أيضا فإن راضية غضبت من تعالي عفت واستسلام عامر رغم صداقتها الوطيدة مع فريدة هانم، ورغم إعجابها بجمال عفت، وقالت لابنها: الرجل يجب أن يكون سيدا في بيته.
وقالت لعمرو: عفت تتوهم أنها أميرة.
فقال لها الرجل: لا تحرضي على ما يفسد سعادته.
واقتنعت بذلك آخر الأمر، خاصة بعد أن أنجبت عفت شاكر وقدري وفايد الذين أحبتهم راضية بمجامع قلبها. واستوعب الحب المكين كافة التناقضات، واستوت زيجة عامر وعفت مثلا نادرا في الزيجات الموفقة. زواج لم يعرف الملل أو الانتكاس أو الفكر وأثار الغيرة والحسد، قال حامد عنه: سر سعادة أخي أنه ذاب في إرادة زوجته، يا له من ثمن.
وعلى عادة سرور أفندي في النقد المر قال يوما لزينب زوجته: لقد تزوج حامد برجل كما تزوجت عفت بامرأة.
ووفق عامر في حياته المهنية توفيقه في حياته الزوجية، فكان من أحب المعلمين إلى تلاميذه وأعظمهم تأثيرا فيهم، ومن القلة التي تعيش ذكراها مع الأجيال التي تربيها حتى آخر العمر. وقد انتفع بذلك في زيادة إيراده بفضل الدروس الخصوصية، وفي تذليل كثير من الصعوبات بفضل ذوي النفوذ من تلاميذه السابقين، أما أعلى درجة سجلها حظه فقد حدثت بعد قيام ثورة يوليو ووجدان اثنين من تلاميذه في مجلس قيادة ثورتها. أما عفت فقد مقتت الثورة لإلغائها باشوية شقيقها ولم تغفر لها استهانتها بالمهن الرفيعة كالطب والقضاء، ولكن عامر شعر بأنه - بفضل تلميذيه - من رجالها رغم وفديته المكبوتة بين جدران آل داود. ولم تكن سعادة عامر بأبنائه دون سعادته بزواجه. لتفوقهم ونجاحهم، ولكنهم أحدثوا له ولأمهم متاعب، لم تجر لهم على بال، سواء كان ذلك بسبب السلوك الشخصي أم بسبب السياسة، ثم عرف كل أمر مستقره، واستقبل عامر حياة معاش امتد ربع قرن في بيت صار مثالا لرفقة الشيخوخة كما كان مثالا لسعادة الحب. وحافظ الرجل على صحته وحيويته، يقرأ الصحف والمجلات، ويسمع الأغاني، ويشاهد التلفزيون، ولتفوقه في الصحة وتدهور زوجته راح يقدم لها الخدمات ويشرف بنفسه على الخادم والطاهية، ويلاعب الأحفاد، أو يخزه الحنين فيمضي مع أحد أبنائه في سيارته إلى الحي العتيق، فيزور البيت القديم حيث يقيم قاسم، ويصلي في الحسين، ويجلس ساعة في الفيشاوي، ويتناول غداءه عند الدهان، ثم يرجع إلى بين الجناين منتشيا مغرد الروح. وعاش حتى قارب التسعين، فطرب لأمجاد يوليو، وانكوى بخمسة يونيو، وأفاق في 15 مايو، وطرب مرة أخرى في 6 أكتوبر المجلجلة، وانقبض في 6 أكتوبر الدامية، وفارق الدنيا بهدوء يغبط عليه كختام حسن. استيقظ صباحا في ميعاده، مضى إلى المطبخ ليعد الشاي لنفسه ولعفت، وعاد به ليحسواه في الفراش ولما فرغ من قدحه قال: قلبي ليس على ما يرام .
واستلقى على ظهره ليستريح، وسرعان ما مال رأسه على الوسادة وكأنما قد غفا.
عبد العظيم داود يزيد
الابن الوحيد الذي بقي من ذرية داود باشا وسنية الوراق، نشأ في بيت السيدة، وتلقى تربية رفيعة من أم هانم وأب يعتبر من الرجال المعدودين في عصره. ومنذ صغره خالط أهله في الحي العتيق، وأحب بصفة خاصة ابن عمه عمرو، ولكنه خالط أيضا نوعا آخر من البشر هم الأجانب من أقران أبيه الذين كثيرا ما تناولوا عشاءهم على مائدته وتبادلوا الأنخاب. تقلب بين التراث والمعاصرة ولكن الدين لم يلعب في حياته عشر معشار دوره في حياة صديق روحه عمرو. وكان نحيلا أسمر وسيم الطلعة كبير الرأس راجح العقل كبير الطموح. وشق طريقه الدراسي بتفوق ثم التحق بكلية الحقوق. كان أمل أبيه أن يجعل منه طبيبا ولكنه عشق البلاغة والآداب وتخصص في القانون المناسب لأمثاله من أبناء الكبراء. وتعين في النيابة دون حاجة إلى وساطة أبيه العظيم، واستحق من أول يوم احترام رؤسائه وخاصة الإنجليز. ولعله أول من اختار زوجة برؤية عينيه في أسرته. لمح فريدة في حنطور الأسرة، فسره لونها الأبيض وقسماتها الأنيقة، ثم عرف اسم الأسرة. وذهبت سنية الوراق وراضية ورشوانة لزيارة الأسرة الكريمة، ورفع التقرير عنها. وكان حسام تاجر حرير سوريا وذا مال، وزفت إليه فريدة في فيلا شارع السرايات مصطحبة معها جمالا جديدا ومالا واستعدادا طيبا للمعاشرة الزوجية. وأنجبت له مع الأيام لطفي وغسان وحليم وفهيمة وعفت. وكان عبد العظيم ممتازا في عمله وذا اهتمام بالسياسة. وكان من أنصار حزب الأمة، وصديقا لبعض رجاله المبرزين وممن يؤمنون بتهريج الحزب الوطني. وتوهج فؤاده بالحماس لثورة 1919، ولكن ما إن انقسمت الجبهة حتى مال بعقله وقلبه إلى عدلي يكن وصحبه. وكان يرمق انزعاج ابن عمه عمرو مقهقها ويقول: سحرك المهرج الكبير.
فيقول عمرو: إنه زعيم الأمة وأملها.
نامعلوم صفحہ