152

بيد أنه كان للغارة العظيمة الجديدة التي شنها العرب شأن آخر، فلما حشر العرب جموعا كثيرة في إفريقية حولوا فريقا كبيرا من البربر إلى عرب.

وتدفق العرب كالسيل على إفريقية في أواسط القرن الحادي عشر، أي في وقت كان البربر قد استردوا فيه استقلالهم تقريبا، واستقروا بشمالها، ودحروا البربر إلى جبال التل وإلى البقاع الجنوبية.

شكل 5-10: محراب مسجد سيدي الحبيب في القيروان (من صورة فوتوغرافية).

وقام بذلك الغزو أعراب الحجاز الذين كانوا يقطنون بمصر العليا في زمن الخلفاء الفاطميين، والذين بلغ ما قاموا به من أعمال السلب والنهب مبلغا أصبحت الإقامة بها لا تطاق معه، فعزم الخليفة المستنصر على الخلاص منهم بحضهم على بربر إفريقية وإغرائهم بهم.

وكان الأمر غارة أمة، لا غارة عسكرية، فقد ظعن أولئك العرب رجالا وأولادا ونساء وقطاعا عن مصر، وروى بعض علماء العرب أن عدد الظاعنين كان مليونا، وروى بعض آخر أن عددهم كان نحو 250000، والذي أراه أن الغارة الأولى لم تلبث أن ردفتها غارات كثيرة أخرى.

وتمت تلك الهجرة ببطء، ولم يملأ العرب شمال إفريقية إلا بالتدريج، فقد جاوز العرب طرابلس الغرب بعد أن مكثوا بها سنتين، وزحفوا خطوة خطوة، وولجوا في الأودية جماعات على مهل، واختلطوا بالسكان رويدا رويدا، وزاد عددهم شيئا فشيئا، وفرضوا، بفضل كثرتهم، على البربر عاداتهم ودينهم ولغتهم بعد بضعة أجيال، ولم يتركوا لأمراء البربر سوى سلطة وهمية، ولم يتفلت من نفوذهم غير القبائل التي دحرت إلى جبال التل وبعض البقاع الجنوبية.

ولم تؤد تلك الغارات إلى نتائج مدنية عمرانية؛ ففي إفريقية حافظ أعراب جزيرة العرب أولئك على جلفهم الذي هو نقيض كل ثقافة جدية، وأخذت تلك الحضارة، التي كادت تلمع، تذوي بسرعة.

ولم يؤد ما كان يقع بين القبائل من الفتن والفساد، وما كان يقع بين الدويلات المستقلة المتناظرة من القتال، إلى غير الانحطاط السريع، فلما ظهر الترك في القرن السادس عشر أمام الجزائر لم يصعب عليهم فتح شمال إفريقية بسرعة.

ومراكش وحدها هي التي حافظت على استقلالها العربي حتى الوقت الحاضر، ولكن مراكش لم تصن نفسها من الانحطاط الذي عم جميع ولاياتها شيئا فشيئا، فقد أصاب الوهن مدينة فاس التي كانت منافسة لبغداد في القرن العاشر، والتي روى مؤرخو العرب أن عدد نفوسها كان خمسمائة ألف، وأنها كانت تشتمل على ثمانمائة مسجد ومكتبة عامة زاخرة بالمخطوطات اليونانية واللاتينية، وأضحى سكان مراكش الذين قدر عددهم الآن بستة ملايين شخص، أو سبعة ملايين شخص، من مولدي العرب والبربر والزنوج. (3) مباني العرب في شمال إفريقية

لم تصب حضارة العرب في إفريقية ما أصابته من الازدهار في مصر والأندلس، وكان للعرب في إفريقية، مع ذلك، مدن مهمة وبعض مبان ذات قيمة، ولا سيما في زمن الأغالبة، وأنشأ العرب في إفريقية مدنا كالقيروان وتونس وفاس، وجددوا مدنا قديمة كتلمسان وبجاية والجزائر ... إلخ، ولم تكن نضارة تلك المدن غير مؤقتة، ولم يكن تنافس البربر وقلة استعدادهم للتمدن، وغارات أعراب العرب، وفقدان المراكز المهمة كبغداد في المشرق والقاهرة في مصر - مساعدا على تقدم الحضارة في إفريقية، ولا ينتظرن القارئ، إذن، بيانا عن مبان عربية مبتكرة ثمينة في إفريقية الشمالية كالتي في الأندلس ومصر، وسيرى القارئ في الفصل الذي خصصناه للبحث في تاريخ فن العمارة العربي أن عرب إفريقية لم يوفقوا في فنهم للتحرر من النفوذ البزنطي.

نامعلوم صفحہ