ومن السهل أن ندرك أن دينا يبلغ عدد أتباعه خمسمائة مليون لا يقوم على المبادئ الفلسفية الفاترة، ويعذر بعض العلماء إذا أخطئوا فقالوا غير ذلك ما أفنوا أعمارهم في دراسة الكتب، لا دراسة الرجال، وإذا مرت ثلاثة آلاف سنة وتبدل مركز الحضارة ونسيت كتبنا ولغاتنا كان من المحتمل، حينئذ، أن يكتشف بعض الأساتذة اللغة الإنجليزية فيترجموا أول ما يعثرون عليه من الكتب، ككتاب الأصول الأولى لسبنسر وكتاب أصل الأنواع لداروين، فيدعوا أن خلاصة المذاهب التي كانت تمارسها الأمم النصرانية في القرن التاسع عشر من الميلاد.
وعلى الباحث ألا يجهد نفسه في البحث عن هندوس؛ ليفترض أنهم استطاعوا ممارسة دين بلا آلهة، فكيف تجد هندوسيا لا يعبد آلهة والعالم عنده زاخر بها؟ فالهندوسي، بالحقيقة، يصلي للنمر الذي يفترس أنعامه، ولجسر الخط الحديدي الذي يصنعه الأوربي، وللأوربي نفسه عند الاقتضاء.
شكل 3-10: بندرابن. معبد مدن موهن «أنشئ في القرن السابع عشر»، «يبلغ ارتفاع البرج 21 مترا و40 سنتيمترا.»
حقا، قد يحفظ الهندوسي على ظهر القلب كتابا من كتب بدهيي الجنوب، كالذي ألف حديثا تحت إشراف لجنة من الأوربيين، يعلمه أنه لا خالق للعالم وأن كل ما فيه وهم، ولكن هذا لا يمنعه من أن يشعر باحتياجه إلى عبادة بدهة الأعظم وجميع مجمع الآلهة الذي يملكه بدهة هذا، وحقا يشتمل كتاب «لليتا وشتار»، الذي هو أقدم الكتب البدهية والذي يرجع إلى نحو ألف وثمانمائة سنة، أي إلى زمن حل بعد ظهور بدهة بنحو ستمائة سنة، على مباحث في الأوهام وبطلان أمور هذا العالم، ولكن من ذا الذي علمه بدهة هذا؟ علم أولا، الآلهة الكثيرة التي تجد لها ذكرا في كل صفحة من ذلك الكتاب والتي حضرت ولادته وعلى رأسها الإله برهما فألهته فأخذت ترافقه فعبدته في نهاية الأمر.
أجل، إن ذلك الكتاب محشو بالمتناقضات، غير أن هذه المتناقضات لم تكن لتبدو للهندوسي، ففكر الهندوسي قد صهر في قالب غير الذي صهرت فيه أفكارنا.
لا عهد للهندوسي بالمنطق الأوربي، ولا تجد كتابا من كتبه، التي تترجح بين ديواني راماينا ومهابهارتا الحماسيين من جهة والكتب الفلسفية التي أشرنا إليها آنفا من جهة أخرى، غير زاخر بالمتناقضات، فالمنطق، وإن وجد في هذه الكتب، ليس سوى منطق نسوي يفرط، أحيانا، في استخراج النتائج إفراطا لا يعبأ معه بالمتناقضات.
إذن، يجب على من يريد أن يعلم أمر البدهية ألا يغفل عما لا غنية لديانات الهند عنه من الآلهة، وذلك عند النظر إلى التأملات الفلسفية التي تنضدت فوق البدهية، فلم يحاول بدهة، خلافا للخطأ الشائع، أن يزعزع الآلهة البرهمية، كما أنه لم يحاول أن يمس نظام الطوائف، فلم يكن أي مصلح من القوة ما يستطيع أن يدك به ركن نظام الهند الإجتماعي ذلك.
وما تقدم يدل بسهولة على أن البدهية لم تكن غير تطور بسيط للبرهمية؛ وذلك لمحافظتها على جميع آلهتها، ولأنها لم تغير سوى أدبها، ومما لا ريب فيه أن البدهية اختلفت عن البرهمية قليلا بعد مرور عدة قرون، ومن المشكوك فيه أن تكون قد عدت دينا جديدا في البداءة، ولا شيء يدل على أن أشوكا اعتنق دينا جديدا، ولا تكاد تجد غير ذكر أو ذكرين لبدهة في مراسيم هذا الملك التي ملأ الهند بها فانتهى إلينا عدد كبير منها، ففي هذه المراسيم أوصى بالتسامح تجاه جميع المذاهب الدينية التي كانت البدهية واحدة منها، والتي بدت جديرة بالتكريم لما اشتملت عليه من روح مؤسسها، ابن الملك الشهير، المملوءة محبة.
شكل 3-11: مترا. برج ساتي بوري «القرن السادس عشر»، «يبلغ ارتفاعه 17 مترا.»
وسنثبت، بعد قليل، أن البدهية غابت عن الهند بسبب اندماجها في البرهمية القديمة مقدارا فمقدارا، وفي خارج الهند من البلاد، كبرمانية وكمبوج، التي استقرت البدهية بها، رافقتها الآلهة البرهمية، ولكن هذه الآلهة إذ كانت مما لم تعرفه تلك البلاد العاطلة من البراهمة ذوي المآرب في تفوقها حافظ بدهة فيها على ما خسره في الهند من النفوذ البالغ، ومن الجدل الكبير ما دار حول مباني أنغكور الشهيرة؛ ليعرف هل هي بدهية أو برهمية لاختلاط ما يشاهد فيها من الرموز البدهية والشيوية، وما كانت هذه المجادلات لتحدث لو درس العلماء مباني الهند، ولا سيما مباني نيبال، قبل أن ينعموا النظر في مباني كمبوج فمنها، كانوا يتبينون اختلاط المذهبين كما أنهم كانوا يتبينونه في البلد المجاور برمانية، فمما اطلع عليه الموظف الإنجليزي السابق في برمانية مستر ويلر أن البرمان، الذين هم بدهيون كما هو معلوم، يعبدون، أيضا الآلهة الويدية ولا سيما إندرا وبرهما وأن بلاط ملك برمانية يحتوي على براهمة، ومما اطلع عليه ذلك الموظف الإنجليزي، أيضا، أن خانات المغول بآسيا يعبدون الآلهة الويدية في جوار جبل آلتائي.
نامعلوم صفحہ