كتاب الحج والعمرة
تأليف
المولى العلامة
أبي الحسين مجدالدين بن محمد المؤيدي
من إصدارات
مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
ص.ب. 1135، عمان 11821
المملكة الأردنية الهاشمية
www.izbacf.org
صفحہ 1
ملحق من المؤلف لكتاب الحج والعمرة للطبعة الأولى والثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
اعلم أيها الأخ الكريم، المتفهم الواعي، أنه لما يسر الله تعالى هذا الكتاب العظيم، ويسر دخوله الحرمين الشريفين بفضل العناية المشكورة، والجهود المبرورة، غم كثيرا من أهل الحقد والحسد والحرص على أن لا يكون لأهل بيت رسول الله ذكر، ولا لأسمائهم رسم، فأعملوا الحيلة في طمس آثارهم، فأوعزوا إلى بعض السذج: أن هذا كتاب كبير يشق حمله وفهمه على الكثير من الحجيج، وأن الأولى اختصاره بتجريده عن الخلافات، ويكفي ذكر المناسك ليسهل حمله على الصغير والكبير.
ولحسن مقاصد بعض الإخوان والأولاد الكرام، الذين لم يفقهوا غوايل أولئك المحرفين، كما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوا
فصادف قلبا فارعا فتمكنا
وقد علم الله وهو العليم، أني أحرص على بقاء هذا الكتاب على صفته، لأجل نشر علوم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأوليائهم الأبرار رضي الله عنهم.
وقد أخذ الكثير من مؤلفاتي، وانتهبوها انتهابا، فلم أنكر عليهم ذلك، وقلت لهم سلام!!
ويدل هذا على من له معرفة، أنهم قد بذلوا أن يذكروا اختياراتي في هذا الكتاب وحدها، فمنعت من ذلك أشد المنع والمعامل الله سبحانه.
فإن قيل: أنه لم يزل العلماء يختصرون كتب بعضهم الآخر بلا نكير.
قيل له: لا سواء، لأنهم لا يحرصون على إلغاء أقوال الأئمة الأطهار، وإني أعلم أنه لا يتم المنع لما ذكرت، ولكن لا أريد أن يكون ذلك على يد بعض أبنائنا المخلصين، والله من وراء القصد، وهو العليم الخبير.
صفحہ 2
فأقول: إني أحرج وأمنع كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتعرض بالاختصار، أو الاقتصار، أو التبديل، أو التحويل لهذا المؤلف الذي قد أبلغت الجد والجهد في تقريبه وتهذيبه وترتيبه، وهو مشتمل بحمد الله على خلاصة مؤلفات أئمة العترة وغيرهم من علماء الأمة، كمجموع الإمام زيد بن علي وشروحه، كالمنهاج الجلي، والروض النضير، وأمالي أحمد بن عيسى، وأحكام الإمام الهادي إلى الحق عليهم السلام، والتجريد، والتحرير، والشفاء، والتقرير، وشرح الإبانة، والبحر الزخار، وشرح الأزهار، والغيث المدرار، والوابل المغزار، والبيان، والبستان، والهداية وشرحها لطف الغفار، والاعتصام؛ فهذه المؤلفات الكبار غير المختصرات وكالأمهات الست وغيرها من مؤلفات العامة.
وما أوجب هذا كما علم الله سبحانه وتعالى إلا قصد النفع وإبلاغ الوسع في حفظ أقوال أئمة وأعلام الهدى والإقتداء بأسمائهم الشريفة وألفاظهم المنيفة فإنه قد ذهب الكثير الطيب من ذلك بسبب جنايات المختصرين والمتعرضين بالمسخ والتبديل والنسخ والتحويل وإن كانت مقاصد بعضهم حسنة باعتبار أنهم ما أرادوا ما يترتب عل ذلك من الفساد. وقد شكا أعمالهم تلك الأئمة الأعلام كالإمام الحسن بن علي بن داود والإمام القاسم بن محمد عليهم السلام وغيرهما كما أوضحت ذلك في المنهج الأقوم.
وإني أدعو الله جل وعلا على من تعدى هذه التوصية وظلم واعتدى أن ينصف منه ويريه المساءة فيما عمل وأمل، وأن يلطف بمن امتثل بما أوصيناه ويوفقنا وإياه لرضاه وتقواه.
