وهبطت إلى بهو الفندق، فإذا صاحبنا الأقصري جالس في صدره، وكأنه ينتظرني، فلما رآني أقبل علي وحياني وعلى ثغره ابتسامة عريضة، وشكرته وأثنيت على أزهاره، وتحدثت إليه هنيهة حاولت الانصراف بعدها، فاستوقفني وقال إن عربته تحت تصرفي لأزور بها آثار الأقصر جميعا، وإنه يسر إذا قبلت مصاحبته إياي في زيارة معبد الكرنك ليشرح لي من أسراره ما لا يعرفه أقدر التراجمة من أبناء المدينة، فشكرته واعتذرت له أن لدي اليوم شواغل تحول دون مغادرتي الفندق إلى زمن طويل، وأني مضطرة لذلك أن أرجئ زيارة الآثار إلى يوم آخر، وقبل اعتذاري في لطف وأسف، ثم قال إن صديقتي لا تبرح «ونتر بالاس» اليوم؛ لأنها تريد أن تستريح من مشقة زيارتها ببيان الملوك أمس.
وانصرف الرجل، وخرجت أرى طفلي في فناء الفندق وحديقته، ثم إنني اصطحبتهما ومربيتهما إلى حديقة «ونتر بالاس»، وهناك ألفيت صديقتي ممددة على كرسي طويل، وفي يدها قصة تقرؤها، فهي لم تكن تطيق أن تقرأ من الكتب غير القصص، واتجهت نحوها، فلما دنوت منها رفعت بصرها عن كتابها، ثم قامت وحيتني ودعت البستاني، فجاء بكرسي طويل آخر تمددت عليه إلى جانب كرسيها، فلما استقر بنا المجلس اتجهت إلي بنظراتها الفاتنة، وقالت: «خبريني، ماذا فعلت بهذا الأقصري؟! لقد سحر بك سحرا، بل جن بك جنونا، إنني لم أره قط كما رأيته أمس بعد أن غادرتنا، لقد انقلب على حين فجأة شاعرا مفلقا؛ فنظراتك، ولفتاتك، وحديثك، وهندامك، ورقتك، ولا أدري ماذا كذلك كانت مدار حديثه طول سهرته! ولقد سهر طويلا وأسهرني معه، ولم يكن يتابع بنظراته الحائرة حركة الرقص على عادته، فقد كان في شغل شاغل عن ذلك كله بالحديث عنك، عنك أنت وحدك حتى خيل إلي أنه يعرفك من زمن، وأن بينكما مودة، فلما أخبرني أنه رآك أمس أول مرة وأنت معي تولتني الحيرة؛ أي طلسم تحملين أضله عن صوابه كل هذا الضلال؟»
وتبسمت ضاحكة من قولها وقلت: «أنت تبالغين يا عزيزتي، وإن هناك لطرازا من الرجال ذلك شأنهم حين يرون امرأة لأول مرة، وما يدريك لعل هذا الأقصري يوم رآك للمرة الأولى قد قضى سهرته حديثا عنك، وقضى ليلة تفكيرا فيك، وهو لا ريب قد حمل إليك صبح الغداة من ذلك اليوم طاقة كبيرة من أزهار جميلة شبكت بها بطاقته، ووضع تحت تصرفك عربته تزورين بها الآثار، واستأذنك في أن يصحبك إلى معبد الكرنك ليشرح لك من أسراره ما لا يعرفه أقدر التراجمة في المدينة.»
وقالت صديقتي: «بل أنت التي تبالغين، صحيح أنني تلقيت غداة وصولي إلى هنا ومقابلته إياي للمرة الأولى طاقة من الأزهار، لكنها لم تكن كبيرة، ولم تشبك بها بطاقة ما، وهو قد صحبني إلى الكرنك، لكنه لم يصحبني وحدي، بل كنا جماعة من زوار الأقصر رجالا ونساء، وكان أكثرنا من الأجانب، وكان معنا ترجمان تولى الشرح، ولم يتوله غيره، أما عربته فإنه يتلطف بإرسالها إلي كلما ذكرت له أنني ذاهبة إلى نزهة خلوية، أثرية أو غير أثرية.»
سمعت ذلك فاغتبطت، فشتان بين ما ذكرته صديقتي وما كان معي، وصديقتي جميلة حقا، فارعة القوام ممتلئة في غير سمنة، في عينيها حور، وفي نظراتها سحر، إذا مشت لفتت مشيتها النظر، وإذا ابتسمت أسعدت ابتساماتها جليسها، وهي مؤمنة بجمالها وبسلطانه على كل من يراها، وهي مع ذلك تذكر لي من أمر الأقصري ما ذكرت، ليس الجمال وحده صاحب السلطان إذن على الرجال، فهذا الأقصري الذي سحر في لحظات بحديث عن جمال بلده يستطيع أن يقرأ مثله أو خيرا منه في الكتب، ويستطيع أن يسمع مثله أو خيرا منه من غيري، قد سحره - لا ريب - شيء آخر غير الألفاظ التي اشتمل عليها الحديث، وهذا الشيء الآخر هو سر السحر الذي يبهر كل من يسمعني، هو سري أنا، سر السلطان الذي أحسه، ولا يحيط التحليل بكل مصادره.
