ولو رزقت المرأة هذا الحزم لما استجابت مرة من عشر مرات لضريبة النسل المفروضة عليها، فالذي رزقته إذن هو نقيض الحزم وهو نسيان الآجل في سبيل العاجل وإيثار السرور القريب على الغنم البعيد، أو هو استجابة الأثر الحسي والإعراض عن نذير الحكمة والروية وهداية التأمل والتفكير.
وإذا بدا منها الحزم في موقف من المواقف فامتنعت عن لذة تغريها فتفسير ذلك لذة أخرى مركزة لديها غالبة على تلك اللذة التي امتنعت عنها.
فترفض مثلا الطعام لأنها مغرمة بالكساء، وترفض المال لأنها مشغولة بشعور الأمومة، أو ترفض الوسامة لأنها منقادة لقوة، أو ترفض كل هذه الغوايات لأنها لا تحس بإغرائها إلا عند مسيس الحاجة إليها، ولا تحفل بحاجة الغد ما دامت غنية عنها في يومها.
فحزمها هو مقاومة إغراء بإغراء، أو تسويف وإرجاء إلى ساعة الشعور بالإغراء.
وربما كانت رحمة المرأة في لبابها - وهي أشهر أخلاقها - مزيجا من نقص الشعور بالألم ومن التذاذ الشعور به كما رجح بعض الباحثين في فضائل النساء والرجال.
فالمرأة تطيق التمريض على رأي هؤلاء الباحثين لأنها بليدة الحس، كليلة الخيال، لا تثير فيها رؤية الألم تلك الصور المتلاحقة التي تخلقها مخيلات الرجال، ولو كانت تفزع للعذاب وتشفق منه على المتعذب لما استراحت إلى ملازمته والنظر إليه واستماع أنينه وشكواه.
ولا تخفى وجاهة هذا التعليل الذي ذهب إليه أولئك الفلاسفة ولكنه على غير ذلك قاطع في تأويله؛ لأن صبر المرأة على رؤية العذاب قد يفسر بالاستغراق في عاطفة الرحمة، وأن هذا الاستغراق يعين على الاحتمال ويملي للمرأة في مجاراة الآلام، ولا سيما المرأة التي تنبعث فيها عاطفة الأمومة وتجيش في قلبها فاجعة من فواجعها.
ومع هذا لا ينفي استغراق المرأة في عاطفة الرحمة أنها تلتذ الألم وتجتره وترتضيه، وأنها كليلة الخيال قلما تتولى الألم بالتصوير والتكبير كما تتولاه مخيلات الرجال.
ولا تنتهي أقوال الكتاب وأصحاب المذاهب الفلسفية والعلمية في تأويل أسباب التفاوت بين الجنسين؛ لأن تعدد التأويلات هنا مسألة مزاج كما هو مسألة فكر ودراسة، وليس أكثر من تعدد أبناء آدم في المزاج والدرس والتفكير.
لكن التفاوت قائم وإن اختلفت الأقوال في تأويله، وقيامه حقيقة عيانية وحقيقة علمية وحقيقة منطقية في وقت واحد؛ إذ كل قول بالتشابه بين الرجل والمرأة أو بالتساوي بينهما هو في مؤداه قول برجحان المرأة على الرجل وتفوقها عليه لجمعها بين وظائفها ووظائفه في بنية واحدة، وذلك هو الرجحان الذي لا يسيغه منطق سليم.
نامعلوم صفحہ