49

وهو إذ يعرف علم الفقه بأنه من علوم الدنيا، ويقول: «إن الفقيه هو العابد المرشد لا المجادل العالم بأصول الفقه وتخريجات أحكامه.» إنما قصد بهذا التعريف وجهة النظر الصوفية، وقد نبه الغزالي على ذلك في مواقف مختلفة من كتبه، فهو يقول بعد أن أشاد بعلوم الآخرة وحث عليها، وأمر بترك ما سواها من علوم الدنيا:

ولا ينبغي أن يفتر رأيك في طلب العلوم الدنيوية بما حكيناه عن طريق الصوفية؛ فإنهم لا يعتقدون حقارة العلوم؛ بل يعتقد كل مسلم حرمتها وعظمتها، وما ذكروه إنما أوردوه بالإضافة إلى مرتبة الأنبياء والأولياء.

ثم يقول:

ومن قصد التقرب إلى الله بالعلوم نفعه الله ورفعه لا محالة.

ذلك هو قول الغزالي في وضوح وصراحة، وكأنما أحس بما سيحدث من سوء فهم لآرائه؛ فنادى بعدم فتور الرأي في طلب العلوم العقلية بما يحكى عن الصوفيين؛ لأن ذلك لهم خاصة، وهم لا يحتقرون العلوم؛ بل يجلونها ويعتقدون عظمتها وحرمتها وقداستها، بل يقرر الغزالي أن من قصد التقرب إلى الله بالعلوم على اختلاف أنواعها نفعه الله ورفعه.

بل هو يقرر في يقين أن الله سبحانه حبب العلوم إلى الناس لصلاح العالم؛ فيقول في كتابه ميزان العمل: «فلولا أن الله حبب علم الفقه والنحو والطب والرياضة ... إلى آخر العلوم، في قلوب طوائف من الناس، لبقيت هذه العلوم معطلة، ولتشوش النظام الكلي.»

الغزالي عالم رحب الآفاق، تشهد بذلك كتبه وآثاره، عالم بالعلوم وفنونها على اختلاف ألوانها وغاياتها، تشهد بذلك أيضا كتبه وآثاره؛ فهو عالم يدعو إلى رسالة العلم كاملة في يقين وإيمان؛ لأنه يؤمن بأن نظام العالم ونظام القوة والسيادة في الدنيا إنما يبنى على العلوم والمعارف الكونية والعقلية، فمن الخطأ في حق العلم، ومن الخطأ في حق العقل أن يقول قائل: إن الغزالي يحارب علوم العقل والكون والتجربة. وهو إمام من أئمتها.

ولكنه حين يتحدث في أساليب الصوفية ومبادئ الصوفية يعلي شأن العلوم الأخروية؛ لأنها روح العبادة واليقين، ويجري المقارنات بينها وبين علوم الدنيا، فيذمها بالقياس إليها وتمجيدا لها، والصوفية فئة من الناس ارتضوا لأنفسهم وضعا معينا، وحياة معينة، ومسلكا في الوجود فريدا كالرهبان مثلا، فما يصلح لهم لا يصلح لغيرهم، وهم لم يقولوا للناس هلم إلينا، ولم يقولوا لهم تكلفوا ما نتكلف، واتبعوا ما نتبع، وتحملوا ما نتحمل.

ولغة الغزالي الصوفية شديدة الخطوة في تفهم آرائه، بعيدة الأثر في تشويه تلك الآراء، وتشويه آثارها في النفوس والعقول، وقد فتن كثير من الناس وضلوا بسبب خطئهم في فهم الصوفية وأغراضها ولغة مباحثها وعلومها.

وهو يعرض صورة الصوفية في براعة وتشويق شأن أساليبه، والقلوب تسارع إلى التمسك بتلك الصور المعطرة بذكر الله والجنة، فتنسى في تلك الوثبة الروحية في ختام البحث مثلا أن الغزالي قد بدأه بقوله:

نامعلوم صفحہ