یہ سب کچھ ہے: بریشت سے نظمیں
هذا هو كل شيء: قصائد من برشت
اصناف
6
والفيلم على السواء، وتغيير النظرة السائدة للعلاقة بين الفن والمجتمع؛ لأن الأصالة تكمن في الاعتراف بأن الأبنية العظيمة لا يستطيع أن يشيدها فرد واحد (على حد قوله في ختام إحدى قصصه اللاذعة عن السيد كوينر). ومن هنا ألصقت به أيضا تهمة السرقة الأدبية والتسبب في نهب التراث دون أي حرج (كما فعل معه الناقد ألفريد كير بعد عرض أوبرا القروش الثلاثة التي اقتبسها عن الكاتب الإنجليزي جون جاي، فرد عليه مبررا ذلك «بمرونته المبدئية» في المسائل الخاصة بالملكية الثقافية، وبحقه المطلق في معالجة أي مادة يراها ملائمة لتحقيق أغراضه الفنية ورسالته الأدبية والاجتماعية). وكم أخذ واقتبس - كما سبق القول - على طريقته من الكلاسيكيين القدماء - وبخاصة سوفوكليس وهوراس - ومن المحدثين - وعلى رأسهم شكسبير - وكم تناول من أفكار وقصص وحكايات شعبية بمجرد سماعها أو قراءتها، مع الحرص دائما على «رفع» هذه المادة - بالمعنى الذي يفهم من عملية الرفع في المثلث الجدلي المشهور عند هيجل! بحيث يتم تشكيلها وصياغتها من وجهة نظره الواقعية والكفاحية التي تهدف في النهاية إلى التغيير.
وتأتي سنة 1926م بأهم «تحول» مثير في حياة برشت، وإن كان هذا التحول قد جاء نتيجة طبيعية لتصوره للواقع وتغلغله في حياة «الطبقة الدنيا» ومتاعبها ومآسيها اليومية، بحيث أصبح إنتاجه في هذه المرحلة بالذات (حتى سنة 1931م) وفيما بعدها مرآة لعصره، وتعبيرا عن تفاعله مع القضايا الواقعية والمشكلات الملحة، بعد أن بقي بصورة أو أخرى مرتبطا بحياته الشخصية (ولا أقول الذاتية!) قيل عنه إنه لم يكن يكف في هذه الفترة عن الاختلاط بالعمال، وأنه كان يتعمد أن يظهر بينهم بملابس عمالية فقيرة مبقعة وملطخة بالشحم والزيت، بل يزعم صديقه الحميم، فيلسوف الأمل والمستقبل «اليوتوبي» إرنست بلوخ (1885-1977م) أنه ابتكر آلة فضية معقدة لتلويث أظافره حتى يثبت انتماءه للعمال وانشقاقه عن طبقته البرجوازية. والمعروف أنه لم ينضم أبدا لأي حزب من الأحزاب «التقدمية» الكثيرة في العشرينيات، ولم يثبت أنه شارك بأي نشاط عملي في التنظيمات العمالية أو في الحياة السياسية والاقتصادية المضطربة قبل انهيار حكومة فيمار بعد سنة 1930م وزحف جحافل القطعان النازية السوداء على السلطة، وكل ما يمكن قوله هو أنه حرص على البقاء بالقرب من «العاديين» الذين نظلمهم عندما نصفهم بأنهم الدهماء والعامة والرعاع. ومن أهم معالم هذا التحول البارز أنه أقبل في هذه المرحلة على قراءة ماركس (وهيجل بطبيعة الحال!) وتعلم الكثير من الماركسية ومن كتاب رأس المال، لا سيما نظرية ماركس عن فائض القيمة والأزمات الدورية للرأسمالية والصراع الطبقي والحتمية التاريخية لانتصار الاشتراكية إلى آخر ما يعرفه القارئ، وكان وراء توجهه لكتب ماركس الأزمة الطاحنة التي عرضت بورصة الغلال للانهيار ولم يجد لها أي تفسير معقول (حاول أن يعالجها في صيغة مسرحية بعنوان جو فارم اللحم ولكنه لم يتمها أبدا ولم يبق من مشروعها سوى بعض الأغنيات).
