عصر الغزالي
نشأته وحياته
هل للمعرفة طريق باطنية غير الحواس الخمس؟
الغزالي والتصوف
الصراع بين الغزالي والفلاسفة
الغزالي ينشد الحق ولا يتقيد بالمذاهب
جهاد الغزالي
دستور الغزالي الخلقي
الغزالي وصلات الرجل بالمرأة
رسالة العلم وآداب المتعلمين
القدرية والتوكل
الغزالي وتفسير القرآن
الغزالي بين أنصاره وخصومه
مجدد القرن الخامس
عصر الغزالي
نشأته وحياته
هل للمعرفة طريق باطنية غير الحواس الخمس؟
الغزالي والتصوف
الصراع بين الغزالي والفلاسفة
الغزالي ينشد الحق ولا يتقيد بالمذاهب
جهاد الغزالي
دستور الغزالي الخلقي
الغزالي وصلات الرجل بالمرأة
رسالة العلم وآداب المتعلمين
القدرية والتوكل
الغزالي وتفسير القرآن
الغزالي بين أنصاره وخصومه
مجدد القرن الخامس
الغزالي
الغزالي
تأليف
طه عبد الباقي سرور
عصر الغزالي
كان القبس الإلهي الذي أضاء الجزيرة العربية في منتصف القرن السادس للميلاد أكبر بعث فكري عرفه التاريخ.
فقد أضيف به إلى التراث الإنساني مادة سماوية امتزجت بالقلوب والعقول والأرواح امتزاجا أنساها الدنيا هنيهة؛ فأقبلت على هذا القبس تستلهمه وتسترشده وتبصر الدنيا على هداه.
وهيمن هذا القبس هيمنة تامة على مقومات الحياة في المجتمع الجديد؛ فمن هذا القبس كان التفكير، وكانت طرائق البحث والجدل.
واندفع هذا الشعاع الإلهي يقيم حضارة روحية معطرة القلب والفكر والعمل بعطر ديني خالص على سواه من أنفاس الحياة وبواعثها.
وحمل بدو الجزيرة هذا القبس إلى العالم، يزاحمون برايته مناكب أمم أشد قوة وبأسا، وأعرق حضارة وغرسا.
ثم هدأت فورة البدو، وانتشر الشعاع مشرقا ومغربا، ودانت بالنور أمم وشعوب تهافتت على المورد العذب تنهل وتتعلم، ثم تحمل الراية.
ثم قامت الدولة العباسية في المشرق فكانت عجبا؛ كانت انقلابا كاملا للمجتمع الجديد: فهي دولة عربية اللسان، فارسية اللون، عالمية التفكير، كانت انقلابا جديدا ووجها جديدا للحضارة الإسلامية والتفكير الإسلامي، فإن كان عصر الأمويين عصر قرآن وتسليم وإيمان، فقد كانت عصرا عربيا خالصا.
أما هذا المجتمع العباسي، فهو مزاج عجيب من أمم شتى، تجمعها عقيدة واحدة، وتفرقها ألوان من التفكير، وألوان من التاريخ، وألوان من الحضارات، وألوان من الوراثات.
وابتدأ هذا المجتمع الجديد يجذب إليه العقول من أطراف المشرق، تهرع إليه لتهتدي بهدي قرآنه، أو لتلتمس العيش في آفاقه ورحابه.
فلم يكن بدعا أن يتفجر من هذا المجتمع أعجب مزاج فكري في تاريخ الفكر والإنسان، ابتدأت أقلام العلماء من أبناء فارس والروم واليهود تنقل كنوز الفرس والإغريق والهنود في سرعة وحماس، يزكيهما إقبال الجماهير وتأييد الولاة، كما ظهر على أطراف الحياة الإسلامية فلاسفة إسلاميون تتلمذوا على اليونان والإغريق، وأضافوا إلى تراثهما المعارف الإسلامية الجديدة.
وامتد تأثير هذا البعث السريع المتلاحق إلى الحياة الفكرية عامة؛ فترك طابعه على الآداب العربية، كما تأثر به رجال الفقه والرواد الكلاميون، فإن المعتزلة - وهم طلائع الكشف الفكري في الإسلام - يدينون لفلسفة اليونان بأكثر ألوان الجمال المشعة في منطقهم وحججهم.
ثم تلا عصر الترجمة عصر تلاطمت فيه المعارف الجديدة؛ فنشأ عنها وجوه مبتدعة من التفكير والبحث والتأمل، وتميز العصر الجديد بسماحة كاملة وحريات تامة، عصر انتفت منه العصبية الفكرية الحساسة الغيور، وسادته إباحة مشرقة تشعر بحاجتها إلى الاستزادة من المعارف، وتحس ظمأ ملحا إلى تلك الآفاق المجهولة التي تتفتح أمامها من مشارق الأرض ومغاربها.
فما انتصف القرن الخامس الهجري، أو ما يسمونه بالعصر العباسي الثالث، حتى كانت الدولة العباسية أمة مترفة الفكر، مترفة المزاج، مترفة البحث الحر.
