وثمل بالسعادة يوما. وتتابعت الأيام. ماذا بعد ذلك؟ هل يبتلع الصمت كل شيء؟ لا شيء يحدث. النار المقدسة مشتعلة في صدره. ومقام الحسين يشهد مناجاته الطويلة. الطريق طويلة ولا خطوة واحدة تبشر بالضياء. وقد انتهى من الدراسة. أما اغترافه من بحر الثقافة فلا يتوقف أبدا. إنه يشبع بها أشواقه إلى المعرفة ويكمل بها ذاته لتكون أهلا للمركز الذي سيشغله يوما بإذن الله وفضله. ويتسلح بها في نضاله الطويل المرير في الغابة الرسمية التي يطالب فيها كل ذي شأن بقرابينه. إنه لا يملك سحر المال، ولا يتمتع بامتيازات الأسر الكبيرة. ولا قوة حزبية تسنده، وليس من الذين يرتضون أن يلعبوا دور البهلوان أو العبد أو القواد، إنه واحد من أبناء الشعب التعيس الذي عليه أن يتزود بكل سلاح، ويتحين كل فرصة، ويتوكل على الله، ويستلهم حكمته الأبدية التي قضت على الإنسان بالسقوط في الأرض ليرتفع بعرقه ودمه مرة أخرى إلى السماء.
ومن خلال تتابع الأيام في مجراها الأبدي خلت درجة سابعة بالمحفوظات بنقل شاغلها إلى وزارة أخرى. وقال له سعفان بسيوني: رشحتك للدرجة الخالية فلا يوجد في المحفوظات من هو أحق بها منك ..
فشد على يده بامتنان وهو يود أن يقبله فقال الكهل: سبعة أعوام مضت عليك في الثامنة، وقد حصلت في أثنائها على ليسانس الحقوق، وأثبت بجدارة كفاءة لا نظير لها ..
وضحك الكهل كاشفا عن أسنانه السود المثرمة وقال: وهي مضمونة لك إن شاء الله فلا رغبة لأهل الوساطات في وظيفة بإدارة تسكنها الثعابين والحشرات ..
وطال الانتظار ومضت الأيام. وقال لنفسه: ها هي سبعة أعوام تمر في درجة واحدة فيلزمني على هذا القياس أربعة وستون عاما حتى أبلغ الأمل المنشود. المدير العام الذي أشعل النار المقدسة في قلبه. لم تقع عليه عيناه منذ مثل بين يديه ضمن المستجدين. وإن متعة نفسه أن يقف في جانب من الميدان يراقب موكبه وهو يغادر الوزارة في أبهة الملك وقدسيته. هذا هو غاية الحياة ومعناها وجلالها.
واستفحل العمل في الإدارة أيام إعداد الميزانية فاحتاج مدير الإدارة إلى موظفين إضافيين في الأقسام التابعة له فندب عثمان للعمل عن المحفوظات. سر بذلك وقال إنها فرصته. وتوثب للعمل بهمة هائلة، عمل مع المراجعين كما عمل مع وكيلي الإدارة، وشهد اجتماعات مع مدير الإدارة نفسه. انفجر كبركان وكأنما كان ينتظر هذه الفرصة منذ اشتعل قلبه بالطموح المقدس. ولم يتردد فوضع نفسه تحت تصرف السادة الرؤساء من مطلع الصباح حتى منتصف الليل. في الظروف الدقيقة الحرجة ينسى كل شيء في الحكومة إلا الكفاءة الحقة. والميزانية عمل خطير يتصل بالمدير العام ووكيل الوزارة والوزير ومجلس الوزراء والبرلمان والصحافة، فلا مجال في أيامها المشحونة بالإرهاق لصاحب امتياز، ولكن يفرض الانتخاب الطبيعي نفسه ويتقدم الأكفاء ويعترف بالقيمة الذاتية حتى ولو لم يقدر لها حسن الجزاء. وقد لفت عثمان إليه الانتباه وحاز الثقة الكاملة، وتجلت قدرته الخارقة على العمل، كما تجلت درايته باللوائح والقانون. ولم يقنع بما أحرز من نجاح فتطوع سرا لكتابة مشروع بيان الميزانية الذي يكتبه عادة مدير الإدارة بنفسه. وهيأ له العمل فرصة الانفراد بمدير الإدارة حمزة السويفي فلما فرغ من عرض أوراقه قال له بأدبه الجم: سيدي المدير، اسمح لي أن أقدم لكم بعض الملاحظات التي قيدتها أثناء العمل لعلها تنفع عند النظر في تحرير بيان الميزانية!
فنظر إليه حمزة البسيوني باستخفاف مشوب بالعطف وقال: أنت شاب ممتاز كما يقال عنك .. - أستغفر الله يا افندم. - على فكرة، مبارك؛ فقد تمت اليوم الموافقة على ترقيتك إلى السابعة ..
تمتع عثمان بلحظة انتصار سعيدة فقال بامتنان: بفضل الله وفضلكم!
فقال مدير الإدارة مبتسما: مبارك، أما بيان الميزانية فشيء آخر!
فقال باستماتة: عظم الله قدرك، لا جرأة لي على الاقتراب من بيان الميزانية، ولكن عنت لي ملاحظات في أثناء العمل، ملاحظات مجتهد درس القانون والمالية، فطمع أن تكون في الخدمة عندما تحتشدون لوضع البيان الخطير.
نامعلوم صفحہ