صفحہ 3
وهو بحمد الله ميسر ينتفع به المجتهد والمقلد والمبتدي والمنتهي، فمن كان من أهل الاجتهاد فقد قربنا إليه البعيد من الأدلة، ومن كان من أهل التقليد فسيستفيد منه بأقوال أئمة العترة وغيرهم بلا تحجر ولا تعصب بإلغاء أقوال أئمة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم من الأعلام. وإن كان يثقل عليه قال الإمام زيد بن علي قال الباقر قال الصادق قال الإمام القاسم بن ابراهيم قال الإمام الهادي إلى الحق عليهم السلام فلا كرامة له، ألا يعلم أنه ما تحصل على هذه الصفة إلا بتعب وأخذ ورد حتى تمت الموافقة عليه، والله الهادي إلى الصواب، وإليه المرجع والمآب.
صفحہ 4
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، المنزل في الذكر المبين ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ?.
والصلاة والسلام على رسوله الأمين القائل : (( من أراد الدنيا والآخرة فليؤم هذا البيت ، فما أتاه عبد يسأل الله دنيا إلا أعطاه الله منها، ولا يسأله آخرة إلا ادخر له الله منها. ألا أيها الناس، عليكم بالحج والعمرة فتابعوا بينهما، فإنهما يغسلان الذنوب كما يغسل الماء الدرن عن الثوب، وينفيان الفقر كما تنفي النار خبث الحديد ))، والقائل: ((لا تزال أمتي يكف عنها ما لم يظهروا خصالا عملا بالربا وإظهار الرشا وقطع الأرحام وقطع الصلاة في جماعة وترك هذا البيت أن يؤم، فإذا ترك هذا البيت أن يؤم لم يناظروا ))، والقائل:
((مرحبا بوفد الله ثلاثا، الذين إذا سألوا الله أعطاهم، ويخلف عليهم نفقاتهم في الدنيا، ويجعل لهم في الآخرة مكان كل درهم ألفا ))... الخبران مما رواهما الإمام زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام، وعلى آله أهل بيته وعترته الطاهرين، الذين خلفهم في أمته مع كتاب ربه كما تواتر في أخبار الثقلين، ورضوان الله على صحابته الراشدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد...
صفحہ 5
فيقول العبد المفتقر إلى ربه الملك المقتدر مجد الدين بن محمد بن منصور الحسني المؤيدي - غفر الله لهم وللمؤمنين - أنه كثر الطلب من جماعات من العلماء العاملين والإخوان المؤمنين لتأليف كتاب جامع في مذاهب أئمة العترة، مع الإشارة حسب الإمكان إلى مذاهب سائر علماء الأمة. والمعلوم أن المناسك كثيرة الأعداد، لكنهم لم يجدوا ما هو واف بالمراد، وما زالت الأسئلة تتوارد في كل عام ييسر الله سبحانه فيه الحج والاعتمار إلى حرم الله عز وجل والوصول إلى حرم رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. والله أسأل وبجلاله أتوسل أن يرزقنا اتباع هديه، واقتفاء آثاره، واقتباس أنواره، والفوز بشفاعته ومرافقته، فاستخرت الله تعالى وترجح الإسعاد وسيكون إن شاء الله تعالى على طريقة الإيجاز، مع استكمال المراد وذكر المختار، مؤيدا بالدليل فيما اختلفت فيه الأقاويل، وما أطلقته فهو المذهب المقرر. وأستغني بذلك عن العلامة المعروفة للتقرير، وقد كان افتتاح التأليف بالحرم الشريف ولله المنة، سائلا منه جل شأنه التوفيق إلى منهج الكتاب والسنة، ودفع كل فتنة، وكشف كل محنة، إنه قريب مجيب. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
.
صفحہ 6
حقيقة الحج لغة وشرعا
الحج لغة: في الأصل القصد، والغلبة بالحجة وكثرة الاختلاف والتردد، وفي العرف: قصد مكة المشرفة للنسك، وبالكسر الاسم، وهو في الشرع: عبادة مختصة بالبيت الحرام؛ تحريمها الإحرام، وتحليلها الرمي وطواف الزيارة والهدي، أو الصوم أو العمرة للمحصر ونحوها من المحللات، كما يأتي ذلك مفصلا إن شاء الله.