كان للعصر العباسي الثالث طابع الإسراف في التفكير وجموح الخيال؛ بل لقد انقلبت وجوه الإسراف إلى بلبلة عجيبة وعرض عجيب للملل والنحل والمذاهب.
مجتمع عجيب! امتلأت حقائب تاريخه بمئات من الشيع والفرق والمذاهب الدينية والفلسفية والكلامية؛ حتى لقد أصبح لكل لسان ذرب مذهب خاص به، ولكل قلم ممتلئ أمة فكرية تتبعه.
كان العلماء فيه أشبه بالثوار في عصور الفوضى، في كل قرية ثائر، وفي كل طريق فارس ملثم أو سافر.
وكان لا بد لتلك الأمواج من المذاهب والنحل والشيع أن تطغى وأن تثور، وكان لا بد لها أن تتقاتل وتتطاحن، وكان لا بد لها أن تملأ الدنيا دويا وزلزالا، ومن ثم شهد هذا المجتمع أعنف حرب فكرية في التاريخ.
وهل هناك من عجب إذا رأينا سلطان الدين يضعف ويتوارى؟ وهل هناك من عجب إذا رأينا المذاهب الفلسفية تسود، ورأيناها أيضا تجمح وتغرق في سبحات فكرية عجيبة الألوان والظلال، وتأملات روحية غريبة شاذة متنافرة غير متماسكة.
وأحس رجال الدين بالخطر، وأحسوا أكثر من ذلك بأن سلطانهم الديني مهدد بالزوال؛ بل لقد شاهدوا تاج القداسة يفارق رءوسهم في قفزة سريعة ليختال في نوره رجال لا يعترف رجل الدين إلا بزندقتهم، رجال في طليعتهم الفارابي وابن سينا، ومن شبه الفارابي وابن سينا.
أحس رجال الدين بالخطر؛ فأشعلوا أصابعهم نارا، وأطلقوا أقلامهم بروقا، ولكن النار نالت منهم أكثر مما نالت من خصومهم، ولعل من أكبر أسباب الفشل في ثورتهم ما كانوا فيه من تفرق، وما كان بين طوائفهم من خصومة ولدد، فقد كان لكل منهم عصبية وأنصار، وكان هؤلاء الأنصار يتطاحنون ويتمزقون؛ فالحنفية تناهض الشوافع في المشرق، والمالكية تطرد ولا تطيق سواها في المغرب والأندلس، والحرب غير خافية بين الأشعرية والمعتزلة، وبين الباطنية والسنة.
وفي هذا المحيط الغريب الثائر، وبين تلك الحرارة العلمية نشأ الغزالي؛ فكانت نشأته على هامش بركان، وكانت معارفه ملتهبة حارة؛ لأنها ولدت بين اللهب.
درس الغزالي كل ما في عصره من خير وشر، ولم يهيئ نفسه في مطلع حياته لفن من الفنون؛ بل اندفع في زحام الفكر جبارا متوغلا غير هياب ولا متحفظ.
ثم انطوى على نفسه، وقد شك في حقيقة كل علم، كما شك في أهداف الفرق والنحل والمذاهب.
شاهد الغزالي أن الإسلام قد انتقل من القلوب إلى العقول، فانقلب إلى ملاحاة منطقية لفظية، ومجادلات فقهية جامدة.
كما شاهد المذاهب السياسية وقد تقنعت بستار الفلسفة تارة وبستار الدين تارة أخرى، فإن خلصت من هذا وذاك فهي لم تخلص تماما من ميراث اليونان الوثني، أو من سبحات الأفكار المضللة.
فأرسل الغزالي صيحة قديمة جديدة؛ قديمة لأنها صحية الإسلام في الجزيرة العربية منذ قرون، وجديدة لأنها دوت في مجتمع أوشك - وقد غرق في بحور الجدل والسفسطة - أن ينسى رحيقه الأول.
كانت قوة الغزالي التي خلدته كحجة للإسلام، أنه استطاع أن يقف تلك التيارات المتدافقة من المحاورات الفلسفية والمناظرات الجدلية والمنازعات الفقهية، وأن يجعل القوة الإسلامية المناهضة لتلك الزوبعة تتركز فيه، وتتمثل في تعاليمه وصيحاته المستمدة من الكتاب والسنة.
كان أشبه بزعيم وطني نبت في شعب ممزق متخاذل واهي الروح؛ فوحد صفوفه، وجدد روحه، وأحيا إيمانه.
نشأته وحياته
هو أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، جادت به الحكمة الخالدة في مطلع عام خمسين وأربعمائة للهجرة، وتسع وخمسين وألف ميلادية، ببلدة طوس من أعمال خراسان، من أصل فارسي.
وكان والده فقير اليد غني الروح، يكسب قوته من مغزله، ومن قيامه بخدمة رجال الدين والفقهاء في مجالسهم وخلواتهم.
