دهش الشاب، فلم يستطع صبرا، فسأل أستاذه عن السبب الذي يمنعه من إصلاح حال الملك، ومن العمل على إعادته لما كان عليه من عدل وتحرر، بإنقاذه من آفة تلك الوسوسة؛ فيرتاح وترتاح رعيته، ويعود لسابق عهد زاهر، يمكنه من الظفر على خصمه ومن إسعاد رعيته، ألا تذكر يا مولاي، كيف كان الناس في ذلك العهد؟ فإن آباءنا يخبروننا بما سعد به آنئذ الناس، ونحن الشباب لا نزال نتذوق تلك الغبطة والطمأنينة التي كانوا يتمتعون بها في تلك العهود، فلم لا تعود؟ أتعجز عن القضاء على الفساد لإصلاح العباد، وأنت العالم النحرير، والخطيب القدير، والمعلم الخبير، أليس للعلوم الروحانية اتجاه لخير الناس؟ ولما لمح بوادر الغضب على وجه أستاذه، تدارك الأمر حالا، وقال: اعذرني، فإنني طالب علم، يحاول أن يفهم دون أن يكون لهذه المحاولة أي أثر في إيمانه بأستاذه، وأي تأثير في خضوعه لسلطانه، فابتسم الأستاذ دون أن يتبدل اربداد لونه، وأجاب تلميذه بقوله: ألهذا جئنا يا أحمق؟ إنك أبله مغفل حقا. فلم يجد التلميذ مهربا من أن يؤيد أستاذه في قوله، فاعترف بحمقه وغفلته، وأنه إنما هو بمعيته ليكشف له عن بصيرته.
فارتاح الأستاذ الجليل لقوله، وأمره بأن يساعد الخادم بتحضير العشاء؛ لأن الجوع أخذ منه مأخذه، فلا يستطيع إكمال الحديث، فلينتظر إلى ما بعد العشاء.
الفصل التاسع
قال الراوي: لم يكن في منزل الأستاذ الجليل غرفة خاصة للطعام، فأحضر إليه طعامه وهو في القاعة على طبق من قش، وضع الخادم الطبق على أرض القاعة وفي وسطها، ثم نظر إلى الأستاذ نظرة المتسائل عما يأمره به بعد، فأومأ إليه بالانصراف بعد أن تحقق بنظرة ألقاها على الطبق، بأن كل ما يحتاج إليه لعشائه حاضر أمامه، انصرف الخادم بعد أن رد الباب وأحكم إقفاله؛ إن الأستاذ يتأذى من أن يراه أحد حين يأكل، فهو شره نهم يتناول الأكل بعينيه وبفمه ويديه، ويكاد يأكل بحواسه جميعا وبكل جسمه، ليتك كنت تراه يمضغ الطعام ويتلمظه ساهبا، يوشك أن يغفو على الطبق، لولا أن يوقظه فراغ فمه ... أطنب الراوي في وصف إفراطه في شهواته وملذاته، في أكله وشربه، وفي أطماعه واستشراف نفسه لدرجة تجعلني أذكره كلما ذكر راسبوتين، وكلما فكرت في أمر الكثيرين من ذوي الأطماع المتكالبين، أولئك هم الذين لا يحللون ولا يحرمون في محاولات سعيهم لتحقيق موضوع الطمع في نفوسهم، إنهم لا يأبهون لما يلحق الآخرين بجريرتهم من أذى، ولا يكترثون لما تمنى به الأمة من نكبات بسبب ما يعملون على تحقيقه من مآرب ذاتية وأطماع، ومن أهداف شخصية وشهوات، إنهم أشرار مجرمون، يتمثلهم عامة الناس عندنا، وقد ابتلاهم بهم الزمن، بمن لا يتورع عن أن يلهب البلد ليشعل سيكارته، والشره في الجاه كالشره في الأكل والشراب، بل هو أشد فتكا في الأمم، ونهم المال والمناصب أدعى إلى النكبات في المجتمع من نهم البطن وشهواته.
وكأني بالحياة في نقمتها على المجتمع الغافل عن ذاته، وعلى الأمة الغائبة عن حقيقتها، وعلى الإنسان الهازئ بإنسانيته وبمثلها تنتقم، فتسلط على الغافلين والغائبين والهازئين شرورا، تتمثل بالشره والنهم على أنواعها وفي مختلف الأشكال، ولعلها اجتمعت كلها في هذا الأستاذ الجليل.
