55

ونحن في هذا الكتاب لا يهمنا تفصيل القول في هذه الحقوق من الناحية الفقهية أو الناحية السياسية؛ لأن المهم عندنا أن ننظر إلى طبيعتها وإلى الفوارق الطبيعية بينها وبين الرجل لا إلى تلك الحقوق أو هذه الفوارق التي يجيء بها تشريع ويذهب بها تشريع، وتعرفها أمة وتنكرها أمة، وتحتمل التعديل والتبديل بما يسنح للفلاسفة والساسة من الخواطر والبرامج والبدوات.

ولا يمنع العقل أو الخلق أن تظفر المرأة بما تشاء من الحقوق السياسية أو الحقوق الاجتماعية التي تتغير وتتبدل مع نظم الثروة ونظم المجتمع وأساليب المعاملات.

فلها كل حق لا يخرجها عن واجبها الأول؛ لأنه واجبها الذي لا تحسن غيره ولا يحسنه غيرها، وهو البيت والجيل الجديد.

تنشئ في قلب هذا العالم الصاخب مأوى تسكن إليه البشرية فترة من الزمن من زحام الحياة.

وتنشئ للعالم الجيل الذي يقوى في غده على هذا الزحام، وليس هذا ولا ذاك عمل الآباء، فليكن هو إذن عمل الأمهات؛ لأنهن إذا تركنه لم يحسن خيرا منه، ولم يحسنه غيرهن خيرا منهن؛ ففي تركه تضييع بغير تعويض. •••

قال شوبنهور: إن «أرسطو شرح في سياسته ما حاق بأهل اسبرطة من جراء تساهلهم مع نساء عشيرتهم وتخويلهن حق الوراثة والبائنة ومنحهن قسطا كبيرا من الحرية، وبين كيف أن هذا التساهل كان سببا من أسباب سقوط اسبرطة واضمحلالها».

ثم قال: «وما لنا لا نقول نحن إن نفوذ النساء الذي أخذ يمتد ويشتد في فرنسا منذ أيام لويس الثالث عشر كان سر ذلك الخلل الذي ألم بالبلاط والحكومة تدريجا، وما زال بها حتى أفضى إلى الثورة الأولى وما جرت إليه من القلاقل والأهوال؟»

والحقيقة أن المرأة التي خضعت طائعة أو كارهة طوال آماد التاريخ وما قبل التاريخ قد يدعى لها كل شيء إلا السيطرة على الحياة العامة وتوجيه الدول والحكومات.

فليس في تجارب العصور ما يثبت ذلك وفيه الكثير مما يدحضه وينفيه، ومن العبث أن نستشهد على هبة الحكم عند المرأة بالملكات اللاتي جلسن على العروش الوراثية في الأزمنة القديمة فإنهن مجهولات المواهب والمناقب مطويات في حجب الأساطير والأوهام، مشتركات في الحكم غير منفردات حتى في تلك الأزمنة التي كان حكم الفرد فيها مرضيا عنه غير منصوص على بغضه في الكتب والدساتير. ولكننا إذا استشهدنا على هبة الحكم بالملكات المعروفات في العصور الحديثة قبل قيام الحكومات الشعبية فهن أبدا بين اثنتين: امرأة مفسدة أو امرأة صلحت بمقدار ما نقص فيها من صفات الأنوثة وزاد فيها من صفات الرجولة، وبمقدار من أعانها من المشيرين والخبراء، والمثل البارز على ذلك مثل «أليصابات» ملكة الإنجليز على عهد شكسبير.

لقد كانت الأمم المستعبدة تدين بالملك لإحدى الملكات اللاتي اشتهرن بالعزم والمثابرة من طراز كاترين الثانية في البلاد الروسية، فتصلح كما يصلح الملوك الرجال وتفسد كما يفسد الملوك الرجال، ولكن الأمر الذي يفوت بعض المؤرخين أن البلاد الروسية لم تكن لتحتمل فساد عشر ملكات متواليات من طراز كاترين كما احتملت فساد عشرات من الملوك الذين توالوا على عرشها القديم؛ لأن فساد جيل واحد في حكم كاترين الثانية قد هدم نظام جيشها وعرضه للهزائم مدى أجيال.

نامعلوم صفحہ