ولا بد في هذه العجالة من القول باختصار شديد بأن اعتناقه للماركسية لم يرتبط بأي «أدلجة» للأدب والفن، وأن اقتناعه بها لم يبلغ أبدا حد التزمت الضيق أو التحجر المذهبي المغلق في إطار نظري فوقي يمكن أن يفرض على الواقع الذي علمته الماركسية نفسها أنه جدلي متغير، كما هدته بصيرته الشعرية وحاسته الفنية والدرامية إلى أن هذا الواقع هو الذي يفرض الشكل الأدبي أو الفني الملائم له ولا يصح أبدا أن يفرض عليه الشكل أو تفرض النظرية، حتى ولو كانت هي الواقعية الاشتراكية التي تحمس لها على طريقته.
كانت الماركسية بالنسبة إليه هي «المنهج» الذي يمكنه من فهم الواقع المتغير، وتحديد أسلوب الممارسة العملية والعقلانية الصحيحة، وإدراك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في سياقها التاريخي والإنساني إدراكا بعيدا عن الوهم والتزييف (الذي كانت ولم تزل تقوم به أجهزة الإعلام للتسلية وتغييب العقل النقدي وخلق المتلقي السلبي الذي لا يشارك فيما يتلقاه ولا يتخذ منه موقفا ولا يتحداه ...) والحق أن برشت قد اتجه إلى الماركسية كشاعر وفنان قبل كل شيء، وأنه حول هذه الفلسفة - التي لا يشك أحد في أنه أخذ منها رؤيتها المادية للوجود والمعرفة والتفكير، وجوهرها الإنساني كما نجده على الأخص في كتابات ماركس الشاب ومخطوطاته الشهيرة التي اعتمد عليها مجددو الماركسية (الذين لم تغب محاولاتهم عنه كما كان بعضهم من أعز أصدقائه مثل فالتربنيامين وبلوخ الذي سبق ذكره، إلى جانب اعتباره في نظر الاشتراكيين الفاشيين والستالينيين المتشددين أحد المنشقين عنهم
7 ... أقول إنه حولها إلى إطار نظري ومنهجي لرؤيته الشعرية. والأهم من ذلك كله أنه اعتمد عليها اعتمادا كبيرا في صياغة نظريته المعروفة عن «المسرح الملحمي» وعن أثر «الإغراب» المشهور وضرورة إحداثه في وجدان المتلقي وعقله ليزداد وعيا بما يدور أمامه على خشبة المسرح من متناقضات ومفارقات تستفزه للنقد والتحدي والتغيير (لاحظ بهذه المناسبة صلة القرابة - حتى في لغتنا العربية - بين اغتراب الإنسان أو تغريبه في ظل العلاقات الاجتماعية الرأسمالية كما تحدث عنه ماركس، وبين «الإغراب» البرشتي الذي يهدف إلى تخليص الإنسان - عن طريق الفن وفن المسرح بالذات - من ذلك الاغتراب الأساسي).
ومجمل القول إننا نظلم برشت إذا تصورنا أنه كان مجرد داعية للماركسية أو الشيوعية أو محرض على تبنيها، لا لأنه يؤمن أعمق إيمان بحرية القارئ والمشاهد تجاه ما يقدمه له في الشعر والمسرح من نماذج واقتراحات كما سبق القول، ولا لأنه - بمكره الفني الشديد! قد استطاع أن «يوظف» الماركسية في تفكيره الواقعي والعملي والعقلاني، وفي رؤيته للأحداث والظواهر الاجتماعية والتاريخية والأدبية رؤية جمالية وجدلية كما سبقت الإشارة لذلك أيضا، بل لأن أعماله نفسها - حتى في المرحلة التي توصف بالمرحلة التعليمية في حياته وإنتاجه والتي استمرت من حوالي سنة 1927م إلى حوالي سنة 1931م - لم تكن أعمالا تدافع عن قضايا معينة أو تدعو إليها، وإنما كانت في حقيقتها «تدريبات» فنية وجمالية في مواجهة الفن «البرجوازي» المتهالك والمبرر لمجتمع الظلم والاستغلال وتجارة الحروب، وفي مواجهة الإعلام والأدب المزيف والمغيب لعقل المتلقي وحريته واستقلاله كما سبق القول، وحتى مسرحياته التعليمية التي تتردد فيها لهجة المهيج أو