وقد حاول بعض المستشرقين وفي طليعتهم العالم الألماني «وستنفليد» أن يثبتوا أن أسرته من أسر العلم الشوامخ، ولكن الحقائق التاريخية لم تذكر لنا دليلا واحدا يجرؤ على الثبات، ولم تحدثنا عن ماضي تلك الأسرة شيئا يطمئن إليه النقد العلمي.
ولا يحدثنا التاريخ كثيرا عن والده، ولا يروي لنا من صفاته إلا ذلك الإجلال العظيم الذي كان يملك حواس ذلك الوالد حيال رجال الدين والعلم، حتى إذا سمع واعظا أو فقيها تضرع إلى ربه أن يرزقه ابنا خطيبا واعظا أو عالما متعبدا.
ولعل هذا الإحساس الملح، والرغبة النفسانية العنيفة في اكتساب المجد العلمي وتقديس الثوب الديني، قد ورثهما الغزالي عن والده، وإنما في صورة أخرى، فقد أتيح للولد ما لم يتح للوالد، ولعلنا في هذا الضوء؛ نستطيع أن نفهم النهم العجيب في الغزالي، الذي كان يدفعه في إلحاح وإصرار إلى الاستزادة من العلوم والإقبال على المعارف.
ومات هذا الوالد، والغزالي وشقيقه أحمد في مدارج الطفولة الأولى، فتعهدهما رجل صوفي فقير من أصدقاء والدهما الذي لم يترك لهما إلا صبابة من المال ضئيلة، ولم يترك للصوفي إلا وصية واحدة هي قوله: «كانت أمنيتي في الحياة أن أتعلم الخط، فأريد منك أن تحقق أمنيتي في نجلي هذين»، وقد بر الصوفي بتلك الوصية؛ فاهتم بهما علما وخلقا، حتى نفدت صبابة المال التي تركها والدهما؛ فضاقت يده عن طعامهما والإنفاق عليهما فقال لهما:
اعلما أنني أنفقت عليكما ما كان لكما، وأما أنا فرجل من الفقر والتجريد؛ بحيث لا مال لي فأواسيكما وأصلح حالكما، فما لكما ألا تلجآ إلى مدرسة، فإنكما طالبان للفقه عساه يحصل لكما مقدار قوتكما.
1
حتى كان الغزالي يقول كلما عاودته تلك الذكرى: «طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.»
وقضى الغزالي فترة في إحدى مدارس العلم الديني في بلدته، قرأ الفقه خلالها على: «أحمد بن محمد الطوسي»، ثم جنحت به نفسه إلى الاستزادة من العلوم، فهاجر إلى جرجان إلى الإمام العلامة «أبي نصر الإسماعيلي».
وفي جرجان ابتدأ الغزالي يكتب ما يتلقى من علوم أستاذه، ولكن يظهر أنه لم يستفد عقليا مما كتب أو استمع؛ بل كان يقرأ أو يكتب في نهم وسرعة دون عناية بالفهم والهضم؛ يدل على ذلك تلك القطعة الطريفة الساذجة المكتوبة بقلمه في اعترافاته التي أسماها: «المنقذ من الضلال»، والتي تدل على تلك الفترة من حياته قال:
قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتعقبتهم، فالتفت إلي مقدمهم، وقال: ارجع ويحك! وإلا هلكت. فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به. فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها، ومعرفة علومها. فضحك، وقال: كيف عرفت علمها، وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها وبقيت لا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلم إلي المخلاة، فتركت تلك الحادثة في نفسي أثرا كبيرا، وقلت في نفسي: هذا مستنطق أنطقه الله؛ ليرشدني به في أمري. فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي.
وتلك القطعة التصورية من قلم الغزالي تدلنا على صفة كان لها أكبر الأثر في إعداده ورسالته، وهي تأثره العجيب بالجانب الديني الصوفي من الحياة، فهو يرى في جواب قاطع الطريق رسالة سماوية ونطقا ربانيا لإرشاده في أمره وطرق تعليمه.
عاد الغزالي من جرجان إلى طوس، وانقطع انقطاعا تاما - كما يقول - إلى العلم ثلاث سنوات؛ حتى حفظ جميع ما درس، واستوعب ما قرأ، بحيث لو قطع عليه الطريق، وسرق ما معه لم يتجرد من العلم والمعرفة. والعلم في نظر الغزالي كان خلال تلك المدة غير واضح المعاني، غير واضح الأهداف؛ فهو يدرس ويحفظ على طريقة عهده كتب الدين وآراء المذاهب والفقهاء؛ ليكون يوما ما من رجال التدريس أو القضاء، أو قد يسعده الزمان فيلتحق ببطانة عظيم أو أمير أو سلطان.
ولكن تلك الروح العظيمة التي أعدت لغير ما يعدها صاحبها لم تقنع بما وصلت إليه من دراسات، ولم تطمئن إلى ذلك اللون من التعليم، بل لم تقنع بما ألقي إليها من يقين؛ إذ هي تنشد معاني أخر، وتلتمس بابا إلى النور لم يزل خافيا.
