حسن السمعة؟! كان يعبر فترة من الحياة يتساءل فيها عن معنى كل شيء حتى حسن السمعة! وكان كلما خلا إلى نفسه طرح هذا السؤال: من أنا؟! كان ظمؤه إلى تحديد علاقته بالكون جنونيا مضنيا. وكان لا يكف عن مناقشة الجميع، خاصة من يأنس فيهم ميلا للمناقشة، كابن خالته حكيم، وغيره من شباب آل المراكيبي وآل داود وآل سرور. وتجرأ بعد ذلك على مقابلة طه حسين والعقاد والمازني وهيكل وسلامة موسى والشيخ مصطفى عبد الرازق، ولم يكن الدين موضع رفضه ولكنه أراد أن يعتمد على عقله حتى آخر المدى، وكل يوم كان له شأن. حتى خاله قاسم كان يحاوره ويناجيه، وحتى الثاوون في مقابرهم من أهله كان يسائلهم في مواسم القرافة. ولما حمل جده عمرو إلى فراشه وهو يودع الحياة، جيء بممرضة تدعى سهير لتحقنه، فأعجب بها شاذلي رغم تسلط الحزن. وراح يساعدها في تسخين الماء تحت مراقبة خفية من عيني عفت زوجة خاله عامر اللتين ندت عنهما نظرة خبيثة ماكرة. وتوطدت علاقة حب بين الاثنين قبل حلول الأربعين. وتبين له أنه جاد هذه المرة أكثر مما تصور، فأعلن رغبته في الزواج منها، وصارحته مطرية قائلة: لك وجه جميل وذوق رديء!
وكان يرد على العتاب بالضحك. وقالت مطرية: أصلها واطي، وجمالها مبتذل.
فقال لها: استعدي للفرح.
وسلم محمد إبراهيم بالأمر الواقع دون اكتراث، ولم تفكر مطرية في إغضاب ابنها أكثر مما قالت، واختار شاذلي شقة في عمارة جديدة بشارع أبو خوده واستقبل حياة الحب والزوجية. واستقالت سهير من عملها وتفرغت لحياتها الزوجية، وأثبتت أنها فتاة لبقة وطيبة، وسرعان ما حازت رضا حماتها. وكان شاذلي سيئ الحظ في ذريته، توفي له خمسة في سن الرضاعة، وعاش محمد وحده، وصار ضابطا في الجيش، ولكنه استشهد في الاعتداء الثلاثي، وعاش شاذلي حياته منقبا عن ذاته، يقرأ ويناقش ويتساءل ثم يصطدم بجدار اللاأدرية فيبدأ الشوط من جديد. ولم يهتم بالسياسة إلا باعتبارها حوادث تدعو للتأمل والمعرفة، فلم يقع تحت سحر الوفد، وتابع تقلبات ثورة يوليو كما يتابع فيلما سينمائيا مثيرا، ولكنه حزن على ضياع محمد حزنا لم يبرأ منه طيلة عمره. وقال مرة لشقيقته أمانة: كلانا لم يخلق للسعادة الصافية.
ووجد شيئا من العزاء في حب ذريتها، أما سليم ابن خالته وزوج هدية بنت أخته فكان يخيفه بصرامته وحدته. لم يجد في حواره متاعا ولا لذة.
وقال له سليم: حيرتك مستوردة ولا يجوز لمسلم أن يقع فيها.
وظل على وده لقاسم رغم ما طرأ عليه، وكان يصطحبه أحيانا إلى الكلوب المصري حيث تنهمر عليهما ذكريات الآباء والأجداد، وكمعلم راح يراقب الأجيال المتعاقبة بذهول، وقال مرة يحادث نفسه: لا أحد يشغل باله إلا بلقمة العيش والهجرة، فما جدوى العذاب؟!
