الثاني :
كأني بك تريد أن تقول: إن مجلس الأعيان إنما يتكون من أمثال هذا، وإنك أنت عين من أولئك الأعيان؟!
هو :
ولم تهزأ؟ وهل غريب أن يكون القصد من مجلس الأعيان هو هذا؟ وإذا لم أتشرف بأن أكون من أعضاء هذا المجلس الموقر، فلم تستبعد أن يتحقق معناه في نفسي أو في نفس كل مواطن مدرك عاقل، وقد لا يكون متحققا فيمن يزعمون أنهم أعيان؟ أتريد الأعيان للمراسم والغطرسة والترف؟ أتريدهم للابتزاز والاحتيال، يتجسس بعضهم على بعض مباشرة وبجواسيس مأجورين؛ للنكاية بإخوانهم في الوطن الواحد على حساب طاغية عات أو فاتح مستعمر، إشباعا لشره الرذائل وتسكينا لشهوة النفوذ؟ أم هم لانتباش كل سر دفين يعرض المملكة للخطر؟ ولم وجب أن يكونوا بعيدي النظر في تفهم الأمور وفي تصريفها، حكماء في إبداء الرأي، وفي العمل على تحقيق المشاريع ووضع القوانين؟ وهل يحسن ذلك جاهل غبي؟
أحدهما :
وضح الفرق بين العين والجاسوس، ولكن، لم لا يجوز للشباب أن يتجسس، ونحن نعرف كثيرا من الشبان يتجسسون مأجورين لا لحساب الطغاة الظالمين، أو الوجوه الطامعين من أبناء البلاد وحسب، بل ولحساب أجنبي طامع وعدو متحفز، ومنهم من تصغر نفوسهم في نفوسهم، فيتخذون التجسس لبعض الناس على بعض الناس وسيلة تقرب وتملق، ولا أجر لهم إلا ما قد يأملون من توافه المنافع، وقد لا تكون سوى وهم الوجاهة بالتقرب من الوجهاء وأرباب النفوذ، وقد يصبح هذا الحال مرضا يتبرع فيه الجاسوس بتجسسه، أي بكرامته لحساب الشيطان، فيرتاح في عمل الشر للشر وحسب.
هو :
مهلا أخوي، أتظنان من يتجسس أخبار الناس لينقلها غيبة أو نميمة لتوافه أو لمرض تملقا أو تشفيا، أو من يتجسس أخبار الناس لينقلها إلى أرباب النفوذ مأجورا أو انتهازا، رغبة في الوصول دوسا على رقاب الناس في بلاده لحساب أجنبي طامع، أو عدو متحفز، أوتحسبان هؤلاء الجواسيس من الشباب، ولو كانوا في سن الشباب؟ ليس الشباب شباب العمر، وليس الشباب شباب مظاهر نمو الجسد؛ إنما الشباب في حقيقته وفي فاعليته شباب النفس والروح، شباب الوثبات والتقدم، شباب التسامي بفضائل المجتمع، الشباب إطلالة جديدة للحياة، تتجدد بها الحياة في الإنسان متسامية بروحه الإنسانية؛ لتحقيق فضائل الإنسان - المجتمع - ليهنأ الفرد بمجتمعه وفيه، وليسعد المجتمع بأفراده وفيهم، الشباب خير وبركة، وهو سخاء وإخلاص وتضحية، وهو عزة وإباء ونبل، إنه الوثبة، ولا يثب من لا يتصف بهذه الفضائل في مجتمعات الحياة، ومن سوء حظ بعض المجتمعات أن الشباب - شباب الروح والنفس - لا يتحقق فيها، فتنهار، لنكن يقظين فلا نخدع بشباب العمر والسن والجسد عن شباب الروح والنفس، ولا تتحقق إنسانية الإنسان إلا بهذا الشباب، ولا يتقدم المجتمع، فيتكون تكونا أفضل إلا بروح الشباب وتفاعلاته في ذاته، تفاعلات تجدد وتقدم ورقي، وهؤلاء الذين عبرتم عنهم بالشباب إنما هم شباب في أجسادهم، وهم أطفال أو شيوخ الهرم في نفوسهم، قد تفسد التربية شباب العصر، فيعودون أطفالا في نفوسهم وأرواحهم، أو يبتلون بأمراض الشيخوخة المبكرة، وما أشد شقاء أمة تبتلى بأمثال هؤلاء الشباب، تسيطر على نفوسهم غطرسة الادعاء، ووهم الغرور، وأنانية الجشع.
وفي هذه اللحظة دخل الخادم وقدم للتلميذ رسالة، فضها فإذا هي من الأستاذ الجليل، يعلن أنه سيتناول طعام الغداء على مائدة جلالته، ويؤكد عليه بتهيئة الجو الملائم، فافتر ثغره عن ابتسامة اطمئنان، وأتم حديثه قائلا: اتسع مجال البحث بتأخر الأستاذ المشعوذ، ثم التفت إلى الشابين مشيرا إلى الخادم وقال: إن هذا الخادم كهل، وهو أخي ورفيقي ومساعدي؛ لأن روح الشباب مستقرة في نفسه على الرغم من تجاوزه الخمسين من عمره، وشباب الروح قد تحقق في نفسه، فاحتفظ به في كهولته، وسيظل محتفظا به في شيخوخته، في سن الشباب تتحقق روح الشباب، فإذا ما تحققت استمر طول الحياة؛ لذلك جعلت من هذا الكهل الشاب شريكا لي وناصحا في جميع ما أصمم عليه من أعمال ومشاريع، إنه من الشعب، ومن الشعب تستمد قوى الحياة في الشباب، إنه من السوقة، وفي السوقة نجد عناصر النهضات، ولا استمرار لتقدم إذا لم يمنحنا الشعب في سوقته عناصر التقدم، ويا ويل أمة يضاف فيها فساد السوقة إلى فساد الأشراف المترفين.
أحدهما :
نامعلوم صفحہ