وضاقت معارف طوس بالغزالي، كما ضاق بها؛ فرحل إلى نيسابور، إحدى مدن العلم والنور في عهده، وهناك اتصل بإمام الحرمين أبي المعالي الجويني علم عصره في التوحيد والإلمام بمذهب الأشعرية، وطرق الجدل والأصول والمنطق.
وفي نيسابور ابتدأت خطوط تلك النفس العظيمة تتكون وتتضح، وابتدأت آفاق الغزالي تتفتح وتتسع، فهو يشاهد فيها دنيا جديدة ومجتمعا جديدا مزدحما بأنفاس العلماء، كما هو مزدحم بأنفاس الحياة.
وفي نيسابور ابتدأ إيمان الغزالي بعلم الفقه يضعف، كما أخذ إجلاله للعلماء يتضاءل، فهو يدرس ويستمع إلى آراء المذاهب، ويعجب لتفرقها وتخاصمها، كما يعجب لطرائقها في البحث والجدل، ويعجب أكبر ما يعجب لخلولها من الروح والإيمان.
وفي نيسابور شاهد الغزالي ولامس أخلاق العلماء والفقهاء؛ فإذ هي ضروب عجيبة من الرياء والنفاق، وألوان مبتكرة من الجشع والتهالك على متاع الحياة، فشك الغزالي في أخلاقهم كما شك في علومهم، وبذلك انتهى إيمانه بالعلم التقليدي، فأقبل على الفلسفة ينشد لديها الإيمان، ويرجو عندها متاع العقل والقلب والروح.
ولكن الفلسفة خذلته أكثر مما خذله العلم التقليدي؛ فهو ينشد إيمان الروح، إيمان القلب، والفلسفة وإن أرضت العقل الحر أو العقل المعتز بنفسه، أو العقل الذي لا يطيق الخضوع ويتعالى بالكبرياء؛ فهي لا ترضي القلب الذي ينشد السلام، ولا ترضي الروح التي تنشد الاطمئنان، فأضاف الغزالي شكوكا جديدة في الفلسفة إلى شكوكه القديمة في العلوم التقليدية.
وبذلك تحرر الغزالي من كل قيد فكري، كما تحرر من كل قيد يقيني؛ فانطلق حرا طليق الفكر، ينشد الهداية بين المذاهب والنحل، ويتلمسها في الشك تارة، وفي التأملات الغامضة أخرى، غير مثقل العقل بميراث يقيده، ولا مشغول اليدين بعلم خاص يجله ويكبره.
وأمسى الغزالي وأصبح، فإذا به المتهكم الأكبر في جيله، وعرفته محافل العلم أستاذا بارعا متعمقا في كل بحث، مغرما بالمجادلات والمناقشات، ومغرما أشد الغرام بالتحطيم والتجريح، فلم يغادر مذهبا من المذاهب لم ينقضه، ولم يدع فرقة من الفرق بدون تجريح وإيلام.
وقد أوتي أسلوبا بارعا، وقلما ساحرا وعرضا عبقريا، وتلك أسلحة فكرية رهيبة عظيمة الخطورة إذا وضعت في يد متهكمة مغرمة بالقتال والصيال، مغرمة بالبحث والجدال علها ترضي صياح الشك في أعماقها، أو ترضي الظمأ إلى اليقين في روحها.
فلا عجب إذا رأينا ملاحم متتابعة متلاحقة شديدة الأوار تنشب بين الغزالي وجيله، وهي ملاحم أضافت إلى التراث الفكري كنوزا من المعرفة لا يزال شعاعها واضح النور والسناء.
طريقته في القراءة والبحث
ونحن ننقل من كتابه «المنقذ من الضلال» قطعة توضح تلك الفترة الثائرة من حياته، وتهدي إلى طريقته في دراساته للمذاهب، ومهاجمته للنحل والأفكار والعقائد، قال:
ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ، وقد أنافت السن الآن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأكشف أسرار مذهب كل طائفة.
لا أميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومحاولته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا إلا وأتجسس وراءه للتنبه إلى أسباب جرأته في تعطيله وزندقته، وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان شبابي، غريزة وفطرة من الله وضعت في جبلتي لا باختياري وحيلتي.
تلك هي صورة الغزالي العالم الباحث، وذلك هو الوجه الذي عرف به في نيسابور التي ارتبط فيها بصداقة روحية مع أستاذه إمام الحرمين، حتى رشحه ليقوم مقامه في التدريس.
ولكن أستاذه وصديقه لم يلبث أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ففارق الغزالي نيسابور حزين القلب والروح، فارق الغزالي نيسابور، وقد فقد الشعاع الروحي الأخير الذي كان يحبسه عن المغامرة الكاملة في الحياة، فارقها إلى بغداد؛ ينشد فيها مجد الدنيا ومتاع الروح، وليقارن فيها حظه بحظوظ العلماء والدارسين.