ولكن من هذا الأقصري الذي ضقت أمس بحديثه حتى تخرجني الغبطة بسحره بي عن موجب الرزانة وحسن التقدير؟! لقد أحسنت صنعا بالاعتذار عن مصاحبته إياي إلى «الكرنك»، وخير لشابة مثلي أن تلزم جانب اليقظة والحذر.
مرت هذه الخواطر بنفسي في مثل لمح البصر، فلم تلحظ صديقتي شيئا منها، واستطرد بنا الحديث وأنا إلى جانبها في شئون وشجون، بعد أن قصت علي في إيجاز مشاهداتها في آثار الأقصر وبيبان الملوك وبيبان الملكات، وإننا لفي حديثنا إذ مر بنا أجنبي وقف إلى جانبها فحياها بيده، وحياني بإشارة من رأسه، وتحدث إليها لحظات حديثا عاديا، ودعاها بعده، ودعاني وإياها لتناول الشاي ثم انصرف. وذكرت لي صديقتي بعد انصرافه أنه ألماني مهذب مشتغل بالآثار، وأنه يحضر إلى الأقصر كل شتاء منذ سنوات لمتابعة أبحاثه، وأردت منها أن تعتذر إليه عن عدم قبولي دعوة لم توجه لي إلا لوجودي معها، فابتسمت وقالت: «من يدري! لعلها وجهت إلي أنا من أجلك، وعلى أية حال لا ضير عليك من قبولها، وأؤكد لك أنك لن تأسفي لمعرفة هذا الرجل، فهو مهذب واسع الأفق والثقافة، حلو الحديث، لطيف المجلس، وهو لا يقيم بهذا الفندق، ولا يكثر التردد عليه، ولم أره هنا يومين متعاقبين منذ جئت إلى الأقصر، لهذا أرجوك أن تكوني معنا هنا ساعة الشاي، ولك أن تعتذري وتنصرفي بعد قليل من تناوله.»
وألحت الشابة الجميلة فنزلت على رجائها، وجئت للموعد فألفيت الرجل قد حجز لنا مائدة، وجلس إليها ينتظرنا، وأقبلت صديقتي وطلبنا الشاي وأخذنا نتحدث، وعلم مضيفنا أني جئت الأقصر لأول مرة في حياتي، فأخذ نفسه بأن يرسم لي - من هذه المدينة الصغيرة التي كانت من قبل عاصمة الفراعنة - صورة تحييها أمام خيالي في عهود عزها وجلالها، وتصفها في حاضرها بعيدة كل البعد عن هذه العزة وهذا الجلال، لولا معبدها الضخم القائم على شاطئ النيل الأيمن، ولولا القبور العجيبة التي نحتها الفراعنة مقرا لحياتهم الآخرة في جوف الهضاب الناتئة على الشاطئ الأيسر، وأخذ يتحدث في هذا حديث عليم ساحر الحديث طيلة تناولنا الشاي، فلما فرغ من القول شكرته، ثم أبديت له عجبي من أولئك الأقدمين، كيف تخيلوا حاجة الروح بعد الموت لطعام هذه الدنيا ومتاعها، حتى كانوا يدفنون مع الميت القمح والزهر والحلي، وما إلى ذلك من ألوان المتاع؟! وانتقلت من هذا الحديث إلى غيره، وإلى غيره، وجعل هو يجيبني إلى ما أسأل عنه.
وطاب لي المجلس فلم أعتذر ولم أنصرف، بل أقمت أستمتع بحديث مضيفنا وبأنغام الموسيقى، حتى لم يبق في بهو الفندق معنا إلا نفر قليل، عند ذلك قلت مبتسمة: «أظن أنا لم يبق لنا من الانصراف بد، وأنا أشكر صديقتي، وأشكرك يا سيدي، وأستأذنكما في العود إلى فندقي.»
قال الألماني: «أوتأذنين يا سيدتي أن أصاحبك إلى هناك، فالطريق طريقي وأنا أقيم على مقربة من فندق الأقصر؟ وانتقل الحديث في أثناء الطريق من الفراعنة إلى مشاهداتي في أوروبا، وأصغى الرجل لحديثي عن جمال سويسرا، ثم سألني عما إذا كنت قد زرت ألمانيا، وأبدى الأسف حين قلت إنني لم أزرها، وذكر أنه سيكون في برلين الصيف المقبل، وتمنى لو التقينا بها وتعرف إلى زوجي هناك.
نامعلوم صفحہ