صفحہ 7
فصل في التخلص من الحقوق
يجب على كل مكلف التخلص من حقوق الله تعالى وحقوق عباده حسب الإمكان، وتقديم الأهم فالأهم وخصوصا القاصد للدخول في وفد الله وضيافته ليكون مقبولا وحجه مبرورا، ولا يغتر بالأماني الفارغة فإن الله عز سلطانه يقول: ? إنما يتقبل الله من المتقين ?، ويقول: ? ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ? رزقنا الله تعالى تقواه ووفقنا لما يحبه ويرضاه.
صفحہ 8
العمل عند الخروج
في العمل عند الخروج من المنزل؛ روى محمد بن منصور رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام قال: ((من السنة إذا أراد الرجل أن يسافر، صلى في بيته ركعتين قبل أن يخرج، وإذا قدم صلى.)) قال: (( فإذا توجهت فقل: بسم الله، وفي سبيل الله، وما شاء الله لا قوة إلا بالله على ما أستقبل من سفري هذا.)) انتهى. وأخرج أحمد بن حنبل عن علي عليه السلام قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا قال: اللهم بك أصول وبك أجول وبك أسير.)).
صفحہ 9
وأخرج الطبراني في الكبير عن فضالة بن عبيد قال: ((كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل منزلا في سفر أو دخل بيته لم يجلس حتى يركع ركعتين.)). وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يقول إذا سافر: ((اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل وأنت الحامل على الظهر وأنت المستعان على الأمر. اللهم أحسن لنا الصحابة واطو لنا الأرض وسهل لنا الطريق وهون علينا السير.)). وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الغرز وهو يريد السفر قال: ((بسم الله، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم اطو لنا الأرض وهون علينا السفر. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال.)). رواه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام. وروى محمد بن منصور بسند صحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال حين وضع رجله في الغرز: ((بسم الله )) فلما استوى على الدابة قال: ((الحمد لله الذي كرمنا، وحملنا في البر والبحر، ورزقنا من الطيبات، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا. سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.)). وقال: (( رب اغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.)). ومما صح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده، قال لما توجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فاستوى على راحلته قال: (( اللهم هذه حمولتك والوجه إليك والسعي إليك وقد اطلعت مني على ما لم يطلع عليه أحد من خلقك. اللهم اجعل سفري هذا كفارة لما كان قبله، واقض عني ما افترضت علي فيه، وكن عونا لي على ما شق علي فيه.)).
قلت: والركوب على الطائرة والسيارة أشبه بركوب الفلك فيقال فيها : ?بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ?؛ مع هذه الأدعية وغيرها والقصد الإشارة.
صفحہ 10
وتودع أهلك وجيرانك وإخوانك، فيقول المودع: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.))؛ وهذا مروي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وروي أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الوداع: ((زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت.)). ويقول المسافر: ((أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.))؛ وهذا مأثور. وتقول إذا مشيت: ((اللهم بك انتشرت، وعليك توكلت، وبك اعتصمت، وإليكتوجهت. اللهم أنت ثقتي، وأنت رجائي، فاكفني ما أهمني وما لم أهتم به وما أنت أعلم به مني، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك. اللهم زودني التقوى واغفر لي ذنبي ووجهني للخير أينما توجهت.)). وإذا أشرفت على قرية فقل ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: ((اللهم رب السموات وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت، ورب العرش العظيم. هذه كذا (اسم القرية) أسألك من خيرها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها. اللهم أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين.)). وتقول في المساء والصباح وإذا نزلت منزلا: ((أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق.)) ثلاثا؛ وتقول: ((اللهم إني أصبحت في ذمة منك وجوار، وأعوذ بك من شر خلقك يا عظيم.))، وتقول: ((أصبحت وأصبح الملك لله، وأعوذ بالذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر الشيطان وشركه.))، وفي المساء تقول: أمسيت.
وباب الأذكار والأوراد متسع المجال، ومن استكثر استكثر من خير، وفيها مؤلفات على الاستقلال.
صفحہ 11
كتاب الحج
وجوبه معلوم من الدين ضرورة، بل هو من الأركان الخمسة، وهو من الواجبات المقيدة بالاستطاعة. قال الإمام الأعظم زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام في قول الله عز وجل ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ?. قال عليه السلام: (( السبيل: الزاد والراحلة.)). والمراد بالزاد: ما يكفيه وعوله ذهابأ وإيابا، وأمن وصحة يستمسك معها قاعدا على تفصيل في ذلك. فعن الإمام القاسم والناصر والمرتضى ومالك: من قدر على المشي لزمه، لقوله تعالى ? يأتوك رجالا ?.