الغزالي ينشد متاع الحياة
كانت حياة الغزالي منذ شعاعها الأول حياة فكرية خالصة، حياة عازفة عن الجاه ومتاع الحياة، وكانت نهاية تلك المرحلة أيامه الأخيرة في نيسابور.
وها نحن أولاء نشاهده في طريقه إلى بغداد، يحدث نفسه بوداع حياة واستقبال أخرى، فهو لم يلق في حياته الأولى سوى عذاب فكري متلاحق، بل لم ينعم ولم يذق إلا مرارة المعارك والخصومات الحارة بأحقادها ومتاعبها، ولم يمتع إلا بلقيمات غير دسمة ولا سائغة.
فكر متوثب ملتهب لا يهدأ ولا يطمئن ولا يشعر بلذة اليقين، وعلم لم يكسب صاحبه ما يكسبه العلم لأهله في عهده من متاع الحياة ومباهج السيادة والحكم، فلم لا يقذف بكل هذا وجه الفضاء؟ وإذا كان هذا الفكر الملح في شكه، الملح في ثورته، الملح في تهكمه لا سبيل إلى إمتاعه وإرضائه، فإن قسوة الحياة يمكن أن تبدل بطيب المتاع وجمال المظهر، وعزة الاتصال بالولاة وما فوق الولاة من الأمراء والملوك.
وبغداد في ذلك التاريخ مهوى أفئدة رجال العلوم، ومهوى أفئدة طلاب المغامرة وعشاق المجد، وفي بغداد يسوس الملك مغامر عالم «نظام الملك» الذي ابتدع المدارس النظامية، وأسسها على علوم السنة ؛ لينافس بها أزهر الفاطميين، وليطاول بها علوم الشيعة التي تلقى في أزهرهم.
ومثل هذا الأمير في حاجة إلى عالم متفوق بارع في الجدل، بارع في الخصومة، بارع في دعم الحجج والبراهين براعته في نقض الحجج والبراهين.
والغزالي اللماح يدرك مطلب الأمير، ويدرك ما يمكن أن يظفر به لدى الأمير.
ولذا فقد اعتزم أن يكون مقدمه ضخما فخما لا ينسى، واعتزم أن يطلع الأمير في اللحظة الأولى على مقدار نبوغه وبراعته في الحوار والجدل، وتفوقه في المذاهب والنحل.
الغزالي ونظام الملك
جاء في كتاب المقفى:
فلما مات أبو المعالي خرج الغزالي قاصدا نظام الملك، وناظر الأئمة والكبار في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه على الكل، واعترف بفضله الخاص والعام، وتلقاه نظام الملك بالقبول، وأحله محل النفوس، وأجله إجلال الرءوس، ثم ولاه التدريس بمدرسته النظامية ببغداد، وأمره بالتوجه إليها؛ فقدم بغداد سنة أربع وأربعمائة وهو في الرابعة والعشرين من عمره.
إلى أن يقول:
ثم درس بالنظامية، فأعجب الكل بحسن كلامه، وكمال فضله، وعبارته الرشيقة، ومعانيه الدقيقة، وإشاراته اللطيفة، ونكته الظريفة.
وفي بغداد تمتع الغزالي بما اشتهى من جاه ومال وسيادة، وأحله نظام الملك مكانا عليا، واتسعت حلقات دروسه، واشتهر بفتاواه الشرعية البارعة، وابتدأ في تأليف كتبه التي سيخلد بها.
وقد كان لنظام الملك تأثير بعيد المدى على الغزالي، فنظام الملك صوفي شديد التعلق بالصوفية، شديد التعصب لمبادئهم وطرائقهم، مسرف أشد الإسراف في البذل عليهم وإعداد التكايا لهم.
حتى ليواجه الخليفة بتلك القولة الغريبة، وهو يعاتبه لإسرافه في النفقة عليهم وإهمال الجيوش: «لقد أقمت لك عبادا بالليل، لو صاحوا لزلزلت الدنيا بخصومك ومادت الأرض بهم.»
كان لنظام الملك فضل توجيه الغزالي إلى التصوف والصوفية، وقد كان شديد الخصومة لهم شديد الإسراف في نقدهم، فاندفع الغزالي كعادته يبحث كتبهم، ويغشى مجالسهم، بل ويشترك في حلقات ذكرهم، ولكن تلك المبادئ السمحة لم تقنع الغزالي، بل لم تستطع أن تنزع ريشة واحدة من طائر الشك المحلق في رأسه؛
2
فأعرض عنها كما أعرض عن العلوم التقليدية والفلسفية من قبل.
وظن أصدقاء الغزالي وأعداؤه معا أنه قد بلغ الغاية من السعادة؛ فقد حقق لنفسه منتهى آمال أمثاله من رجال الدين والتدريس.
