ثم انتبه حسن لما هو فيه من أمر جرح سليمان وضياع الجمل فقال للراعي: «وأين الجمل يا أخا العرب؟ فقد وعدتني بإحضاره.»
قال: «امكث هنا حتى آتيك به.» قال ذلك وانحدر في الوادي حتى توارى عن النظر، ولكن صوت الأحجار المتدحرجة تحت قدميه ما زال مسموعا، ثم ساد السكون فجلس حسن تحت الشجرة ولبث ينتظر عودة الشيخ وقد استوحش المكان.
ولما خلا حسن إلى نفسه تحت الشجرة جالت به هواجسه في عالم الخيال فانتقل ذهنه مما شاهده في ذلك المساء إلى سمية وحاله معها، ثم إلى خادمه عبد الله وتأخره، ثم إلى سليمان وأبيه، ثم عاد إلى الجمل الهارب بكتاب خالد فرأى أنه أهمل البحث عنه بتربصه هناك لمشاهدة لقاء ذينك الحبيبين. ولكنه اعتذر بأنه إنما فعل ذلك مرغما، فلو أنه لم يطع الشيخ الراعي وظل في مسيره لما وجد إلى جمله سبيلا؛ لأنه يجهل تلك البقاع ولا يعرف طرقها.
وفيما هو كذلك وظلام المساء لا يريه على الآكام والأودية المحيطة به إلا ظلالا ضعيفة ، سمع خربشة بين الأعشاب فوقف بغتة ثم فطن إلى أنها خربشة ضب سارح فلم يلتفت إليه، ولكنه ظل واقفا وقد تزايد قلقه لإبطاء الراعي وهم باللحاق به ولكنه خاف أن يختلفا في الطريق.
ولما طال انتظاره مل الوقوف فمشى على غير هدى، واتخذ علامة علقها على الشجرة لتهديه إلى المكان من بعيد. وجعل مسيره في جهة الوادي الذي سار إليه الراعي يطلب الجمل وهو يتوقع أن يلتقي بالشيخ وهو عائد أو يسمع جعجعة الجمل عن بعد أو يعود إلى مكانه. ولذلك فإنه كان كلما مشى بضع خطوات التفت إلى الشجرة مخافة أن تتوارى عن بصره وراء بعض التلال، فمشى مسافة طويلة لم يسمع في أثنائها صوتا ولا رأى شبحا، ثم نسي أمر الشجرة فانحدر في الوادي وهو يلتمس الأرض ولا يرى الطريق فكانت رجله تزلق طورا وترتطم أصابعه طورا من فوق النعال بأصول الأعشاب الباقية بعد المرعى، وهو بين أن يحملق نحو الوادي بعينيه ويصيخ بأذنيه أو يتفرس في الطريق بين يديه. فلما طال به المسير ولم يهتد إلى شيء ندم لنزوله من مكانه.
وبعد مسير طويل على تلك الصورة سمع نباح كلاب في الوادي فالتفت إلى جهة الصوت فرأى نورا ضئيلا فتأثر الصوت فإذا به يتعاظم كلما اقترب من النور، فعلم أنه على مقربة من بعض القرى الكثيرة في وادي القرى منتشرة في بطنه وعلى جانبيه. ولكنه استغرب النباح في الليل لعلمه أن ذلك لا يكون إلا إذا طرق الحي غاز أو لص. فوقف ليستريح ويفكر في أمره فالتفت إلى ما يحيط به فإذا هو في واد بين جبلين والظلام حالك والمكان موحش، ولكنه استأنس بتلك النار على بعدها، فمشى نحوها فرأى شبحا يعدو صاعدا من الوادي كأنه غزال نافر، فلما اقترب منه علم أنه الراعي واستغرب مجيئه وحده فصاح فيه: «ما وراءك يا أخا العرب؟ أين الجمل؟»
قال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «جاء بي قلقي على الجمل ورغبتي في التعجيل بالإياب.»
قال: «وما الفائدة من انحدارك في هذا الوادي والليل دامس وأنت لا تعرف الطريق وقد تعرضت للخطر بطرقك هذا الحي ليلا إذ نبحتك الكلاب؛ لأنها لم تألفك من قبل كما ألفتني لكثرة تردادي إلى هذه القرى.»
فقطع حسن كلامه قائلا: «ما لنا ولهذا؟ قل لي أين الجمل؟!»
نامعلوم صفحہ