والأمن على النفس والمال والبضع شرط إجماعا؛ والمذهب، وهو قول القاسم والهادي والحنفية والشافعية، أنه شرط في الوجوب، كالزاد؛ وعند المؤيد بالله: لا، إذ فسر صلى الله عليه وآله وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة فقط. قلنا: والأمن مقيس عليهما. قلت: وهو من قياس الأولى.
والراحلة لمن كان على مسافة قصر، والزاد وكفايته وعوله حتى يرجع. أبو طالب: يكفي التكسب في الأوب، لا في الذهاب خشية الانقطاع، ولا ذا العول في ذلك. وهذا هو المراد بالقول: تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب، فأما الواجبات المطلقة فيجب تحصيل شروطها كالصلاة، وهذا هو المراد بالقول: ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه، وقد مثل لذلك بقوله: اصعد السطح إن كان السلم منصوبا فهذا في المقيد، وقوله: اصعد السطح فإنه يجب عليه تحصيل ما لا يتم الصعود إلا به.
وهو من فروض الأعيان المعينة لا الكفاية كصلاة الجنازة، ولا المخيرة مثل خصال الكفارة.
وهو من المؤقتة الفورية لا المطلقة ولا الموسعة على خلاف في ذلك.
صفحہ 12
باب في أركان الحج ومناسكه
أركانه ثلاثة:
الإحرام.
والوقوف.
وطواف الزيارة.
هذه الثلاثة لا يجبرها شيء، ويفوت الحج بفوات أحد الأولين.
صفحہ 13
فصل في مناسك الحج
ومناسكه اثنا عشر :
الثلاثة الأركان
الإحرام.
والوقوف.
وطواف الزيارة.
ووطواف القدوم
والسعي
والمبيت بمزدلفة
وجمع العشائين فيها
والدفع منها قبل الشروق
والمرور بالمشعر
والرمي
والمبيت بمنى
وطواف الوداع
صفحہ 14
فصل في النسك الأول: الإحرام
أول مناسك الحج الإحرام، وله في الشرع معنيان :
أحدهما الدخول في حرمة أمور بنية الحج أو العمرة، وهذا هو المراد بقولهم: لا ينعقد الإحرام إلا بنية. وحقيقته: الدخول في أحد النسكين أو كليهما أو ما يصلح لأحدهما. قوله: أحد النسكين، يدخل الإفراد والتمتع والعمرة المفردة. وقوله: أو كليهما، يدخل القران. وقوله: أو ما يصلح لأحدهما، المطلق. وهذا أوضح الحدود للإحرام وفي الفتح الذي يظهر أنه الصفة الحاصلة من تجرد وتلبية.
والثاني: النية المذكورة نفسها، وهو المراد بقولهم الإحرام أحد أركان الحج والعمرة.
صفحہ 15
فصل في زمان ومكان الإحرام
وللإحرام زمان ومكان.
أما زمانه فقال الله سبحانه: ? الحج أشهر معلومات ? وهن شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة. قال الإمام الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام: ((لا ينبغي لمسلم أن يخالف تأديب الله سبحانه وتأديب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في أن يهل بالحج في غير وقته...)) إلى قوله: (( بل يجب عليهم أن ينتظروه، فمن أحرم [ أي قبل وقته] فقد أخطأ وأساء وخالف أمر ربه وتعدى، ويجب عليه ما أوجب على نفسه.)).
مسألة مفيدة: قلت: وثبوت الحكم لا ينافي التحريم كالظهار، فإنه يقع ويثبت له حكمه بالإجماع للنص القرآني وكطلاق البدعة على الصحيح. وبهذا يتضح أن ليس معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد )) أنه لا حكم له، وللكلام على هذا مقام آخر.