فهو صديق الأمير وعالمه، كما يتولى التدريس في أكبر جامعة علميه في عصره، له فيها المكان المرموق والكلمة العالية، وأصبحت حلقات درسه ملتقى الأمراء والوزراء والعلماء، وغدت فتاويه أشبه بالفرمانات الملكية؛ حتى ليستأذنه الأخفيش في غزو الأندلس، كما يطلب فتواه في جواز توليته ملك الأندلس مع المغرب وتلقبه ب «أمير المؤمنين».
وفي هذا الجو الساحر الزاخر بمتع الحياة وسيادة الفكر، وبين تلك المكانة العليا التي غدت للغزالي في العالم الإسلامي من بغداد إلى تخوم الهند وسواحل المحيط الأطلسي، كان الغزالي يتعذب ويتألم، ويشقى شقاء لا يعرفه إلا العلماء، ولا يتصوره إلا رجال الفكر.
كان لهب الشك يحرقه في صمت، وكان تعطش روحه العميق إلى الإيمان يفسد عليه متع الحياة.
وكان الغزالي كثيرا ما يحاور نفسه ويجادلها، ويقلب أفكاره ويفندها، ويختلي بقلبه يسأله الإيمان بعد أن أضله العلم والعقل، فلا يسمع من قلبه جوابا، ولا يرى في حياته للأمل بابا.
وإذ به فجأة ينقطع عن الدرس والفتيا؛ وإذ به فجأة يلازم الفراش لغير علة واضحة، وإذ به يجافي الطعام، وينعقد لسانه عن الكلام، وإذ بقوة هضمه تبطل، وإذ به في حالة ذهول كامل حار فيها الأطباء، وعجز العلم عن توضيحها وتعليلها.
حتى إذا يئس طبيبه من أمر مرضه، قال: هذا أمر ينزل في القلب، ولا رجاء في حياته إذا لم يتغلب على مشاغل نفسه، ولم يخفف وطأة إجهاد ذهنه.
ولكن هذا المريض الفاقد للحركة وشهوة الطعام والكلام ينهض فجأة إلى الحج، ثم إذ به يعلن للدنيا اعتزاله التدريس ومظاهر الحياة وانقطاعه لعبادة الله.
أسباب عزلته بقلمه
يقول الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال»، موضحا هذا الصراع الخالد:
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من سنة، وأخيرا جاء دور العمل، وجاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، وقد قفل الله لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطيبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لا ينطلق لساني بكلمة ولا يستطيعها ألبتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم.
ثم لاحظت أعمالي؛ فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم، فإنما أن معتقل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة.
ثم تفكرت في نيتي في التدريس؛ فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت؛ فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فتفترها عشية؛ فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية وينجزم العزم على الهرب والفرار.
ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، إياك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن السلم الصافي عن منازعة الخصوم ربما التفت إليه ولا يتيسر لك المعاودة.
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، قريبا من ستة أشهر؛ أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار.
ثم يقول:
ولما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري التجأت إلى الله التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل علي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة، وأنا أدير في نفسي سفر الشام؛ حذرا أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام في الشام، فتلطفت في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبدا.
إذن؛ فالغزالي يجعل اعتكافه لأسباب نفسية غامضة وسبحات دينية غير واضحة، أنقذه الله منها إلى الهداية والتوفيق.
ولكن العلامة ماكدولاند - المستشرق الذي تخصص في دراسة الغزالي - يقول: إن هذا الاعتكاف يمت بأسباب وثيقة إلى الحياة السياسية المعاصرة له، ويستدل على ذلك بحادثتين.
هل هناك أسباب سياسية؟
لا ريب أن الغزالي باعتباره من أكبر رجال «الفتيا» في عصره قد ساهم بعض المساهمة في أحداث الدولة السياسية، لا سيما وعصره من العصور المضطربة التي ساهم فيها الفقهاء والقضاة مساهمة كبرى في الأحداث السياسية.
وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته أن يوسف بن تاشفين أمير المغرب بعد أن أعان سادة الأندلس على قهر «ألفونس» ملك قشتالة طمع في الأندلس، فألحقها بملكه بعد استفتاء علماء العالم الإسلامي فأفتوه بحقه في ذلك، ومنهم الغزالي، بل لقد أفتوه أيضا بجواز تلقيب نفسه ب «أمير المؤمنين»، وفي هذا إغضاب؛ أي إغضاب لسادة بغداد!
ويذكر ماكدولاند أيضا أن الخليفة المستظهر أمره بأن يضع كتابا يرد به على الباطنية، حينما وضحت أهدافهم السياسية، فنادوا بفكرة «الإمام المعصوم» على طريقة الشيعة.
وقد اعترف الغزالي بأنه هاجمهم مكرها؛ لأنه تلقى أمر الخليفة فلم يسعه مدافعته، ثم قيل بعد ذلك بأن ما كتبه أغضب الخليفة؛ لأنه كان أقرب إلى تأييد الباطنية من مهاجمتهم وتفنيد مذاهبهم!
