أخرجته من حافظة أوراقها، وكان الملف مربوطا بشريط من الحرير الأزرق زرقة السماء، فككت رباطه، وأجلت بصري في صحف القصة الأولى، ثم إنني تخطيت هذه الصحف إلى فصل يتوسط القصة، فإذا هو يثير طلعتي، بل يثير دهشتي، وتكاد تهتز لقراءته أعصابي، عند ذلك آثرت أن أصعد إلى غرفتي، وأن أبدأ قراءة القصة من أولها، وفعلت، وإنني لأتابع القراءة إذ دق الخادم باب الغرفة، وقال: ألا ينزل سيدي ليتناول عشاءه، فقد جاوزت الساعة التاسعة؟!
وأجبته: بل أوثر الليلة أن أتناول طعاما خفيفا، فأحضر لي ها هنا خبزا وجبنا، وأكثر من الفاكهة.
وخرج الخادم يعد ما طلبت، وعدت أنا أتابع قراءة القصة، وكنت كلما انتقلت فيها من فصل إلى فصل تولتني الدهشة، فصاحبتها تروي حكاية حياتها في بساطة ويسر، يكاد يخيل إليك معهما أنها حياة عادية لأية امرأة تعرفها، ولكنك تقف بعد قليل دهشا تتساءل: ما هذه المرأة؟ ومن هي؟ إنها فريدة في طرازها، بل هي نسيج وحدها، إنها تحب الحياة، ولا تريد مع ذلك أن تسلم للحياة أمرها، بل تريد أن تصوغ الحياة كما تشاء هي، فإذا صدمها الواقع لم تذعن لصدمته، بل حاولت أن تواجهه في كبرياء المعتز بنفسه، المؤمن بقوته، لتبلغ آخر الأمر إلى الإسلام للحياة ومقاديرها، وللطبيعة وحكمها.
والعجيب في أمر هذه البطلة أنها لم تقف إزاء معركة من المعارك الكثيرة التي خاضتها لتحلل نفسيتها ولتجاهد كي تصلح ما يكاد الدهر يفسده، بل هي تنتقل في قصصها من معركة إلى معركة، وقد كان في مقدورها أن تجد في حمى السلام ملجأ يجنبها هذا النضال، ويظلها بوارف من الطمأنينة بل السعادة، لكنها لم تكن تعرف للطمأنينة معنى، ولم تكن تفهم السعادة إلا أن تكون هي المتحكمة في أقدارها وأقدار غيرها، فلما طال بها أمد النضال، وشعرت أنها أصبحت كالكرة تتقاذفها الأهواء التي ابتدعتها هي من صنع يدها، لجأت إلى الحصن الذي يلجأ إليه كل من عبثت به أنواء الحياة، لكنها ما لبثت أن اضطرت للخروج من هذا الحصن لتذعن آخر الأمر لحكم القضاء، ولسلطان الطبيعة.
لم أنم تلك الليلة حتى فرغت من قراءة القصة، فلما أصبحت فكرت: من تكون بطلتها؟ ومن تكون الفتاة التي حملتها إلي؟ ولماذا اختارتني صاحبتها لتدفعها إلي، وتترك لي مطلق الرأي في مصيرها؟ وماذا عساي أن أفعل بها؟ أألقيها في سلة المهملات، أم أدفعها طعاما للنار؟ كلا، فهي تستحق غير هذا المصير لا ريب، وإن أنا فكرت في نشرها، فأي عنوان أختار لها؟ لقد تركتها صاحبتها بغير عنوان، أفأجعل عنوانها: قصة امرأة؟ لكن قصص النساء كثيرة، وليست هذه البطلة في غمار هاتيك النسوة اللاتي أحببن أو أبغضن، كما تحب كل امرأة وتبغض، بل إن لحبها وبغضها لطابعا خاصا بها، لا يتسق هذا العنوان معه.
وما لي لا أتخذ عنوانها من طريقة تحريرها؟! فلم يرد فيها اسم بطلتها، أو اسم شخص من أشخاصها برغم وضوح شخصياتهم جميعا وبروزها، ما لي لا أجعل عنوانها: قصة بلا أسماء؟ ثم ما لي لا أجعل عنوانها صفة اختارتها البطلة لنفسها في آخر قصتها: المذنبة التائبة، أو صفة أخرى اختارها لها زوجها الأول: غيرة وغرور؟ وترويت في اختيار العنوان طويلا، ثم ألهمتني شخصية البطلة بشذوذها وذكائها وجاذبيتها، وبغرورها وغيرتها، كما ألهمتني الخاتمة التي أضافتها ذيلا لروايتها، فجعلت عنوانها: «هكذا خلقت»، مقتنعا بأن هذا العنوان يصف البطلة وطريقة تفكيرها أصدق الوصف.
ولا أريد أن أحكم لهذه القصة أو عليها، وحسبي أن أذكر أن حديث البطلة عن نفسها جعل القصة أكثر واقعية في تصوير عواطفها وإحساسها، وتطور هذه العواطف والمشاعر في دخيلة وجودها، وهي في غمرة المضطرب الذي تعاني العيش فيه.
والواقع أن ما صورته هذه القصة لا يزيد على أنه أثر من آثار التطور الاجتماعي الذي شهدته مصر، ولا تزال تشهده، وإذا كان في البطلة شذوذ غير مألوف فهو يصور واقعا قل أن يجتمع كله في نفس واحدة في فترة واحدة من الزمن، فهو يرسم - لا ريب - صورة من صور تطورنا المتصل في هذا الدور الحاضر من أدوار المجتمع المصري، وبعض البلاد الشرقية معرضة لأن تمر بهذا الدور مثلنا!
نامعلوم صفحہ