المحرض على الثورة الجماعية للعمال والفقراء والمستغلين والمظلومين والمحرومين وتحثهم على التضامن لدرء الخطر النازي البادي في الأفق كما نرى في الاستثناء والقاعدة ومسرحية الأم - عن رواية مكسيم جوركي الشهيرة - ومسرحية القرار أو «الإجراء» التي سبق ذكرها وبقي أن أقول إنه في أواخر حياته كان يرفض عرضها على المسرح رفضا باتا، إلى جانب فيلمه الكروش الرطبة 1930م. أقول إن كل هذه المسرحيات التعليمية أو التحريضية التي لم يكتب لها النجاح لم تكن سوى تشخيص فني على خشبة المسرح لفلسفته الواقعية والعقلانية والعملية - إلى حد النفعية البرجماتية! ولم تكن بأي حال من الأحوال مسرحيات دعائية تروج لنظرية فلسفية محددة يعلم هو نفسه أكثر من غيره أنها كسائر النظريات - حتى الجمالية والفنية كما قلت - قابلة للتغير على ضوء الواقع الذي لا يجوز أبدا أن يحشر في قوالبها، وأنها قدمت له من مناهج التفكير والرؤية والفعل ما كان ملائما لطبيعته وحاجته، وأنه في النهاية قد استطاع أن يحول تلك الفلسفة التي انهار تطبيقها بعد رحيله إلى تجارب فنية وتدريبات مسرحية جماعية، وكان هذا الانهيار نتيجة طبيعية للتزمت المذهبي والغباء البيروقراطي والتجني الرهيب على حقوق الإنسان في حرية التفكير والاعتقاد والعمل، بالإضافة للتصفيات المستمرة وأعمال القهر التي ضاق بها وأعلن احتجاجه عليها في أواخر حياته كما يشهد على ذلك خطابه الشهير لأولبرشت حاكم ألمانيا الشرقية السابقة بعد تمرد العمال المشهور في شهر يونيو 1953م وقصيدته الشهيرة «الحل» التي تجدها في هذا الكتاب). ومع اعتقادي بأنه بقي على اقتناعه وإيمانه بالاشتراكية وبقدرتها على التجدد في المستقبل طبقا للإمكانات الإنسانية والمعرفية الكامنة فيها ولإمكانات الواقع المتجدد، فالمهم في هذا السياق أنه حول «النظرية» أو المذهب إلى فلسفة حية على المسرح وفي الشعر، وأنه وظفها فيما يمكن وصفه بفلسفة رجل الشارع - الفقير والجائع والضحية الدائمة لكل الجلادين - وأنه - ككل إنسان وفنان حقيقي - مطلق الحرية في أن يتبنى النظرية أو الفلسفة التي يشاؤها، بشرط أن يجسدها في فن صادق حي لا يموت بموت النظرية أو الفلسفة - كما تشهد على ذلك أعمال الشعراء والأدباء والفنانين الكبار التي لا تزال خالدة رغم التغير الحتمي للنظريات والآراء والفلسفات التي جرفتها أنهار التغير والتحول عبر العصور والحضارات.
وصدق حدسه وبعد نظره عندما تنبأ بالكارثة قبل وقوعها؛ فقد أحس مع غيره من المثقفين في العشرينيات بأن جمهورية فيمار (1818-1933م) الهشة آيلة للسقوط، وأن العصابات النازية التي افتضحت نواياها وجرائمها تواصل زحف الوحوش للاستيلاء على الحكم تمهيدا لإشعال نيران الحرب. ولم يكن «التحول» الماركسي ولا المسرحيات التعليمية والثورية التي سبقت الإشارة إليها سوى محاولات يائسة لفتح الأعين على الخطر القادم لا محالة، ودعوة للعمال والفقراء والغافلين المخدوعين من أبناء الطبقة الدنيا للتضامن والمواجهة، ولكن هذه الأعمال لم يكن لها صدى يذكر، ولم تحدث التأثير الذي توقعه منها. كانت الساحة السياسية والاقتصادية كالبحر العاصف المضطرب الذي لا تستطيع حتى ربات الفنون أن تعيد إليه السكينة أو تقيم في ظلماته منارة العقل. وبقي «البرجوازي» العادي غبيا لا يتعلم ولا يحاول تجاوز الماضي والحيلولة دون أن تتكرر مآسيه.
