یہ سب کچھ ہے: بریشت سے نظمیں
هذا هو كل شيء: قصائد من برشت
اصناف
تخيل معي رجلا ينحو من أزمة صحية ليقع ضحية أزمة أخرى،
11
ويعاني في يقظته ونومه من كآبة الليل وملل النهار، وتحمله أمواج الحكمة الممزوجة بالأسى فيكتب بعد ذلك اليوم الفظيع مجموعة قصائده التي سماها «مرثيات بوكو» (نسبة إلى بقعة هادئة في سويسرا أقام بها عدة شهور في سنة 1952م متفرغا تمام التفرغ لكتاباته). إنه يلتقط فيها مشاهد صغيرة ودالة من حياته اليومية، والمتع البسيطة التي يقبل عليها راضيا مسرورا، والمناظر العادية للناس العاديين الذين يمارسون حياتهم بلا انقطاع، وحديقة الورد المنسق المزدهر التي تقع على شط البحيرة ويحوطها السور وأشجار الصنوبر والحور ويجلس فيها قبل طلوع النهار وهو يتمنى لنفسه أن يستطيع في كل الأوقات والأجواء أن يقدم للناس هذا الشيء الذي يسرهم أو ذاك (راجع قصائد الدخان، وتغيير العجلة، والمتع، بالإضافة إلى القصيدة الهامة وهي الحل، التي ينصح فيها المسئولين الفاشلين باختيار شعب آخر ليحكموه) آملا من وراء ذلك كله أن يواصل ويتشبث براية الأمل في التغيير، إن لم يكن في حياته فبعد موته (تذكر الوصية التي أملاها وهو يحتضر وأكد فيها أن المستقبل حافل بالإمكانات). والمرجح عندي أنه اقتنع في السنوات الثلاث الأخيرة التي داهمه فيها المرض وعاوده الحزن والاكتئاب أنه حاول أن يغير بقدر ما استطاع، وأننا ما دمنا زائلين وفانين بحكم طبيعتنا فلا يمكننا أن نغير كل شيء؛ إذ لا بد أن يبقى الكثير مما وجدناه أمامنا على حاله القديم، وأن تواجهه أجيال أخرى من أبناء الغد وتحاول تغييره بما لديها من إمكانات جديدة، وأن كل هذا أدعى إلى الرضا والقناعة اللذين ربما كساهما الحزن، ولكنه الحزن الأعمق الذي يتعلق «بشروط» بشريتنا المحدودة، ولا يمكنه أن يمنعنا من الفرح بكل لحظة نعيشها. تشهد على هذه المشاعر قصيدتان قصيرتان من «مرثيات بوكو» الرائعة المؤثرة، يقول في إحداهما: لو كنا سنبقى إلى الأبد، لتغير كل شيء، لكن لأننا زائلون، يبقى الكثير على حاله القديم. ويقول في الأخرى: كنت حزينا حين كنت شابا، وأنا الآن حزين بعد أن شخت. متى سيمكنني إذن أن أفرح؟ الأفضل في أسرع وقت.
وعلى الرغم من كل الشكوك والتناقضات التي تثيرها حياة برشت وأعماله ولم تزل تثيرها إلى اليوم، فلا بد من القول أيضا بأن حكمته العدمية التي عاودته في تلك السنوات الأخيرة لم تفقده الثقة أبدا في إمكان التغيير والتجديد حتى مع آخر نفس يخرج من صدر الإنسان. والواقع أن الغرور لم يخالجه أبدا إلى الحد الذي يتصور معه أن أعماله خالدة أو صالحة لكل العصور؛ فقد عبر عن شكه في قصيدة أعاد فيها صياغة عبارة لشاعر الرومان الأثير لديه «هوراس» وقال فيها: حتى الطوفان لم يدم إلى الأبد، فذات يوم تسربت المياه السوداء. حقا، ما أقل المياه التي استمرت وقتا أطول من ذلك.