ولكن اعتراف الغزالي لا يرضي النقد العلمي في توضيح أسباب عزلته، كما أن رأي العلامة ماكدولاند لا يلقي ضوءا كافيا يستريح إليه ضمير الباحث الذي يتحرى الحقائق، إلا إذا كانت ترضيه دعوى بعض علماء عصره بأن ما حدث للغزالي إنما هو عين أصابت الإسلام فيه.
الدوافع الحقيقية لعزلته
فهل حقيقة أن الغزالي اعتزل التدريس لأنه - كما يقول - لم تكن نيته فيه خالصة لله، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت؟ أم أنه اعتزل التدريس والحياة لتحول وجه الخليفة عنه بتحيزه إلى يوسف بن تاشفين أمير المغرب؟
إننا في حاجة إلى كثير من السذاجة لنصدق الغزالي؛ إذ يقول في سذاجة إنه ترك التدريس؛ لأن نيته فيه غير خالصة لوجه الله، وإنما باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت.
وهل هناك نفس بشرية تجردت تجردا كاملا من هذا الباعث والمحرك، أو تحاسب على هذا الباعث والمحرك؟ وما معنى أن نيته فيه لم تكن خالصة لوجه الله؟ هل أجبر الغزالي على أن يلقي دروسا معينة تتعارض مع روح الإسلام؟!
وإذا لم يكن هذا، فما معنى هذا الكلام الغريب الساذج؟ وهل إذا ترك الغزالي التدريس يكون ذلك مبررا لتركه الحياة واعتكافه؟
فإذا أعرضنا عن هذا ونظرنا أو صدقنا العلامة ماكدولاند في أن عزلته كانت سياسية، فإن الأسباب التي ذكرها لا تبرر اعتكاف الغزالي، بل إصراره على الاعتكاف طوال حياته.
إن اعتكاف الغزالي كان باعثه تلك المعركة المشبوبة بين إيمانه وشكه، وهي معركة لعبت في حياة الغزالي وتفكيره دورا خطيرا فاصلا.
شك الغزالي في كل علم درسه، شك في قيمة العلوم كما شك في مظاهر الحياة وأهدافها وغايتها، شك في كل ما يقع تحت الحس وفي كل ما يثبته العقل، شك حتى في تفكيره! ثم التمس الهداية عن طريق الحواس والعقل، ونشدها في كل أفق شاهد فيه الضياء والنور، أو خيل إليه أن فيه الضياء والنور.
ولنا أن نسأل هل شكوك الغزالي طارئة؟ وهل حقيقة أن الشك لم يظفر بقلبه إلا في المدرسة النظامية؟ وهل حقيقة أنه اعتزل الطعام والكلام لأنه وجد نيته في التدريس غير خالية من حب الشهرة والمجد؟
عراقته في الشك
إن نظرة إلى حياة الغزالي ترينا أنه عريق في الشك؛ فهو يحدثنا أنه كان في مطالعاته يخوض بحور العلم خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأنه كان يتوغل في كل مظلمة، ويتهجم على كل مشكلة، ويتفحص كل عقيدة، لا يميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا يغادر باطنيا إلا ويحب الاطلاع على مبادئه، ولا ظاهريا إلا ويريد الإحاطة بآرائه، ولا زنديقا إلا ويتجسس على ألوان زندقته، ولا متعبدا إلا ويجتهد في تفهم دوافع عبادته، كل ذلك منذ شبابه.
أليست هذه أكبر آيات الشك؟ وأليست هذه نذر عدم الإيمان أو الاطمئنان إلى مذهب من المذاهب أو لون من الألوان؟
وقد أخطأ كثير من مؤرخي الغزالي حينما ظنوا أن فترة الشك إنما ظفرت بقلبه وهو يدرس في المدرسة النظامية، وأنه قد وثب من الشك إلى التصوف وثبا، ويستدلون على هذا بأن كتب الغزالي التي كتبها قبل ذلك التاريخ قد خلت من جموح المتشكك، ووثبات عدم الإيمان.
ويقولون أيضا: إن عصر الغزالي كان من أكبر عهود الشك والتلون في التاريخ؛ فليس ثمة من تقاليد أو رهبة تمنع الغزالي من المجاهرة بشكه في مثل هذا المحيط، وهو الجريء المتوثب.
ويظنون بهذا أنهم قد أقنعوا أنفسهم وأقنعوا التاريخ معهم.
فلو تأملنا قليلا في كتبه التي كتبها في تلك الفترة لرأينا عجبا! لرأينا الغزالي المؤمن فيما يظهر، هو أكبر شاك فيما يبطن.
ومن يقرأ مقاصد الفلاسفة يلمح من بين سطوره أن الغزالي يكتب ليقنع نفسه؛ ولهذا فهو يجمع شتيتا من حجج الفلاسفة ويعرضها ويبسطها ويتلاعب ويفتن في تصويرها وتلوينها، وكأنه يتغزل فيها ويناغيها.
