بزغت أنوار الإسلام وانتشرت تعاليمه في ربى الحجاز وفي ربوع اليمن، فأدخلت هذه الأمة في طور جديد، كان فاتحة لعصر من عصور الحضارة التي أبهرت العالم أجمعه في تلك الأيام، ولا تزال موضع الإعجاب إلى هذا الزمان، تلك الحضارة التي وضعت للناس أول أساس للحرية والإخاء والمساواة، وكانت مقدمة لما نشاهده من آثار العمران، وارتقاء المدارك وتقرير حقوق الإنسان.
إن المبادئ التي جاء بها الإسلام هي التي جمعت كلمة العرب وألفت بين قلوبهم؛ فتكونت منهم أمة واحدة متجانسة متماسكة، كانت قبل ذلك أشتاتا بعضها لبعض عدو، وهي في مجموعها بمعزل عن سائر الأمم والشعوب، كأنها في غير هذا الوجود تنبهت الأمة العربية من غفلتها، وأفاقت من غفوتها، وقامت من رقدتها، حينما أخذت بأوامر دينها الجديد، ودخلت في معترك الحياة، عملا بأوامر ربها ونبيها والنابغين من رجالاتها؛ فسادت العالم القديم في أقل من القليل؛ لأنها بلغت في مدة ثمانين سنة من عزة الملك، وضخامة السلطان، ورجحان الكلمة، واتساع دائرة النفوذ ما لم تبلغه أكبر الأمم القديمة حتى الرومان في عشرة أمثال هذه المدة من الزمان.
وبيان ذلك أن الخلفاء
1
الراشدين بعثوا سراياهم وكتائبهم فغزوا البلاد ودوخوا الأمم، ودانت لهم الممالك في قلب آسيا وشمال أفريقيا وغرب أوروبا، وبثوا أنوار دينهم، ووضعوا أساس المدنية العربية والعمران الإسلامي؛ فكان لهم في التاريخ العام مظهر جليل، دهشت له الأبصار وحارت فيه الأفكار، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وبعد الخلفاء الراشدين انتقلت الخلافة إلى الأمويين، فكان لهم الفضل الأكبر في تأثيل الملك، وتوطيد دعائم الخلافة، ونشر الآداب واللغة العربية، وتمهيد الوسائل لإقامة معالم الحضارة الإسلامية على أساس متين، وأكبر مميز لعصرهم هو احترام الحرية التي جاء بها الإسلام؛ فأمتعوا الناس باستقلال الفكر، فكانت ديار الأمراء ومعاهد العلم ملأى بالعلماء والشعراء، والكتاب الكتابيين وغيرهم، وكانوا أحرارا في عقائدهم وأعمالهم، وأمر الأخطل الشاعر النصراني ومجاهرته بعقيدته في الإسلام أشهر من أن يذكر، وكانت المرأة الكتابية زوج المسلم متمتعة بعقيدتها وذهابها إلى كنيستها أو بيعتها.
فقد تمتع الناس في عصر الأمويين بتمام الحرية في أشخاصهم وفي مجموعهم وأفكارهم، وفي عقائدهم لدرجة لا يتصورها إنسان في مثل ذلك الزمان، غير أنهم شطوا في هذا الميدان حتى انقلبت الحرية إباحة، والناس على دين ملوكهم، فإن الخلفاء في أواخر الأمر بالغوا في السكر والكفر لدرجة استباح معها أحدهم - وهو الوليد - ألا يبرح مجلس السكر إلى عرش الملك (حينما جاءته البشرى بالخلافة، وأتاه القضيب والخاتم مع البردة، وقدم له ندمانه فروض الإجلال والاحترام، ووقفوا في حضرته خاشعين خاضعين) حتى يغنوه بأبيات ارتجلها يهنئ بها نفسه، وهي:
طاب يومي ولذ شرب السلافه
وأتانا نعي من بالرصافه
وأتانا البريد ينعى هشاما
نامعلوم صفحہ