وبكاء وصراخ وضجيج ووجه استمر منقبضا في غير انفراج أياما عديدة لم أعد أذكر عددها. ماذا تراها فاعلة؟ علمت بما أفكر فيه. ولم لا؟ لماذا لا أتزوج؟ أجدد الحياة. لو كان عندي الآن ولد لما ضقت بالأيام الفارغة؛ كنت أجلس إليه ألاعبه وأفرح به مبتسما ضاحكا، بل وأفرح به عابسا باكيا وأنشغل. ويملكني القلق إذا ما مرض. إني لأحسد الأب حين يقلق على ابنه المريض؛ إنه بقلقه يشعر بالحياة، بالحياة جميعها، ويأخذه البهر ويملكه الخوف ويتجه إلى الله وإلى الطبيب وإلى الصلاة وإلى الدواء، ولا ينام إلا نوما يختطفه الجسم المتعب من الروح الهالعة خطفا لا يطول فهو إغفاءة، ثم يصحو مفزعا في إغفاءته ويقظته، وتمر الأيام فإذا طفله يتماثل للشفاء، وتهدأ الروح وينام الجسم نوما مفعما بالحياة. هذه هي الحياة. حتى الخوف والقلق والرعب مشاعر حلوة عند الآباء، يذكرونها إذا ما انحسر الخطر في هدوء قرير وحديث ناعم حنون. لماذا أحرم نفسي من هذا جميعه؟ الآن زوجتي عاقر، فما لي لا أتزوج غيرها وأبقيها؟ وماذا علي أن أفعل؟ في القرية كثيرون يتزوجون الزوجة الثانية دون أن تكون زوجاتهم عاقرات.
ولم يصبر رضوان أفندي حسين طويلا، ولم يترك الزمن يراود الفكرة في ذهنه، وإنما سرعان ما اقتنع بها دون ريث أو تدبير، وقام إلى بيت عباس فرغلي، وما إن تبادلا التحية حتى سارع رضوان قائلا: جئت أخطب أختك هنية يا عباس.
وقال عباس مندهشا: خادمتك يا سي رضوان أفندي ولكن ... - ولكن ماذا؟ - أنت سيد العارفين. - ألأنني متزوج؟ - طول عمرك ذكي وتفهم يا سي رضوان. - يا سي عباس، الحال من بعضه، وهي أيضا ألم تكن متزوجة؟ - أنا لا أقصد. - فماذا تقصد؟ - لا أريد أن أغضب الست فاطمة. - ليس في الحلال ما يغضب يا عباس. - زوجتك ست كريمة وطيبة. - أريد أطفالا يا عباس. - يا سي رضوان أنت متعلم وتفهم، كيف عرفت أن أختي ستهب لك الأطفال؟ وكيف عرفت أنك ستكون سعيدا بهم؟
الذي أعرفه أنني لا بد أن أحاول، والذي أعرفه أيضا أني لست سعيدا بدون أطفال. - ربنا يكفيك شرهم. - زينة الحياة الدنيا. - ويجعل من يشاء عقيما يا سي رضوان أفندي. - أريد أن أحاول. - فإذا لم تنجب أختي يا سي رضوان تطلقها؟ - تكون مشيئة الله تمت وأمره لا مرد له. - وإذا أنجبت لك الست فاطمة؟ - وهل هذا معقول؟! - يعني إن حصل؟ - لا يا شيخ لا تخرف. على كل حال ستبقى هنية على ذمتي. - وهو كذلك، توكلنا على الله.
ويتم الزواج ويظل سرا على فاطمة، ولكن ما أقل ما يظل السر سرا، سرعان ما يذيع وتعلم فاطمة فهي في حريق يلهب كيانها جميعا، وتحاول أن تكتم ما بها كلما رأت زوجها، ولكن دموعها تخونها فهي تتساقط في صمت، ويصيح بها زوجها: اصرخي، اصرخي كما كنت تصرخين.
وتقول والدموع تتساقط توشك أن تكون حمراء في لون النار: لا يفيد الصراخ الآن، أمر الله، أمر الله.
ويروح ويهدئ خاطرها: ليس في القلب غيرك. - لا تقل هذا، فهو أشد على نفسي وقعا. - أحبك والله يا فاطمة. أحبك كما كنت أحبك منذ تزوجتك. - ولم تستطع أن تضحي من أجلي، وتفجعني بضرة لا تدري إن كانت ستلد لك أم لا، وتفجعني من أجل أطفال لا تعرف شكلهم ولا تعرف ماذا سيفعلون إن هم كبروا. لا تقل إنك تحبني، لا تقل.
وكان إذا ذهب إلى هنية وجدها في جزع آخذ ألا تلد هي الأخرى، فتنتهي حياتها مع زوجها رضوان أفندي الذي رفع مكانها في القرية، وجعلها ست بيت لا تملأ الجرار ولا تذهب إلى الغيط.
وهكذا لم يعد رضوان جازعا من الفراغ أوا لملل، فقد ملأت مشكلات زوجتيه حياته، بل أصبح في حاجة إلى وقت آخر من الزمن، ليواجه هذا الشغل الذي فرضه على نفسه فرضا.
ولا ينقضي وقت طويل حتى تنقطع الدموع من عيني فاطمة، وإن كان الجزع يزداد إحاطة بهنية، ويعجب رضوان بعض الشيء ولكنه لا يعلق على الأمر كثير أهمية، وإن كانت آماله في إنجاب طفل أخذت تتهافت وتضعف وتوشك أن تضمحل. ويمر وقت آخر وتقول له فاطمة: رضوان. - نعم. - أريد أن أذهب إلى الطبيب. - أي طبيب تريدين؟ - ذلك الطبيب الذي صحبتني إليه ليعالجني من العقم. - ماذا؟! أبك مرض؟ - لا ولكني أشك في شيء وأريد أن أتأكد منه.
نامعلوم صفحہ