نعم، والذي ذكره الإمام عليه السلام هو الذي يفيده الحصر في الآية الكريمة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (( ليس من السنة أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج.)). أخرجه في الجامع الكافي عن محمد بن منصور، وأخرجه البخاري تعليقا عن ابن عباس بلفظ: ((من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج.))، ووصله ابن خزيمة والدارقطني عنه بمعناه. وأما ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: ((تمام الحج والعمرة أن تحرم لهما من دويرة أهلك.)) فمحمول على من يمكنه في أشهر الحج. وقد حمله القاسم بن إبراهيم ومحمد بن منصور رضي الله عنهم على من كان من دون الميقات، روى ذلك في أمالي الإمام أحمد بن عيسى وفي الجامع الكافي (وهما المراد أينما أطلقت الأمالي والجامع)، وتأويل هذا ونحوه أولى من تأويل الآية كما لا يخفى على ذي بصيرة. وقد رويت روايات لا تقوى على معارضة الآية والأخبار الصريحة.
صفحہ 16
المواقيت
وأما مكانه: فالمواقيت وهي:
لأهل المدينة المطهرة: ذو الحليفة على ستة أميال منها، وعلى مائتين غير ميلين من مكة المشرفة، عشر مراحل. وبها مسجد معروف، ويقال لها أبيار علي عليه السلام. وقد أضجرت هذه النسبة بعضهم - وهو ابن تيمية - فأنكرها في منسكه زاعما أن أصلها دعوى أن أمير المؤمنين عليه السلام قاتل بها الجن، ونزهه من أن تثبت الجن لمقتالته، فجاء بما أعجب من الدعوى. وكم ينسب كثير من البقاع والبلدان ولم يتمحل لإبطالها مثل هذا التمحل. ثبتنا الله سبحانه على حب من حبه إيمان، ومن بغضه نفاق.
ولأهل الشام: الجحفة على اثنين وثمانين ميلا ست مراحل من مكة وعلى نحوها من المدينة. وبها غدير خم كما في النهاية وغيرها بإزاء رابغ.
ولأهل نجد: قرن المنازل على مرحلتين ويسمى الآن وادي السيل. ولما تحولت طريق السيارات صار أغلب من يرد الطائف يحرمون من وادي المحرم على التقدير. والراجح عندي الإحرام من الطائف احتياطا لمن لم يمر من قرن المنازل.
ولأهل اليمن: يلملم بفتح المثناة التحتية واللام وسكون الميم الأولى، على اثنين وثلاثين ميلا مرحلتين من مكة المشرفة، ويسمى الآن السعدية من طريق الساحل.
هذه المواقيت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلا خلاف، وقد صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم وقت لأهل العراق ( ذات عرق ) على مرحلتين.
والحرم: للحرمي، فإن أحرم من خارج الحرم فقيل يلزمه دم، والمذهب لا يلزم كمن قدم الإحرام.
صفحہ 17
وميقات من مسكنه خلف هذه المواقيت، أي بينها وبين الحرم، داره، أي موضعه، ولا يحرم من أقرب من داره إلى الحرم، فإن جاوز إلى الحرم بغير إحرام لزمه دم على المذهب. وكون هذه مواقيت من ذكر أفاده الخبر المتفق عليه عن ابن عباس رضى الله عنهما: ((ومن كان دونهن فمهله من أهله.))، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها. وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام: (( وميقات من كان دون المواقيت من أهله.)). وهذا قول القاسم بن إبراهيم وحفيده الهادي إلى الحق قال الإمام يحيى: وهذا رأي أئمة العترة؛ انتهى. وحكي عن أصحاب أبي حنيفة وأبي العباس أنه يحرم من حيث شاء إلى الحرم المحرم.
وهذه المواقيت لأهلها ولمن ورد عليها ولساكنيها كما ورد في الأخبار النبوية: (( هن مواقيت لأهلهن ولمن أتى عليهن غير أهلهن.)). أخرجه الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام، وهو في الخبر المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومن ورد بين هذه المواقيت فميقاته ما حاذى أدناها إليه عرضا، فإن كان لا يحاذي أحدها فعلى مسافة مرحلتين مسافة أقرب المواقيت إلى مكة المشرفة، يقدرها بغلبة الظن إن لم يمكن التحقيق.
تنبيه: معنى المحاذاة: وقيد المحاذاة بالعرض هو المعلوم. أما المقابلة طولا فكل ميقات له مقابل إلى منقطع الأرض. وقد غلط فيها كثير للجهل بمعناها.
