قيل عنها بحق: نحلة آل عمرو. كالآخرين ولدت ونشأت في البيت القديم بميدان بيت القاضي، بلون ضارب لسمرة أعمق، وقامة أميل للقصر، وجسم نحيل حسن التكوين، وقسمات مقبولة، استقبلت بفرحة يشوبها فتور إذ انعقد الأمل بمولد ولد، ولكنها بحكم سنها مارست الأمومة لإخوتها وأخواتها منذ الصبا. وكانت نجية أمها ووريثة تراثها، ولم تخل أيضا من قدر من الدين الصحيح. أما براعتها في فنون البيت من طهي وتنظيف وشغل الإبرة فكان مضرب الأمثال، وتعلمت في الكتاب أشياء وفكت الخط ولو أنها ردت إلى الأمية لعدم الاستعمال. ولم تكن تكف عن العمل ولا عن الغناء رغم أنها لم ترزق أي ميزة في حنجرتها، ترى في المطبخ مساعدة لأمها أو حالة محلها، أو جالسة إلى ماكينة الخياطة، أو فوق السطح تتفقد أحوال الدجاج والأرانب. وعندما اكتظ البيت بعامر ومطرية وسميرة وحبيبة وحامد وقاسم، لعبت دور نائبة الأم وأسهمت في اللعب والسرور والصراخ والعراك وتفوقت في كل. وقد اكتسبت منزلة لم يشاركها فيها أحد، وحافظت عليها حتى آخر العمر، وقاسمت الجميع همومهم رغم ثقل همومها، وآمنت بأمها واعتبرتها من صاحبات الكرامات. وما كادت تبلغ الخامسة عشرة حتى تقدم لطلب يدها صعيدي من الأعيان يدعى حمادة القناوي فتحقق الحلم الذي راودها منذ جاوزت العاشرة! وكان ذهابها يمثل أول فراق في الأسرة وأول فرح لها. وكان حمادة من معارف عمرو، وكان من عشاق القاهرة فأقام بها مع أمه - عقب وفاة أبيه - مؤجرا أرضه البالغة ثلاثين فدانا لعمه في قنا. وقد زارت رشوانة وراضية وزينب حرم سرور بيت الرجل بدرب القزازين، وقالت رشوانة لأخيها عمرو: أم حمادة امرأة تقية لا تفوتها فريضة.
وفي مجلس ببيت عمرو جمع بينه وبين سرور ومحمود بك عطا قال سرور أفندي: العريس عاطل لا عمل له وهذا شيء رديء.
فقال عمرو: إنه يملك ثلاثين فدانا.
فقال سرور بغروره الخاوي: ولو ... إنه لا يكاد يفك الخط.
فقال محمود عطا: قيمة الرجل في ماله.
وقال عمرو: وأسرته محافظة طيبة.
وارتاحت صدرية إلى منظره ذي الطول والقوة، وأناقة جبته وقفطانه، ورجولة ملامحه، كما تراءى لها من وراء خصاص المشربية. وزفت إليه في بيت اكتراه في خان جعفر من أملاك الدهل الحلواني. وقد أهداها محمود عطا حجرة الاستقبال كما أهداها أحمد بك عطا حليا وثيابا، وأهداها عبد العظيم داود ثوب العرس. وبدأت صدرية حياتها الزوجية مع حمادة القناوي معتمدة على وصايا أمها وبركاتها ومهارتها الفائقة كست بيت. وكان حمادة مشكلة متعددة الأطراف. أجل تبادلا استجابة مفعمة بالمودة، وشعر كلاهما بأنه في حاجة متينة إلى الآخر، ولكن صدرية كانت ذات حساسية وحدة في الطبع والعناد لا يستهان به، وكان الرجل ثرثارا ضيق الذهن محبا للفخر والسيطرة، وهيأ له فراغه غير المحدود التدخل فيما يعنيه وما لا يعنيه. لم تعتد أن رجلا يغط في نومه حتى الضحى، ويستيقظ فيوقف نشاطها المنزلي ليحدثها حديثا لا أول له ولا آخر عن أسرته وأمجادها وأمجاده هو الخيالية، ويلاحقها بملاحظاته الغبية عن عملها الذي لا يفقه فيه شيئا. ولم يكن يعرف من دينه إلا اسمه، فلا يصلي ولا يصوم، ولا تكاد تمضي ليلة دون أن يسهر في البارزيانا فيشرب النبيذ ويتعشى بالمزة. لم يكفا عن الزوجية والإنجاب؛ فأنجبت له «نهاد وعقل ووردة ودلال» ولم ينقطعا عن الجدل العقيم، فيفاخر بأسرته من الملاك، وتساق إلى المفاخرة بآل عطا وداود والشيخ معاوية بطل الثورة العرابية، وأحيانا تحتد المناقشة فيتبادلان أقسى الكلمات.
وكانت صدرية حريصة على كتم بخار حلتها تحت غطائها المحكم، وعلى حل مشاكلها بنفسها دون إشراك أهلها فيها. ولكن راضية كانت تفطن إلى أشياء بوحي غريزتها، وأيضا بما لمسته في الرجل من ثرثرة موجعة للرأس. وقالت لابنتها: الزوجة يجب أن تكون طبيبة!
فقالت صدرية: عليك بزيارة الأضرحة المفيدة لهذه الحال.
فقالت راضية: وما جدوى زيارة الأضرحة في هذه الحال؟ ... العلاج الناجع في قطع لسانه!
نامعلوم صفحہ