الطلياني الصقلي المتوفى سنة 1889، جمع كل ما كتبه مؤرخو العرب على جزيرة صقلية وطبعه في كتاب عربي، ثم ترجمه في مجلدين إلى اللغة الفرنساوية، وقد أكثر فيه من النقل عن النويري.
وحسبنا ذلك الآن دليلا على ما حواه ثلثا هذا الكتاب اللذان خصصهما المؤلف - رحمه الله - لفن التاريخ بكلياته وجزئياته، وأما الثلث الآخر - أي العشرة الأجزاء الأولى - فليس لدينا وقت الآن للتعريف بها والتنويه عنها، وبيان الأسلوب الذي اتبعه المؤلف في تحرير هذا الكتاب الجامع، ويكفي أن نعرف أن الفن الخامس، وهو التاريخ، قد استغرق كما قلنا 20 جزءا، أتى المؤلف فيها على التاريخ العام، وتواريخ الممالك والبلدان، وطبقات الأفاضل، وتراجم الأعيان، بما يشفي العليل ويروي الغليل، ولا جرم أن المقام ليضيق عن سرد ما حوته من رءوس المسائل وأصول المطالب؛ فلذلك نكتفي بما سبقت الإشارة إليه في هذه السطور الوجيزة.
هذا هو الكتاب الجليل الذي حرمت منه مصر، مع أن مؤلفه مصري، وقد استنسخ منه في حياته في مصر نحو 30 نسخة كاملة سوى النسخة التي كتبها المؤلف بخطه وباعها بألفي درهم (نحوا من 80 جنيها) وأغلب أجزائها موجود اليوم بهولندة في مدينة ليدن، ولا نكاد نجد خزانة كتب في الآستانة على تعددها هناك، ولا خزانة في أوروبا إلا وفيها نسخة من هذا الكتاب الذي كتبت منه النسخ البادية الذكر في مصر في حياة مؤلفه على عهد السلطان قلاوون، ذلك العهد الذي كانت فيه مصر غرة في جبين الأقطار؛ إذ انتشرت فيها العلوم والصنائع والفنون، وبلغت فيها منزلة سامية، وأكثر الآثار التي في دار الآثار العربية الآن كلها تنسب إلى ذلك العهد، وهو القرن الثامن للهجرة، الذي ألف فيه الوزير الجليل الذي تقدم ذكره، ابن فضل الله العمري، صاحب كتاب «التعريف في المصطلح الشريف»، كتابه النادر المثال، الذي ملأ صيته الآفاق، وهو «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، وهذا الكتاب من مفاخر مصر في ذلك العصر، ولقد استعان مؤلفه على تأليفه بأحوال ذلك الزمان، فإن بعض الدول كان يرسل سفراءه ورواده إلى بعض، وكان نصيب مصر منهم عظيما، وكان كلما ورد منهم وفد على مصر أخذ الوزير المذكور عنهم أخبارا ومعارف، ثم يعرضها على الوفود الأخرى لتمحيصها والإيقان من صدقها، ثم يضعها بعد إنضاجها في مؤلفه هذا، وهو موجود إلى الآن بمكتبة آيا صوفيا بالآستانة كاملا، لا ينقصه سوى الجزء الأول، وفي مصر منه خمسة أجزاء، خلاف بعض أجزاء في مكتبة باريس، وجزء في مكتبة تونس.
فكتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» هو الذي دعاني إلى زيارة صيدا، وذلك أنني سمعت منذ زمان وأنا في القاهرة أن ذلك الكتاب موجود عند أسرة مالطية في صيدا، فبذلت قصارى جهدي وأنا في القاهرة لنيله فلم أوفق، ولما ذهبت إلى الشام ذكرت الكتاب وموضعه فهممت ببلوغه، وعرجت على صيدا رجاء أن أناله، غير أنني بمزيد الأسف أخفقت في مسعاي، ولم أجد منه إلا مقدار ما هو عندي منه. ولم تفتني رؤية صيدا نفسها، فرأيت فيها آثارا تدل على أنها كانت محصنة منيعة، فهدم السلطان صلاح الدين الأيوبي في الحروب الصليبية أسوارها وحصونها؛ خوفا من امتلاك الصليبيين إياها وتحصنهم فيها، ولكن بقاياها تدل على منعتها، فإن شوارعها متعرجة، وكلها مبنية بالحجر الجلمود على هيئة القبو، وقد يدخل نصف القبو في المساكن لتكون الشوارع ضيقة فلا يتمكن العدو من امتلاكها، على فرض أنه دخلها وامتلك أسوارها.
المحاضرة السابعة: ثلاثة أجوبة
أيها السادة، إنما العصمة لله ولكتاب الله، فليس لإنسان مهما ضرب في العلوم بسهام نافذة، وكان أوفر الناس عقلا وأدقهم بحثا وتنقيبا وأعلاهم كعبا، أن تدفعه الأماني إلى طلب تلك العصمة، فالخطأ لا بد منه لكل إنسان، ولم يسلم منه إمام من أئمة سلفنا الصالح على علو منازلهم وجليل أقدارهم، وحسبنا أسوة من هؤلاء الأجلاء الإمام الفقيه مالك بن أنس، عالم المدينة الذي كانت العلماء تنكمش في حضرته في أركان ثيابهم، فإنه جمع في موطئه ستمائة ألف حديث، ثم تخير منها ستمائة فقط، وقد ذكر الإمام الشافعي عالم مكة - رضي الله تعالى عنهما - هذا الموطأ فقال: «هو أكثر الكتب صوابا.» «فأثبت» له الخطأ مع ذلك التحري والتمحيص من صاحبه.
والذي يفضل به بعض الناس بعضا إنما هو قلة الخطأ، والرجوع إلى الصواب متى وضحت محجته وأضيئت منارته، والإنسان لا يعلم أنه مخطئ حين يخطئ، وإلا لما أخطأ؛ فإن إنسانا أوتي ذرة من العقل لا يرضى لنفسه النقص، فلا بد من أن ينبه بعض الناس بعضا إلى الخطأ.
هذا والعلوم النقلية التي تصدرنا للكلام في فرع منها، وهو الحضارة الإسلامية، لا مجال للعقل فيها اللهم إلا في الاستنباط، ونحن نجمع أشتات محاضرات هذه الحضارة من كل ما كتب فيها باللغتين العربية والفرنسية إلا قليلا مما يجوز أننا لم نظفر به، ولا نروي من هذه الكتب إلا كلام الثقات.
ولقد نبهني منبه في صباح هذا اليوم إلى رسالة منشورة في «الجريدة» الغراء لصديق لي من الفضلاء، ينكر فيها أمرين مما جاء في المحاضرات الفائتة وفي خطبة افتتاح الجامعة؛ الأمر الأول: حقيقة ألف القنطار من الذهب التي دفعها ملك الروم إلى ملك الفرس ليرحل عن بلاده، والأمر الثاني: ثلاثة الملايين من المجلدات التي كانت في خزانة الكتب بطرابلس الشام.
وكذلك سألني سائل منكم بيان حقيقة الحروب الإسلامية، وأنها مدينة استعمارية، فلم أر بدا من الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة لإيضاح ما خفي منها.
نامعلوم صفحہ