ومن لزمه الحج وهو خلف المواقيت فميقاته موضعه؛ فإن كان بمكة أحرم منها، وإن كان بمنى أو نحوها استحب له من مكة إن كان لا يخشى فوات الوقت.
فائدة: يجوز لساكني هذه المواقيت الدخول إلى الحرم لا لنسك بغير إحرام اتفاقا.
تنبيه: ليس حكم الميل في هذه المواقيت حكمها، بل المعتبر الموضع المخصوص نفسه.
صفحہ 18
فائدة: هذه المواقيت للإحرام بالحج والعمرة، ويستثنى من ذلك إحرام العمرة لمن بالحرم، فإنه يلزمه الخروج إلى الحل وأقربه التنعيم، حيث أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن تخرج إليه عائشة للإحرام بالعمرة، فدل على تخصيص خبر المواقيت إذ ليس بنص في ميقات عمرة المكي، وإنما هو عموم مع رواية الإجماع على ذلك. وليس بعد بيانه صلى الله عليه وآله وسلم بيان، فلا معنى لما طول به ابن القيم وغيره من عدم لزوم ذلك، محتجا بأنه لم ينقل ذلك إلا عن عائشة. وما أحسن ما أجاب به عليه في فتح الباري حيث قال: وبعد أن فعلته بأمره صلى الله عليه وآله وسلم دل على مشروعيته. والعجب من قول الأمير في المنحة: إنه بدعة، أي الخروج من الحرم. فيقال له: إن لم يكن أمره صلى الله عليه وآله وسلم سنة، فما هي السنة؟
نعم، فإن كان خلف المواقيت فميقاته داره، أي موضعه إن كان في الحل، وإلا وجب أن يخرج إليه. فإن أحرم بالعمرة من الحرم لزمه دم.
صفحہ 19
فصل في حكم مجاوزة الميقات إلى الحرم المحرم
وتحرم مجاوزة الميقات إلى الحرم المحرم إلا بإحرام على الآفاقي، الحر، المسلم، المكلف، المختار، غالبا.
قوله: إلى الحرم، احتراز من أن يجاوزه غير قاصد للحرم أو مترددا في دخول الحرم، فلا يلزمه الإحرام إلا إذا عزم على الدخول لأحد النسكين، أحرم من موضعه كمن ميقاته داره.
فائدة: من جاوز الميقات مريدا لدخول الحرم بعد إقامته مدة وإن طالت، لزمه الإحرام على المذهب. ورجح الإمام المهدي والفقيه حسن عدمه.
وقوله: الآفاقي، احتراز ممن ميقاته داره، إلا أن يقصد أحد النسكين، أو يأتي من خارج الميقات قاصدا لمكة.
وقوله: الحر، احتراز من العبد ولو مكاتبا أو موقوفا.
وقوله: المسلم، احتراز من الكافر، فلا يصح منه الإحرام ولا يلزمه دم، خلافا للشافعي. ومن جاوز الميقات ثم أسلم أو عتق، أحرم من موضعه إجماعا.
وقوله: المختار، احتراز من المكره، ومن حصلت المجاوزة به وهو نايم أو مغمى عليه أو مجنون، فإنه بعد عود عقله لا يلزمه الإحرام، بل يجوز له دخول الحرم لا لنسك بغير إحرام. فأما السكران فهو لازم له، وكذا من جاوزه ناسيا أو ظانا أن الميقات أمامه فيلزمه على المذهب.
وقوله: غالبا، احتراز من ثلاثة المرخص لهم بلا إحرام:
الأول: من عليه طواف الزيارة أو سعي العمرة أو بعضهما، أو الحلق أو التقصير في العمرة، فيجوز له الدخول بلا إحرام ولو قد طاف جنبا أو حايضا فيجوز له قبل اللحوق بأهله.
الثاني: الإمام وجنده، أو من يقوم مقامه إذا دخلوا لحرب الكفار أو البغاة.
الثالث: الدائم على الدخول والخروج كالحطاب والحشاش والسقاء، فلا يلزمهم إجماعا. واختلف في تفسير الدايم، فقال في الانتصار: من يدخل في الشهر مرة؛ وقال الإمام أحمد بن الحسين: في العشر مرة؛ والمذهب: ما يسمى دايما عرفا، وتثبت العادة بمرتين فيلزم الإحرام أول مرة.
صفحہ 20