تمر الأيام بحلوها ومرها على الأسرة المبتورة، ويصبح عبد الغني في الثانوية العامة، ويصبح عبد الودود في السنة السابقة لها؛ فقد كان الولدان ينجحان في كل عام في غير تفوق، وإنما هو نجاح متواضع هزيل، ولكنه نجاح.
وصابر طوال هذه السنوات حريص على فرض الله، وحريص أيضا على القيام بواجباته في الزراعة. يكاد لا يزور إلا بيت خاله مفيد.
وكانت ألفت هانم تستقبله أحسن استقبال؛ فقد كانت تقدر أنه أكرم ابنتها غاية الإكرام، ولم يحبس عنها كرمه طول حياتها.
وكان كثيرا ما يجد في بيت ألفت أختها رحيمة، قد أنس إليها ووجد فيها سيدة طيبة النفس لا خبث فيها ولا دخل. تكثر من الحديث عن سجية مواتية، وتذكر خاصة شئونها وكأنها أمور عامة ينبغي أن تذاع على جميع الناس، حتى العلاقات الحميمة بينها وبين زوجها لا تخفي منها شيئا، بل إنها حتى لا تخفي شيئا من فقر ابنتها هند وزوجها حامد، وكانت تروي عن حامد لا تخفي من أسرار عمله شيئا، وكان صابر يجد في رواياتها إيناسا ومتعة. «ترى ألأني وحيد خلا بي البيت بعد وداد؟ ولكنني من ذكر الله في شعور عميق الفيض، إنني أسبح في الملكوت الأعلى غنيا عن العالمين، ما أحقر الإنسان مهما يرتفع بروحه إلى عليين في أسمى رحاب، يظل بجسمه بل وبتفكيره أيضا عبد الأرض التي ما يزال يعيش عليها. يحتاج الإنسان في الأرض إلى الإنسان دائما، ما دام يعيش حياة الأرض، فهو في حاجة إلى الإنسان، وإلا فما هذه السعادة التي تغمرني وأنا أستمع إلى رحيمة؟ وما هذا الجدل الذي يعتريني وأنا أسمعها تروي عن ربو زوجها، وعن فقرها مذ زواج ابنتها، وعن خيبته أيضا وكيف أنه لا يعرف شيئا في الدنيا إلا المدرسة والتلاميذ.»
في يوم من بعد الظهيرة صحب طفليه إلى بيت جدتهما، وكانا قد أصبحا شابين. وكانت جدتهما كثيرا ما تشكو إليه تقصيرهما في زيارتها، فاضطر أن يشدد عليهما النكير ليصحباه إليها وإلى جدهما مفيد، وواجهته في البيت سحابة سوداء من الحزن والأسى يعرف ملامحها، وإن كان لم يدر في يومه هذا سببها.
وسأل وجاء الجواب: حامد زوج هند. - ما له؟ - أصابته نوبة قلبية خطيرة. - وأين هو الآن؟ - في البيت، رفض الطبيب أن ينقله إلى المستشفى؛ فأية حركة خطرة عليه. - لا حول ولا قوة إلا بالله! كم عمره؟ - في الخامسة والأربعين تقريبا. - أتريدان الذهاب إليه؟ - أنا أريد أن أذهب ومفيد يرفض. - يا بني الطبيب مانع الزيارة، وأنا أعلم في هذه الحالات أن الزيارة خطرة، فما ذهابنا؟ - يا أخي أذهب إلى أختي وابنتها ولا أدخل إليه، الطبيب مانع زيارة المريض، لا زوجة المريض ولا حماته. - وحين نذهب أليس من الطبيعي أن يقدموا لنا قهوة وإكرامية، ونشغل البيت جميعا عن المريض الذي يحتاج إلى كل عناية؟ - يا مفيد الله يهديك، ليس من المحتم أن تقدم لي أختي أو ابنة أختي إكرامية.
وأخيرا تكلم صابر: أنت محق يا عمي، ولكن من وجهة نظر أخرى أرى ألا نتركهم وحدهم، وقد يحتاج الأمر إلى من يعينهم في هذه الفترة الحرجة.
وقالت ألفت: قل له يا بني.
وقال مفيد: أترى ذلك يا صابر؟ - أعتقد ذلك. - هل معك سيارتك؟ - نعم، هيا بنا.
والتفت إلى ولديه وطلب إليهما أن يعودا إلى البيت.
نامعلوم صفحہ