64

فالأشعري مثلا استطاع أن يبتدع مذهب الأشعرية فأحدث بتعاليمه وثبة فكرية، ولكنها وثبة بين طائفة معينة من رجال الفكر وعشاق علم الكلام، ولكن أثره لم يتعد تلك الدائرة الخاصة، ولم يتسلسل في ضمير التاريخ نورا وخلودا.

أما الغزالي فكان أشبه بزعماء الجماهير وقادة الشعوب، كان تأثيره السحري عاما شاملا مستحوذا على عقول الطبقات كافة، بل لعل تأثيره على الطبقات الوسطى وما دونها أشد أثرا وأبعد مدى.

ومن أسرار تلك الهيمنة أن سلطان الغزالي مبعثه القلب والعاطفة، والمبادئ إذا مزجت بالقلوب والعواطف ثبتت وخلدت على الحوادث والعصور، فقد مزج الغزالي العقائد بالعبادات، ومزج أصول الشريعة بالتصوف، وأطلق في الناس بخورا مخدرا ساحرا، يدعو إلى إيمان بسيط سليم خال من التعقيد، مجرد من التخمينات والافتراضات، إيمان استسلام وعبادة وفناء في الله ومحبة.

يقول العلامة ماكدولاند: «إن الغزالي لم يكن كشافا، ولا أول من ركب الطريق واهتدى إلى النجد، ولكنه كان رجلا كبير الشخصية شديد التأثير النفسي، نهج سبيلا مطروقة فجعلها مشرعا عاما ومحجة واضحة، وهذا من فضل شخصيته وقوة خليقته.»

ونستطيع أن نضيف إلى قوة التأثير النفسي وقوة الشخصية القوة العلمية العظمى التي تفوق بها الغزالي، تلك القوة التي جعلته نسيج وحده بين عباقرة الفكر في عصره.

أو كما يقول الأستاذ الأكبر المراغي في الدلالة على تعدد جوانب العظمة في تلك العبقرية:

إذا ذكر ابن سينا أو الفارابي خطر بالبال فيلسوفان عظيمان، وإذا ذكر ابن العربي خطر بالبال رجل صوفي له في التصوف آراء لها خطورتها، وإذا ذكر البخاري ومسلم وأحمد خطر بالبال رجال لهم أقدارهم في الحفظ والصدق والأمانة والدقة ومعرفة الرجال، أما إذا ذكر الغزالي فقد تشعبت النواحي، ولم يخطر بالبال رجل واحد، بل خطر بالبال رجال متعددون، لكل واحد قدرته وقيمته.

يخطر بالبال الغزالي الأصولي الماهر، والغزالي الفقيه الحر، والغزالي المتكلم إمام أهل السنة وحامي حماها، والغزالي الاجتماعي الخبير بأحوال العالم وخفيات الضمائر ومكنونات القلوب ، والغزالي الفيلسوف أو الذي ناهض الفلسفة، وكشف عما فيها من زخرف وزيف، والغزالي المربي، والغزالي الصوفي الزاهد، وإن شئت فقل: إنه يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عصره.

تلك هي شخصية الغزالي، شخصية كاملة القوى العلمية على تشعبها وتعددها، كاملة الحرارة الروحية والإيمان القلبي، وبفضل تلك الشخصية أضفى عليه العالم الإسلامي لقبه الخالد: حجة الإسلام.

حجة الإسلام

نامعلوم صفحہ