مولاي، إن للحرية حدودا وإلا كانت فوضى، وحدودها الإنسانية الصحيحة هي هيبة العرش وسلطة الملك، وزهو خواصه وحاشيته ومؤيديه وترفهم، وهذا هو العدل بعينه، فلكل حقه حسب طبقته، والناموس الأكبر هو في أن يظل الناس جميعا عبيدا للعرش ولصاحبه، فللناس أن يأكلوا ما يصلون إليه من طعام كما يشاءون، وأن يعملوا في المهنة التي عليها يتمرنون، وأن يلبسوا ما يجدون كما يريدون، وأن يفرحوا، وأن يتنزهوا، وأن يقوموا بأفراحهم حسب تقاليدهم، وأن ... وأن ... فمن يعترض عليهم؟ فهم أحرار في تصرفاتهم، وها إن جلالة ولي الأمر قد أوقف التجسس عن أعراضهم، فماذا يبغون بعد ذلك؟ أويريدون أن يتطاولوا إلى صاحب العرش ومقربيه؟ هذا لا يكون؛ لأنه فوضى لا أثر للتحرر فيها، وهي الظلم المبين وبها خراب هذا البلد، أنقذنا اللهم من أبناء الحرام الذين يوسوسون في الصدور ويقولون ما لا يعقلون.
الملك :
ويظهر أن الناس يطالبون بالمساواة ولا سيما مساواة المرأة بالرجل، ويشددون في هذا الطلب على ما علمت، فما الحيلة؟
الأستاذ :
المساواة بين الطبقات؟ وبين المرأة والرجل؟ إطلاقا، أين نحن؟ وفي أي زمن؟ حتى المرأة تتطاول! وهل بلغ الضعف بالرجل حده الأقصى حتى أصبح يؤيدها في مطلبها هذا؟ أكاد أتهم نفسي بالخبل والجنون، والله لبطن الأرض خير من ظهرها إذا ما استمرت هذه الترهات، ولكن لا، فسنعمل على إحباط مساعي المفسدين، وهم إنما يريدون لنا الفوضى في حياتنا.
وهنا أعلن موعد الطعام، فذهب الملك وضيفه إلى المائدة، حيث كان رجال الدولة المدعوون في انتظار الملك، وسيستمر حول المائدة الحديث.
الفصل العشرون
قال الراوي: جلس صاحب الجلالة، وأجلس الأستاذ الجليل عن يمينه بعد أن قدمه بصفته المشير الخاص للملك، فتقدم الحاضرون واحدا واحدا إلى مصافحة المشعوذ مقدما له نفسه باحترام كلي، وكان الانكماش باديا على المشير الأول ووزير الميسرة ومن والاهما، مسرين في نفوسهم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، أما وزير الميمنة ومن والاه، فإن البشر كان يطفح على وجوههم معلنين عن غبطتهم بما شاء الله، اللهم احفظ للملك هذا الرجل الحكيم، رجل الله الأمين، واجعل البركة في حياته وامنحه التوفيق، آمين.
لم تغب هذه الأوضاع عن نظر الملك، ولكنه كان قد قرر في نفسه ألا يثير أية قضية قبل أن ينجز صنع التاج، وسيلة التفريق بين الحق والباطل بالتمييز بين أولاد الحلال وأولاد الحرام.
مضت لحظات صمت مهيب، هي من ضرورات الاجتماع مع الملوك؛ ليتخذ المجلس وضعه الوقور في حضرة صاحب الجلالة، ثم صدرت عن جلالته إشارة خفية يدركها الخدم، فبدئ بتقديم الطعام، ويكفي أن ندرك أن المائدة هي مائدة ملكية؛ لنتصور ما يقدم فيها من شهي الأطعمة المتعددة المتنوعة، يتقطر الترف من أفاويهها وأدهانها وألوانها، لدقة الصناعة في تحضيرها وللعناية في اختيار مقبلاتها وعرضها، وما كادت تفوح روائحها الذكية الطيبة، حتى كاد يغشى على صاحبنا الأستاذ الجليل؛ لما نعلم من شدة شرهه، ولكنه - وهو الواعي القوي الإرادة - تماسك وصبر، ولا سيما وهو في وضع يلزمه فيه التظاهر بالزهد والنسك والتعفف عن حطام الدنيا، فبدأ يأكل بتؤدة واعتدال، محاولا أن يتناول القليل من بعض الأنواع، ولكن شهوته المتأججة كادت تمزق أحشاءه.
نامعلوم صفحہ