وأخيرا جدا نصل إلى بيت المتوفى، وقبل أن نصله يستميت عم محمد وهو يأخذ ثوبه في أسنانه ويضاعف من جريه ليسبقني ويوسع السكة.
وما أكاد أضع قدمي على الباب حتى تدوي عدة أصوات ينخلع لها قلبي، ثم يرتفع تعديد: «جالك الحكيم يا ضنايا!» وكأن القادم هو عزرائيل! ولكن عم محمد لا يأخذ باله من هذا، يرتفع صوته صارخا على ضعفه: «وسعي يا بنت انتي وهيه! اتفضل يا بيه، ياللا بلاش لكاعة! يا خويا النسوان الكتيرة دي بتيجي من أنهي داهية؟! اتفضل يا بيه.»
وتتسلل أكوام السواد والملاءات التي كانت تملأ حجرة البيت، تتسلل إلى اليمين وإلى اليسار تنقب في وجه الحكيم وتتأمله وتعلق.
ولا بد أن تأتي اللحظة التي تخلو فيها حجرة المتوفى، ولا يبقى معه سوى القريب القريب وعم محمد وأنا.
فيندفع عم محمد وهو لا يزال يلهث من المشوار والجري ويكشف عن الميت غطاءه، ويقول وكأنه يريد أن يثبت لي براءته وأنه كان على حق في أن الوفاة طبيعية: «أهه يا بيه، زي الفل أهه، والله، ما فيه جنس حاجة، أدي صدره أهه، وأدي بطنه، وأدي بقه أهه، نضيف زي الصيني بعد غسيله، وأدي شعره أهه.»
ويجذب عم محمد شعر الميت ليريني أنه لم يمت مسموما، وإلا لتساقط الشعر في يده، يجذب الشعر بقوة وعصبية فهو يريد أن يخلص، والظهر اقترب، ويقول له أهل المتوفى: «حاسب!» فيقول: «حاضر، أحاسب غصب عن عين أبويا أحاسب! وأدي الرجلين يا سعادة البيه.»
ويرفع ساقي الميت ويقول: «والله، ما في إلا شيخوخة بدون جنون، وأدي ضهره.»
ويحاول عم محمد أن يقلب الميت لأرى ظهره، ويستعين بالسيدة والحسين وكل الأولياء، ولكنه لا يستطيع، فيكش فيه المعلم ويهب قائلا: «إوع يا شيخ! جك تربة تلمك.»
ولكن عم محمد لا يتنحى، بل يظل في مكانه يساعد معلمه في قلب الميت ولو برفع ساق أو عدل يد.
وحين ينتهي الكشف ونخرج تبقى أنظار عم محمد معلقة بملامحي وكأنه ينتظر نتيجة امتحان، ولا يتنفس الصعداء إلا حين أمضي التصريح فيأخذه وكأنه نعمة هبطت لتوها من السماء، ويعض على نواجذه وتتسع عيناه وكأنه يبتسم ويقول: «مش برضه شيخوخة بدون جنون يا بيه؟! مش قلتلك؟! أنا كنت بس عامل على تعبك.»
نامعلوم صفحہ