قام الإنجليز مقام البرتغاليين والهولنديين شيئا فشيئا، ولكنهم لم يعتموا أن قابلوا أعداء آخرين طامعين في فتح الهند وجها لوجه، فرأوا أن يزيلوهم من طريقهم أيضا، فهؤلاء المنافسون الجدد هم الفرنسيون الذين أخذوا يثبتون أقدامهم في الهند وإن أتوها متأخرين، فقد أنشئوا في سنة 1664 شركة فرنسية للتجارة في الهند تحت رعاية كولبر.
لم تفكر دولة أوربية ثانية في بسط سلطانها، ولو قليلا، على جزء من داخل الهند ما ظلت دولة المغول قائمة، مكتفية بما لها من المؤسسات في سواحلها، ولكن أبواب المطامع فتحت بوفاة أورنغ زيب الذي كان موته نذير انهيار سلطان المغول، فلما تم انحلال الدولة المغولية العظمى قامت على أنقاضها عدة ممالك، فصار من الممكنات إقامة إمبراطورية جديدة في الهند بالتدخل فيما يقع بين أمرائها الكثيرين من المنازعات الداخلية، وفي الهند كان الفرنسيون والإنجليز وحدهم ثابتي الأساس قادرين على وراثة تلك التركة التي يتنازعها كثير من الخصوم، فلسرعان ما اصطرعوا. (3) الصراع الفرنسي الإنجليزي في الهند
أول نزاع بين الفرنسيين والإنجليز كان في جنوب الهند، ففي جنوب الهند كانت الفوضى عظيمة، فكان معظم الدكن ملكا لمملكة حيدر آباد المستقلة، وكان أمير أركت يدير كرناتك بالنيابة عن حيدر آباد، وكان أقصى الجنوب مقسوما بين الممالك الهندوسية: ترى جنابلي وميسور وتانجور، وكان الفرنسيون يملكون بونديجيري ومتاجر غير ذات قيمة في ماهي وكاري كل وجندر نغر، وكان الإنجليز يملكون مدراس وبمبي ومرافئ كثيرة على الشاطئ، وكان المراتها يشنون الغارات على كل مكان.
وقعت الحرب بين فرنسا وإنجلترا في أوروبا سنة 1740 فعن لدوبليكس الذي عين سنة 1741 حاكما عاما للممتلكات الفرنسية في الهند أن يطرد الإنجليز من الهند وأن يحولها إلى إمبراطورية فرنسية، فوفق سنة 1746 لإجلاء الإنجليز عن أكثر مراكزهم، ولا سيما عن مدراس بعد وقائع كثيرة، فلم يلبث أن أصبح سيد ساحل الهند الشرقي بأسره، وهو إذ رأى أنه لا يقدر أن ينال من حكومته رجالا ولا أموالا عقد عزيمته على عدم مطالبتها بأي مدد، وعلى فتح أعظم إمبراطوريات العالم، وطرد جميع الإنجليز بمئات الأوربيين الذين هم كل من بقوا عنده مستعينا بنائبه بوسى.
واغتنم دوبليكس فرصة وفاة نظام حيدر آباد فأجلس أحد أنصاره على عرشه، وتمكن من نصب أمير موال على أركت، ودوبليكس ذلك عين، في مقابل ما ساعد به كثيرا من الأمراء، أميرا على جميع البقاع الواقعة جنوب نهر كرشنا، أي على بلاد تعدل فرنسا مساحة، ويزيد دخلها عن خمسة عشر مليون فرنك، وهكذا استفحل أمر دوبليكس وعظم نفوذه من غير أن يكلف فرنسا شيئا، فلما رأى الإنجليز أنهم كادوا يجلون عن جميع ما يملكون في الهند تذرعوا بحوك الدسائس في قصر فرساي، فاستطاعوا، بوسائل لا يزال أمرها سرا غامضا، أن يحملوا لويس الخامس عشر على استدعاء دوبليكس وعلى ترك جميع ما فتحه، فكان هذا أخزى عهد قطعه ملك فرنسي.
يئس دوبليكس فعاد إلى فرنسا ليموت فيها بائسا، ومن المؤسف أن أطاع أمر استدعائه بعد أن أصبح، بالحقيقة، أمير عدة ولايات واعترف ملك المغول بإمارته وعاد لا يخشى ضياعها، فلو خالف أمر مولاه ذلك لأسدى إلى فرنسا خدمة لا تقدر بثمن ما دامت تلك المعاهدة الشائنة لم تحل دون محاربة إنجلترا ثانية في سنة 1757، ولم يكن مجديا عزم فرنسا، إذ ذاك، على تجديد ما صنعه دوبليكس بعد أن أقصي عن الهند هذا الرجل العظيم، فخلفه الأسيف لاللي الذي جهز بوسائل لم ينل دوبليكس مثلها في أي زمن، فلم تنفعه هذه الوسائل ما عطل من دهاء كدهاء دوبليكس ضروري لتمام النصر له، فقد غلب في كل مكان؛ فخسر في سنة 1761 حتى بونديجيري فعاد إلى فرنسا فحكم عليه بالقتل، فقتل مع أن الإنصاف يقضي بقتل أولئك الذين استدعوا دوبليكس فأضاعوا على فرنسا إمبراطورية الهند.
تخلص الإنجليز من مزاحمة الفرنسيين، فخلا لهم الجو، فاتسعت فتوحهم بتدخلهم الدائم فيما كان يقع بين الأمراء المحليين من منازعات، وبتسليط بعض هؤلاء الأمراء على بعض، فكانت هزيمة ملك ميسور الأخير تيبو صاحب في سرنغابتم في أواخر القرن السابق، وكانت محارباتهم الطويلة للمراتها في أوائل هذا القرن الصفحات الأخيرة المهمة لفتحهم الهند، ثم ضمت إليهم بالتدريج الممالك الهندية التي لم يستولوا عليها بعد متذرعين للوصول إلى هذا بأية ذريعة، وعاد الأمراء، الذين لم تنزع أملاكهم لما قاموا به من الخدم، لا يمارسون سلطة سياسية، وأضحوا معدودين من أتباع إنجلترا، ومملكة نيبال وحدها هي التي حافظت على استقلالها التام إلى أيامنا. (4) كيف فتحت الهند
ليس من مقاصدنا أن نفصل في هذا الكتاب الوقائع التي قام بها الإنجليز لفتحهم الهند، ولكن من المفيد أن نشير إلى المبادئ العامة التي سار الإنجليز عليها، وتلك المبادئ قد اهتدى إليها دوبليكس الذي هو من أكبر دهاة التاريخ، فأنصفه الإنجليز فأقروا بأن اتخاذهم لأساليبه أدى إلى فتحهم الهند التي لم يحلموا بتدويخها في أي زمن، فاسمع ما قاله المؤرخ الإنجليزي الكبير ماكولي:
دوبليكس هو أول من أدرك إمكان إقامة إمبراطورية أوربية في الهند على أنقاض المملكة المغولية، فقد وضع هذا الداهية ذو النظر الثاقب خطة ذلك حين كان أمهر موظفي الشركة الإنجليزية لا يفكرون في غير تنظيم قوائم الأوساق
4
نامعلوم صفحہ