حضارة العرب في الأندلس
حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
اصناف
أما المرية فهي إحدى مدن الأندلس الكبيرة الواقعة في شرقيها، وهي على ساحل البحر الرومي (البحر الأبيض المتوسط)، وهي مرسى للسفن القادمة إلى هذه البلاد الأندلس - وفي مينائها يربض الجانب الأكبر من أسطول الأندلس الأعظم، والجانب الآخر يرسي في بجاية - وهي واقعة بين جبلين، فعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الآخر ربضها، والسور محيط بها وبالربض، وفي غربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض، ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات. وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة، وأحجار أولية، وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار، وطول واديها أربعون ميلا في مثلها، كلها بساتين بهجة، وجنات نضرة ، وأنهار مطردة، وطيور مغردة، وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام، وبها لنسيج طرز الحرير ثمانمائة نول، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللثياب الجرجانية والأصفهانية كذلك، ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف، وقد علمت أنه لا يوجد في بلاد الأندلس أكثر مالا من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر، وبها من الحمامات والفنادق نحو الألف، وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسنا، وفيها كثير من العلماء والأدباء والفلاسفة.
1
وجملة القول: إن المرية هذه كما رأيت تزخر بالحياة زخرا، وتنطق بنشاط المسلمين وجدهم، وبأقصى غايات عزهم لذلك ومجدهم.
فلو أن السماء دنت لمجد
ومكرمة دنت لهم السماء
ولما صافح مركبنا أمواه المرية - وكان يسير بحذائنا مركب آخر علمنا أن فيه أبا علي القالي اللغوي؛ وافد العراق، وسائر من قاموا معنا من الإسكندرية في مركب أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر - آنسنا من جانب الميناء «ميناء المرية» أسطولا كبيرا قادما علينا حتى إذا صار منا أدنى ذي ظلم،
2
أخذ يحيينا من فيه بالرايات والأعلام - وكان فيه الأمير عبد الرحمن بن رماحس؛ قائد أساطيل الأندلس الأكبر - إذ أمره مولاي الحكم ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين، ويجيء معنا إلى قرطبة تكرمة من الأمير لنا ولأبي علي القالي - حفظه الله - فكان من رجال ذلك الوفد شاعر الأندلس يوسف بن هارون الرمادي، وأبو بكر بن القوطية؛ سيد علماء اللغة في الأندلس، وابن رفاعة الألبيري؛ أحد أدباء ألبيرة، وفتى نشأ يتوقد ذكاء، ويقطر أدبا وألمعية، يسمى أبا بكر الزبيدي، وكثير غير أولئك من علماء الأندلس وأعيانها وقوادها. وهذه، عمرك الله، أية محسة على شدة عناية الأمير بالعلم وأهله، ولا بدع؛ فقد وقفنا من ذلك على الشيء الكثير الذي سما بهذا الأمير في أعيننا. فمن ذلك فيما تحققناه أنه يبعث الحين بعد الحين في شراء الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار، ويرسل إليهم الأموال لابتياعها؛ حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه في ربوعها ، وقد بعث في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة من قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري في شرحه لمختصر ابن الحكم، فهكذا هكذا تكون الملوك والأمراء، وبمثل هذا ينتعش العلم والعلماء.
ولما أرسى مركبنا والمركب الذي يقل أبا علي القالي على ميناء المرية، قدم لنا ابن رماحس جميع رجال الوفد الأندلسي وعرفنا بهم، ثم امتطينا المطايا الفارهة وذهبنا إلى دار ابن رماحس الكائنة في قصبة هذه المدينة.
ولما استقر بنا النوى، وألقينا عصا التسيار، وانتظم شملنا في تلك الدار، أخذ الرمادي الشاعر ينشدنا أبياتا له في إسماعيل بن عيذون القالي يمتدحه بها،
نامعلوم صفحہ