فقال لي مسلم: قبحك لله ما هذه المعاشرة! فاستيقظت لغفلتي وحلفت أنني لم أقل ما قلته عن نية فيه ولا عزمٍ عليه، إلا بحسب ما اتفق لي وعرض على قلبي، وخفت بادرة شره، فكفي الله تعالى وأمسك عني.
٤ - وكان عبد الله بن حسن بن حسن يساير أبا العباس السفاح يومًا بظهر مدينة الأنبار، وهو ينظر إلى مدينته التي بناها هناك، ويريه أبنيته فيها، ويعجبه بها، فأنشد عبد الله:
ألم تر مالكًا أضحى يبني ... بناءً نفعهُ لبني بقيلهْ
يؤمل أن يعمَّر عمرَ نوحٍ ... وأمرُ الله يأتي كلَّ ليلهْ
فتبسم السفاح كالمغضب وقال: لو علمنا لاشترطنا حسن المسايرة، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، بوادر الخاطر وإغفال المشايخ فقال: صدقت، خذني في غير هذا، وأنشد السفاح:
أريدُ حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ
٥ - وذكروا المدائني أن عيسى بن موسى بيننا هو يساير أبا مسلم يوم إدخاله على المنصور ووقوع الفتك به فيه إذا أنشد عيسى ابن موسى:
سيأتيك ما أفنى القرونَ التي مضتْ ... وما حلَّ في أكبادِ عادٍ وجرهم
من كان آبى منكَ عزًَّا ومفخرًا ... وأنهدَ للجيشِ اللهام العرمرم
فقال أبو مسلم: هذا مع الأمان الذي أعطيت، فقال عيسى: أعتقت ما أملك إن كان هذا الشيء من أمرك أضمرته، أو في الفك أجلته، بل خاطر أبداه لساني قال له: بئس الخاطر واله أبدى! ودخل على المنصور فأتاه ما أتى.
٦ - وحكى إبراهيم بن المهدي قال: لما اشتد حصار طاهرين الحسين للأمين أبي عبد الله خرج ذات ليلة من قصر الذهب إلى قصر القرا بقرب الصراة ووجه إلي فجئته فقال (لي): أما ترى طيب هذه لليل وحسن القمر وضوءه في دجلة والصراة؟ فقلت: إن الموضع لحسن فاشرب، فشرب رطلًا وسقاني رطلًا، وابتدأتن فغنيت بما يشتهيه علي، فقال لي: هل لك فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أستغني عن ذلك؟ فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها، وقال لها: غني، فغنت بشعر النابغة:
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصرًا ... وأيسر جرمًا منكَ ضرِّجَ بالدمِ
فاشتد ذلك عليه وعلي، ثم قال لها: غني غير هذا! فغنت:
أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرُّق للأحبابِ بكاءُ
ما زال يعدو عليهم ريبُ دهرهمُ ... حتى تفانوا وريبُ الدهرِ عدَّاِءِ
فقال لها: لعنك الله، أما تعرفين غير هذا؟ فقالت: ما تغنيت إلا بما كنت تقترحه علي وتستدعي مني ثم غنت:
أما وربَّ سكونِ والحركِ ... إنَّ المنايا كثيرةُ الشركِ
ما اختلف الليلُ والنهارُ ولا ... دارتْ نجومُ السماءِ في الفلك
إلاَّ لنقل السلطانِ من ملك ... عانٍ بحبِّ الدنيا إلى ملك
وملكُ ذي العرش دائمٌ أبدًا ... ليس بفانٍ ولا بمشركِ
فقال لها قومي غضب الله عليك ولعنك! فنهضت وعثرت بقدح بلور حسن الصنعة فكسرته، فقال لي أما ترى! أظن أمري قد قرب، فقلت: بل يبقيك الله تعالى طويلًا، فسمعنا قائلًا يقول: "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" فقال لي: أما سمعت يا إبراهيم؟ فقلت: ما سمعت شيئًا وكنت قد سمعت، فلما كان بعد أيام (قلائل) قتل!.
٧ - وحكى الصولي قال: أمر الأمين أن يفرش له بساط على دكان في الخلد أيام الفتنة، فبسط وطرح عليه نمارق، وملئ من آنية الذهب المرصعة بالجوهر ومشام، المسك والعنبر بما ملأه، وبين يديه عشر مغنيات، فابتدأت واحدة منهن فغنت بشعر الوليد بن عقبة في عثمان ﵀:
همُ قتلوه كي يكونوا مكانهُ ... كما غدرتْ يومًا بكسرى مرازبهُ
فإلا يكونوا قاتليه فإنه ... سواءٌ علينا ممسكاه وضاربه
فتأفف ولعنها، وقال الأخرى: غني، فغنت:
من كان مسرورًا بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجهِ نهارِ
يجدِ النساءَ حواسرًا يندبنُ ... بالليلِ قبلَ تبلجَ الأسحارِ
فزاد ضجره، ولعنها، وقل الأخرى: غني، فغنت:
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصرًا ... وأيسرُ جرمًا منكَ ضرج بالدمِ
فنهض، وأمر بنقض الدكان تطيرًا بما جرى.
1 / 2