وقد علق برشت نفسه على هذه الأبيات القليلة بقوله: «من أراد أن يقفز قفزة كبيرة فلا بد له من أن يتراجع عدة خطوات. إن اليوم يتغذى من الأمس ويواصل مسيرته نحو الغد. ربما ينظف التاريخ المائدة من كل ما عليها، ولكنه يتخوف دائما من المائدة الخالية.»
وأخيرا فإذا كانت بلاد هذا الشاعر ومعها العالم المثقف يحتفلان في هذا العام بالذكرى المئوية لميلاده، فالمغزى الباقي لهذا الاحتفال هو أن يقرأه الناس قراءة جديدة على ضوء الحاضر الذي يعيشونه والتغيرات المدوية التي تمت بعد موته (راجع ما سبق قوله). لا شك أن بعض إنتاجه لن يحتفظ إلا بقيمة تاريخية، لكن الكفاح المستمر من أجل «التغيير» الذي وضعه نصب عينيه ووضعته هذه المقدمة في بؤرة الاهتمام هو الذي يمكن أن يستفزهم للمزيد من التفكير النقدي الحر لتحقيق ما يمكنهم تحقيقه من تغيير (راجع قصائده عن الموقف النقدي والشكاك والجدل وسيولة الأشياء، وسائر القصائد التي تلح على ضرورة العمل على التغيير والتجديد وسبقت الإشارة إليها). ومع أن التطبيق الاشتراكي قد سقط لأسباب يصعب حصرها، فإن الاشتراكية الإنسانية الحرة - بعد أجيال من المجددين لها والمحتجبين على مختلف تطبيقاتها الستالينية والفاشية السابقة - لا يمكن أن تموت كمنهج ورؤية للوجود، بل إنها تحاول اليوم أن تجدد نفسها في أماكن كثيرة من العالم لتواجه أكاذيب المهيمنين الجدد على أقدار البشر. وأحسب أن الكفاح الطويل لهذا الكاتب والشاعر في سبيل السلام والوحدة والأمن والسعادة والتقدم لشعبه ولكل الشعوب، وتكريس قلمه لقضايا واقعية محددة - كالنضال ضد الحرب والاستبداد، وتوعية الرجل العادي وتنويره وتغييره ... إلخ مع بقاء شعره شعرا وفنه فنا - يمكن أن تعلمنا الكثير. لقد كان يسأل نفسه على الدوام ويطالبنا بأن نسأل أنفسنا: من أنا؟ ولمن أكتب؟ بماذا ينتفع القارئ مما أكتب؟ هل سيساعد ما أكتبه على إيقاظ الوعي؟ هل هو مرتبط بالواقع الراهن؟ كيف يكون سلوك الناس عندما يصدقون ما نقوله لهم، ثم كيف يمكن أن يتصرفوا بشكل عملي وعقلاني حر؟ (راجع قصيدة الشكاك وغيرها من القصائد الجدلية والقصائد الموجهة إلى الرجل العادي مثل: امتداح التعلم، وعامل يسأل أثناء القراءة، وولدي الصغير يسألني) وهي أسئلة ينبغي أن نذكر أنفسنا بها ونذكر التائهين في غيبوبة التجريب الجامح الملغز، والثرثرة الخادعة المتعالية بما يردده غيرنا (من المترفين البعيدين عن قضايانا ومحننا وأوجاعنا) - عن موت المؤلف وغياب «الرسالة»، عن الأدب والفن وتقديس النص إلى آخر ما يتردد على بعض الألسنة والأقلام. ولو نجحت هذه القصائد المختارة في حفز القارئ على إعادة التفكير في تلك الأسئلة والعمل على التغيير والتطوير والتنوير كل في ميدانه وبقدر استطاعته، فسوف أكون راضيا عن جهدي القليل الذي لا يخلو بطبيعة الحال من الخطأ والسهو والتقصير.
12
أحمده سبحانه إن كنت قد وفقت، وأسأله العفو والصفح إن كنت قد أسرفت وتعثرت، فإليه ألجأ، وإليه المصير.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة في شهر يوليو 1998م
نامعلوم صفحہ