لم يستول علي يأس، وقد وجدت لديه رعاية الوالد وحنوه في تلطفه، وفي محاولة ردي عما أعتقده في وثبتي هذه، لكن دخول بعض خاصته دون استئذان طبعا، وقد رفعت بينه وبينهم كل كلفة ومراسم أوقعني في يأس وقنوط، فقد كان هؤلاء عند شداد الملك المغتصب، وعادوا يثنون على حفاوته وتعهده بحماية العرش إذا ما ثار الشعب، فهم يحسبون للثورة إذن حسابها، ويتآمرون مع المغتصب على شعب رفعهم إلى أرائك الحكم، ولما قلت: إن للشعب حقوقا تجب مراعاتها، أجابني البعض: ليس للشعب إلا السوط، ولم يرد عليه أحد، وكدت أحاول أن أضع على رءوسهم جميعا السوط؛ لأنهم أجدر به، ولكني خفت على الثورة من رعونة الطيش.
وهنا تنهد الأمير والشرر يتطاير من عينيه، وقال: أعرفت سبب زهدي بالعرش؟ فإن عرشا لا ترفع إليه المرء أفئدة الأسياد، في شعب سيد، ليس بعرش أبدا، وإنما هو سجن الأسير، وفي وضع كهذا، يكون التساوي متحققا بين الحاكم والمحكوم سيادة وتحررا وحقوقا.
وما بلغ الأمير هذا الحد من حديثه، حتى رأى الحكيم يسجد لله شاكرا، وعيناه ترطبان الأرض بالدموع، ثم التفت إلى تلميذه الشاب باسما، وخاطبه بقوله:
ح :
إذا أذن الله بأمر يسر أسبابه، وقد أردتك مؤيدا للثورة، فإذا أنت تتحول ثائرا يهيأ لقيادتها بوحي ذاتك وفاعليتها وبملاءمة الحوادث، فنالت بك الثورة أكثر مما أملت، فشكرا للإله الحكيم، وقد كنت قد عجلت في مجيئي قبل الموعد وقلبي يحدثني بأن أجدك هنا لأطلب منك الاتصال بجلالة الملك ومحاولة إقناعه، لا لاعتقادي بجدوى العمل، ولكن لتطمئن نفسك. ولا تخش الشك، فالشك أصل اليقين، فالمهم في منطق الحركة هو أن تتحقق ثائرا بروحك ولا فائدة في الافتعال، وللثورة ككل كائن حي روحية، بها قوامها، وهذه لا تتحقق إلا بشروط، أولها إيمان يتفاعل معه العقل على ضوء الخبرة، وقد هداك ضميرك وإخلاصك إلى خبرة واقعية جعلت فيك العقل يتفاعل تفاعلا طبيعيا مع إيمان لا يتزعزع، وقد أشع نوره في قلبك بعد شك عفوي لا تصنع فيه، وثانيهما السمو بالأهداف إلى مبادئ عامة، لا يكون معها قصد انتقام من أحد، ولا إرادة جر منفعة إلى غيره، فالثورة لا تكون لخلع ملك ولا لتولية آخر، وإنما تكون لأهداف إصلاحية سامية تشمل الجميع، وهذا ما يخرجها عن مفاهيم الشغب والعصيان، ولذلك كان من نعم تفاعلها في نفسك زهدك بالملك، وثالث الشروط - وأرجو أن يتحقق في ذاتك مع ما سبق - أن تكون الثورة إنسانية، فتحاول حقن الدماء دائما، وإذا ما سمحت به فبأقل مقدار يمكن، فلا يصح أن تصبح الثورة مجزرة بأي حال، وإلا فهي ثورة فاشلة تشتبه كثيرا بالشغب والعصيان، وهذا ما نحاول، وستتحققه بذاتك في أول اجتماع آن وقته بعد أن أرخى الليل سدوله، فلنذهب.
الفصل الرابع عشر
قال الراوي: الدار في ضاحية المدينة، وكانت دارا واسعة، بابها الأمامي يطل على المدينة، وهو الباب الذي يدخله الناس من سكان الدار وضيوفها، وبابها الخلفي يواجه البرية وهو مخصص لدخول المواشي إلى الزريبة في داخل الدار، وكان لتلك الدار سرداب متسع تحت الأرض، اتخذه الثوار مكانا لاجتماعاتهم، جاور السرداب الزريبة مدخل الثائرين في ظلام الليل، فانقلبت بفعل روح الثورة عرينا للأسود، ولعل هذا من الأسباب التي جعلت العرب يرون في الزريبة حظيرة المواشي وعرين الأسد ومخبأ الصياد.
دخل ولي العهد الدار من بابها الأمامي دون أي استخفاء، فأدهشه أنها دار أستاذه وقد ألفها قبلا، فظن أنها فترة الاستراحة للتنكر والاستخفاء، ولكن استمرار الشيخ الوقور في السير متجاوزا ردهة الاستقبال ودار الحريم، وطرقه على باب السرداب طرقا خاصا، نبهه إلى أن وضع مكان الاجتماع أنقذه من التنكر والاستخفاء، ولم يكن من المستغرب عند أحد أن يدخل ولي العهد دار أستاذه، ولكن أين امرأة الشيخ وبناته الصبايا؟ وأين أبناؤه الكهول والشبان؟ الدار خالية، وجميع أهلها في العرين!
فتح الباب وقال الشيخ كلمة السر، فاهتزت لها أرجاء الزريبة والسرداب المزدحمين برجال ونساء، أخذوا يرددونها بصوت خافت رصين، وقد كانت في ذلك اليوم: ولي العهد، وكانت هي تحيتهم له، فحياهم بأحسن منها إذ قال: عرين الأسود، وما استأنس الجمع بولي العهد، وما استأنس هو بهم بعد مباحثات ومداولات وتنظيم، حتى أخذته عزة الانتساب إلى هؤلاء النخبة، تجتمع لتضحي بكل ما تملك، ولا توفر الحياة في سبيل حفظ الوطن ورفع شأنه، برفع مستوى المواطنين وتحريرهم عن تفهم مدرك، وإخلاص عاقل، وتفكير مجرد، وقابل ما أحس من صميم ضميره من نبل أوضاعهم وصدق هيئاتهم النفسية وقوتها، وهم ولم يكن يعرف بينهم سوى الشيخ وأبنائه، قد أصبحوا الآن جميعا عناصر وثبات نفسه في تحرير ذاته وأمته، بما يعرف عن حاشية أبيه الملك في قصره، ولا يحيط به سوى الشمامين الطماعين الانتهازيين من الذين يمشون على بطونهم، فاندفع متحمسا يقول: بوركت روح الثورة، تحول الزريبة إلى عرين، وخزيت سراي تحولها الأنانية والأطماع وروح الانتهاز إلى حظيرة للمواشي.
قد تذكر في تأملاته هذه - وكانت قد ملكت عليه نفسه - أنه كان قد أعجب باشتعال نار الثورة في الشيوخ والكهول والشباب نساء ورجالا، وقد شاهدهم مجتمعين هناك على فكرة واحدة، وعزيمة صادقة متوحدة، فآمن بتفاعل الأجيال، وعلم أن الثورة الصحيحة إنما تكون صلة بين أجيال الأمة، وقوة في تفاعلها، فأدرك أن تلك الصلة هي شرطها الرابع.
نامعلوم صفحہ