بهذه المعاني وبما يشابهها كان التلميذ يناجي نفسه وهو في انتظار أستاذه، بعد أن تناول طعام العشاء مع خادم المنزل، إنه شاب متوثب، ديمقراطي الروح، وعميق التأمل، يؤمن بآراء ذلك الرجل الحكيم وأقواله، وقد تغذت بها نفسه، حتى أصبحت في صميم فاعليته تفكيرا وشعورا وسلوكا، وهو إذا ما دارى الأستاذ الساحر وواربه؛ فلأنه صمم على أن يرد كيده إلى نحره، آمن بدهاء أستاذه وبسعة اطلاعه وذكائه، كما آمن بخبثه وفساد طويته ونواياه؛ فأصبح يخشى على الأمة من مناوراته الخائنة، ومداوراته الماكرة، ومؤامراته الدنيئة، وما علم بعزمه على الاتصال بالملك في عاصمة ملكه، حتى أدرك كل شيء، فتوسل إليه أن يصطحبه، آملا أن يرد عن الأمة تلك النكبات، وقد يبيتها لها ذلك المشعوذ إشباعا لشرهه وتحقيقا لمأربه وجشعه. وللشباب وثبات، كثيرا ما أنقذت المجتمع من ويلات، ونجت الأمم من مهالك، وكم كان لهذه الوثبات من فضل في إنقاذ الأمم من مزالق الانهيار، وفي إعادتها إلى ميادين التقدم، لتستمر في ارتقاء سلم الحياة، ناهضة مستبشرة، لا تخشى الدجل، ولا تخاف الشعوذة، فهنيئا لأمة تتحقق فيها وثبات شبابها، وتعسا لمجتمع تكبت فيه تلك الوثبات الخيرة.
غاب الشاب في تأملاته عما حوله حتى أيقظه دفع الأستاذ لباب القاعة، وخروجه خروج الظافر، يتلمظ بقية طعام في فمه، ويسرع إلى غسل يديه، عاد الساحر بعد ذلك كله إلى مقعده الأول، ونادى تلميذه، وابتسم ابتسامة من يتذكر استخفافا يريد أن يدفعه فقال: سألتني عن أبواب استخدمتها اليوم، ولم أكن لأستخدمها في استمالة أفراد أتملقهم، وهل التملق سوى باب من أبواب السحر، يستخدم في استمالة السذج؟ وهم ليسوا جديرين بتلك الأبواب القوية لأنهم سخفاء. إن استحضار الجن والأرواح والشياطين وإلقاء ما اشتد وقوي من الأبواب، إنما يكون في هذه الأحوال المعقدة والأطماع الكبيرة، وإلا فتجارة الساحر خاسرة، وليس من السهل أن يجمع الساحر كل قواه في جميع الأوقات.
هنا تنهد الشاب، وقال: ومتى تفي بوعدك، فأرى تلك الأرواح والعفاريت وأكلمها؟ فأجابه الأستاذ: لم يكتمل إيمانك بعد، ومتى اكتمل ترى العجائب، وتخضع لك القوى. وليتخلص الأستاذ من إلحاح تلميذه وإحراجه حول حديثه إلى موضوع آخر، فسأله عما لديه من أخبار ذلك الفيلسوف وأحاديثه وأحواله؟ - إنني ما زلت أواظب على حضور دروس هذا الأستاذ كما أمرتني، وهو لا يزال يتوسع في مباحث المساواة بين البشر مفضلا مناقشة الشباب بإثارة المواضيع لينمي فيهم أصالة التفكير.
الأستاذ :
ألا يزال ينشر فكرة مساواة السوقة بالأكابر وبالملوك؟ يا له من وقح يجب تأديبه! ويريد فوق ذلك أن يجعل للغوغاء تفكيرا أصيلا، وشعورا ينبثق عن الذات، وسلوكا يختاره عامة الناس، فلا يوجهون ولا يقيدون بتقاليد وعادات، فرضها علينا التاريخ، وأوجبها ما بين طبقات الناس من فروق وامتيازات، إنه لمجرم خطر، يستحق أقسى أنواع العقاب، وسيكون لي معه شأن وأي شأن. قل لي، أيكثر مريدوه أم يقلون؟
نامعلوم صفحہ