شاكر عامر عمرو
ولد ونشأ في «بين الجناين» وهو شارع تقوم على جانبيه بيوت حديثة، وتمتد شرقيه وغربيه الحقول المزروعة بالخضراوات وأشجار الحناء. وهو بكري عامر وعفت وحفيد عمرو أفندي من ناحية، وعبد العظيم باشا داود من ناحية أخرى. وكان دخل أبيه من مرتبه ودروسه الخصوصية، بالإضافة إلى ملكية أمه للبيت الصغير الأنيق ذي الحديقة الخلفية بتكعيبة العنب وشجرة الجوافة وشجيرات القرنفل، كل أولئك هيأ معيشة حسنة المستوى للأسرة، كما وفر لشاكر البكري مظهرا جميلا وتدليلا لا يفتقر للإرشاد القويم. وبالرغم من تفوقه الرياضي شق طريقه في المدارس بنجاح. ولما لحق به في الوجود أخواه قدري وفايد لعبت الغيرة دورها بين الإخوة، ولم تخل من معارك، ونزاع مع الوالدين، ولكنها اعتبرت رغم ذلك أسرة متماسكة يغلب عليها الوفاق. وكان للحب المتبادل بين الزوجين نفحاته الزكية في إضفاء جو السلام ونشر المحبة، وبقدر ما تجلى الأب صديقا أبدت الأم محاولاتها في التسلط. وأحب شاكر جده عمرو وجدته راضية وتظاهر دائما باحترام غيبياتها، كما أحب جده عبد العظيم باشا وجدته فريدة هانم حسام. وتلقى عن آل داود احتقارهم التقليدي لآل المراكيبي الذي اشتد بعد أن صارت شكيرة سلفة لعفت أم شاكر. ونشأ شاكر، وانتماؤه لأسرته وذاته يغلب فيه أي انتماء لوطن أو لحزب من الأحزاب. ورث ذلك عن أمه التي كانت غير منتمية بحكم تربيتها وإن أعلنت في المناسبات ولاءها للعدليين متابعة لأبيها، أما الأب فلم يعد له من وفديته القديمة - في بيت الزوجية - إلا عاطفة باهتة أخفاها في أعماقه فلم يمتد تأثيرها إلى أولاده، والتحق شاكر بكلية الطب، وخاض أول تجربة عاطفية جادة في حياته بحبه صفاء بنت عمته سميرة. وكانت لهما قصة ترامت أنباؤها إلى عفت أمه فجن جنونها. لم يكن في صفاء ما يعيب، فهي جميلة وطالبة في الآداب، وقريبته. ولكن عفت، رغم علاقتها الطيبة بآل عمرو ابن عم أبيها، إلا أنها كانت تراهم دون مستواهم، وأن عروس ابنها يجب أن تكون من درجة أعلى بمراحل. وثار غضبها ولم تخفه، وعلمت به سميرة وآل عمرو، وأحدث ما أحدث من استياء، وفي الوقت نفسه لم يبد شاكر مقاومة جدية لأمه. فنصحت سميرة ابنتها صفاء بقطع علاقتها بابن خالها. وغضبت الفتاة لكرامة أسرتها وقطعت العلاقة بعد اقتناع بعدم جدية شاكر، لم يخرج شاكر من تلك التجربة مهيض الجناح ولكنه لم يخل من حنق على أمه. وقد تخرج طبيبا، وبفضل خاله الدكتور لطفي باشا عبد العظيم عين في وظيفة بالمعامل بوزارة الصحة، ثم أمكنه فتح عيادة خاصة لأمراض الدم بعد بضع سنين. وراحت أمه ترسم خطة لتحقق حلم الزواج الجدير به في نظرها. وكان هو يتردد على ملاهي الهرم القديمة فأحب راقصة هنغارية، واكترى لها شقة في الهرم، وتحولت العلاقة إلى حب حقيقي فتزوج منها سرا، ولم يجرؤ على مكاشفة أمه بالحقيقة ولكنه كاشف بها أباه. وصعقت عفت، وثارت ثورة علم بها القاصي والداني وكثر الشامتون. وانتقل الدكتور إلى مأواه الجديد وأنذر الحال بالانفصال الكلي عن أسرته. وقالت راضية لعفت: لا يجوز أن تخسري ابنك والزواج في النهاية قسمة ونصيب.
ومع الزمن رجعت العلاقات في أضيق الحدود. وقامت ثورة يوليو وانقلب المجتمع رأسا على عقب، وطارت الباشوية من آل داود، وهبطت قيمة الأطباء والقضاة، فحقد شاكر على العهد الجديد حقدا أفسد عليه أعصابه. ودبر أمره للهرب، فانتهز فرصة حضور مؤتمر طبي في شيكاغو، وهاجر إلى الولايات المتحدة وأقام بها قاطعا علاقته بوطنه وأهله. وقد رجع في منتصف الثمانينيات مصطحبا زوجته وأولاده فزار والديه وأخويه وجدته راضية كضيف أجنبي، ثم سرعان ما رجع إلى وطنه الجديد.
نامعلوم صفحہ