مرحلة الرياضة والمجاهدة التي يقول فيها الرسول: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، وبتلك المجاهدة يقوى سلطان الروح، وتتحرر النفس من الأدران الأرضية؛ فتسمو وتصفو حتى تنطبع فيها حقائق العالم وأسراره، وينسكب في القلب نور ينكشف به جمال العالم وجلاله ودقائقه وأسراره، فيرق الحس ويتنبه الشعور ويستيقظ الإحساس، فتكون حركة حياة في المشاعر عامة، وتشعر تلك المشاعر بلذة عليا وعلوم نورانية تقوى في النفس حتى تصير صفة لازمة، ويتوالى الكشف للنفس وتزاح عنها الحجب شيئا فشيئا، حتى تصل إلى الأنوار العليا في عرفهم.
أما المرحلة الرابعة:
فهي مرحلة الفناء الكامل بوصول النفس إلى مرتبة شهود الحق بالحق، وانكشاف ووضوح العوالم الخفية والأسرار الربانية، وتوالي الأنوار واللذة الروحانية.
وتلك المرحلة هي مرحلة الخطر، ومن أجلها نشبت المعارك بين الفقهاء والصوفية، ومنها نشأ التيه لكثير من الصوفية؛ لأن من تزل قدمه هنا ضاع إلى الأبد.
وتلك المرحلة لا تكتب ولا توصف؛ لأنها خارجة عن نطاق التصور العقلي، والغزالي وهو علم الصوفية وكاتبها الأكبر لم يتعرض لها، ولم يشغل قلمه بها، وإن كان لم ينكرها، بل تركها لأصحابها وأربابها.
ولكنه جال وأفصح في المراحل الثلاث السابقة ونثرها في كتبه نثرا أشبه بالنور والعطر، واستمد منها روعة أسلوبه، وروعة تهذيباته، وروعة مبادئه التي جعلت من الحياة محرابا أعظم لعبادة الله، ودعوة عباده إلى الهدى والرشاد.
وقد تخصص الغزالي لآداب التصوف تخصصا جعله نسج وحده بين رجال الفكر الإسلامي؛ فقد مزج الشريعة بالتصوف، كما مزج العبادات بروح من التصوف أطلق فيها النور والروح إطلاقا يبعث في القلب نشوة الإيمان، ورعشة الخوف، وفرحة الحس المطمئن إلى واجبه المقدس.
ودارس الأخلاق عند الغزالي لا بد وأن يدرس التصوف، وأن يتذوق التصوف، ثم يدرس أخلاقيات الغزالي فيتذوق نبل رسالته الأخلاقية وجلال شأنها.
وإن كان رجال التربية وأساتذة الفكر المثاليين يفكرون اليوم في إيجاد طبقة من الإنسانية ممتازة، كاملة الرجولة، قوية الحيوية، سامية الخلق والفكر، متلائمة التناسق، ممن أطلقوا عليها اسم «سوبرمان» أي الرجل الكامل أو الخلق الكامل، فقد وضع الغزالي من قرون الصورة الحقيقية التامة لهذا النوع الممتاز من البشرية السعيدة الطاهرة.
فإن المبادئ الأخلاقية النبيلة التي وضعها الغزالي وشرطها للمؤمن لجديرة بإيجاد مجتمع إنساني ملائكي فاضل، سليم من الضغن والتنازع، بعيد عن الفحش والرزيلة.
نامعلوم صفحہ