استولى النازيون على السلطة، ولم يخالج برشت أي شك في أن «هتلر» هو الحرب، وقوي يقينه باستحالة الحياة والعمل تحت سقف القمع والإرهاب المظلم بعد الحريق المشهور للبرلمان الألماني (الرايشستاج) في السابع والعشرين من فبراير سنة 1933م، فصمم على الهرب من بلاده بأقصى سرعة ممكنة. واتجه إلى الدانمرك عن طريق براغ وفينا وباريس حيث استقر مع عائلته ومساعدته الوفية مرجريت شتيفين في منفاه بالقرب من ميناء سفندبورج الصغير ما يقرب من سبع سنوات كانت من أطيب وأخصب سنوات حياته وحبه وإبداعه (يكفي القول بأنه استطاع أن ينجز ثلاثة من أهم مسرحياته تعد من أهم المعالم البارزة في الإنتاج المسرحي في القرن العشرين، وهي الأم شجاعة وأبناؤها، والإنسان الطيب من ستشوان، وحياة جاليليو جاليلي في صيغتها الأولى، بالإضافة إلى عدد كبير من القصائد التي تعرف بقصائد سفندبورج، وتجد مختارات منها في هذه المجموعة المنتخبة وتدل على اتجاه شعره إلى الملحمية واستفادته من التراث الشرقي في تعبئة كل أسلحته الفنية ضد الحرب). تحول إنتاج برشت في غربة المنفى التي استمرت قرابة الخمسة عشر عاما تحولا تاما إلى مكافحة الفاشية، وجند لذلك كل موضوعاته وإمكاناته اللغوية والشعرية على أمل تقوية العناصر المناهضة للرعب النازي داخل بلاده وخارجها، ومن الاتجاهات اليمينية واليسارية على حد سواء، لعل الجميع يتعاونون - بعد القضاء على النازية التي لم يشك لحظة في هزيمتها الحتمية - لخلق ألمانيا أخرى موحدة وحرة وأكثر إنسانية. وكان أشد ما غاظه في تلك الفترة العصيبة هي تلك التيارات السياسية التي لم ير أصحابها في النازية سوى البربرية المعادية للثقافة أو الحضارة التي ينبغي توجيه النضال لإنقاذها من براثنها، وكأن الانتصار على الوحش البربري الأشقر كفيل باستقرار قيم الحق والعدل والعقل والسعادة والسلام! ولكن الأمر في نظره كان أكثر تعقيدا وأعمق جذورا؛ إذ لا مفر لتحقيق ذلك «الحلم الممكن» من تغيير العلاقات الاجتماعية وعلى رأسها علاقات الملكية تغييرا يلغي أي فرصة لعودة الظلم والاغتراب واستغلال الإنسان للإنسان وتنشيط التجارة القذرة المدمرة بإشعال فتيل الحروب الكبيرة والصغيرة كلما خبت نيرانها. يدل على هذا أنه دعي سنة 1935م لحضور المؤتمر الدولي للكتاب الذي عقد في باريس للدفاع عن الثقافة - أو الحضارة - وإنقاذها من مخالب الفاشيين. كانت الجبهة الموحدة من الرأسماليين الليبراليين والبرجوازيين المسيحيين والاشتراكيين الديمقراطيين والشيوعيين وراء الدعوة لهذا المؤتمر وتنظيمه، وكان من بين المشاركين والمتحدثين فيه شخصيات أدبية وفكرية مرموقة: مالرو وباربوس وجيد وهينريش مان وه. ج ولز وإرنست بلوخ وروبرت موزيل وبرتولت برشت الذي سارع بالحضور من منفاه الدنمركي «تحت سطح من القش». كان هو الوحيد الذي لم يتكلم عن الكلمة (التي نامت عندما صحا ذلك العالم الفاشي على حد تعبير صديقه النمسوي كارل كراوس)، ولا عن ضرورة إنقاذ القيم الثقافية الرفيعة من الغرق في الدم والتلوث برماد الخراب؛ لأن الذي يخنق تحتبس الكلمة في رقبته على حد قوله في إحدى قصائده. لذلك كان هو الوحيد الذي أثار سخط الجميع واستهجانهم عندما خاطب المؤتمرين قائلا : «أيها الزملاء والرفاق، فلنتكلم عن تغيير علاقات الملكية.»
عرف برشت - كما سبق القول - أن وصول هتلر إلى الحكم معناه الحرب. ولم تتركه الحرب ليواصل حياته السعيدة المنتجة تحت سطح القش الدنمركي (الذي كان في الحقيقة فيلا جميلة ذات حديقة واسعة هيأت له ولأسرته سنوات عامرة بالهدوء والحب والإنتاج الخصب بفضل صديقاته وأصدقائه الدنمركيين!) واضطر أمام الزحف النازي على الدنمرك والنرويج أن يهرب مرة أخرى إلى السويد ثم إلى فنلندا (1940م) حيث أقام فترة قصيرة واستخرج جواز سفر إلى الولايات الأمريكية المتحدة التي سافر إليها عن طريق الاتحاد السوفيتي (لم يخطر على باله أن يلجأ إليه كما فعل غيره بسبب اعتباره ماركسيا منشقا في نظر الستاليين المتشددين كما سبق القول).
نامعلوم صفحہ