وقد عرف عنه هذا في ردوده على الباطنية؛ فقد عمد إلى توضيح مذاهبهم تمهيدا لمهاجمتهم، ولكنه كان في توضيح مبادئهم أكثر منهم أنفسهم بيانا وفصاحة وإغراء في عرض حججهم وإبراز قوة الإقناع فيها.
فلما هاجمهم لم يغن عنه هذا شيئا في اتهامه بالميل إليهم والمحبة لهم.
ومن يقرأ تهافت الفلاسفة يلمس أنه كتب أولا وقبل كل شيء ليرضي شكوكه، فهو يهاجم الفلسفة في عنف وفي حرارة، ويجمع في يديه جميع الأسلحة الفكرية التي يؤمن بها والتي لا يؤمن؛ ليحطم الفلسفة ومذاهبها ودعاتها، بل ليحقر من شأنها، ولينال من أفكارها وطرقها العقلية في إصرار وعناد.
ثم من يقرأ كتبه المعاصرة لهذا التاريخ يرى تباينا عجيبا في آرائه، فهو يهاجم الفلاسفة محتجا بآراء المعتزلة والأشعرية، ويهاجم المعتزلة محتجا بأهل السنة، ويهاجم رجال الفقه محتجا بالتصوف.
وإذن؛ فالغزالي عريق في الشك، أو على الأقل لم يهب نفسه لفكرة واحدة، ولم يستأثر بقلبه إيمان معين.
ولكن الغزالي امتاز بين المتشككين بأنه نشد الهداية في صدق وحرارة، وتلمسها راغبا حقا في الظفر بها، كان يشعر بحنين ملح إلى الاطمئنان واليقين، يطاول تلك الرغبة الملحة في الشك والجدل.
ومرجع هذا أن الغزالي كان يلتقي في قلبه خليط من شكوك عقله بخليط من إيمان قلبه؛ فقد كان عقله أدنى إلى عقول العلماء الذين لا يؤمنون إلا بالمنطق وحقائق الموازين العلمية، بينما كانت روحه أدنى إلى أرواح الزاهدين العابدين.
ومن هنا نفهم السر في الصراع المشبوب أبدا بين روحه وعقله، ومن هنا ندرك السر في أنه كلما اشتدت به ثورة الشك كان يأخذه المرض حتى يعجز عن الطعام والكلام.
وقد ثارت به في المدرسة النظامية عندما بلغ غاية عليا بين العلماء ورجال المال والجاه رغبة ملحة إلى الإيمان، كما ثارت به ثورة من الشك حارة قاسية.
الأولى تذكره بالآخرة ونعيمها ورضاء الله وجلال القرب منه، وتذوق رحيق الرضا والسلام واليقين.
والثانية تمنيه وتعده بالجاه والمال والتفوق العلمي ولذة النصر في ميادين الجدل والحوار، وتنذره أنه قد يفارق كل هذا، ويحرم من كل هذا؛ فيشقى ويتألم، ثم يحاول الرجوع فلا يستطيع؛ فيفقد الراحتين ويحرم اللذتين.
وتردد الغزالي طويلا بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، حتى فقد إرادته وأضاع اختياره، وأصبح ألعوبة لأفكاره وأهوائه.
احترق الغزالي في تلك الفترة بهلب الحيرة والشك وتلاطم الفكر، وحيرة العقل والقلب والحس، حتى سرى الأمر من الروح إلى الجسد؛ فأمسك لسانه، حتى فقد الكلام، وأورثه ذلك حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم. فقال الأطباء: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا علاج إلا بزوال علته الذهنية والفكرية.
وفي تلك الظلمات وبين النار والدخان، والنور الذي يلوح من وراء الأفق التجأ الغزالي إلى الله؛ يطلب النجدة، ويطلب الإيمان، وينشد اليقين والسلام، فأجابه الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وأراه من الأسرار ما سهل عليه الإعراض عن الجاه والمال والأصحاب.
الهداية
فارق الغزالي بغداد، بل فارق حياته الأولى بشكوكها العقلية الملحة، ومتاعبها الدنيوية، وملاذها الجسدية؛ ليستبدل بالشك إيمانا ثابتا لا تجرؤ عليه الشكوك أو الخيالات، وبدنيا القراءات والمجادلات دنيا من تأملات الفكر وكشف الروح، وبمتاع الجسد متاعا علويا.
فارق الغزالي بغداد؛ لينطلق سائحا في أحلامه وتفكيره، وليبتدع ما شاء له الإلهام من تراث خالد.
فارق المنصب الرفيع، والعيش الهنيء؛ للزهد والتقشف والتأملات العليا، وهو انقلاب بعيد المدى، لا في حياته وتاريخه، بل في تاريخ الفكر الإسلامي إلى يومنا.
وهذا الانقلاب هو سر خلود الغزالي؛ إذ به جدد نفسه، بل من آثاره أن جدد الغزالي الحياة الفكرية لعصره، بل كان من نتائجه أن طبع القرون التي تلته بطابعه وتفكيره.
فارق بغداد وفارق التدريس؛ ليلجأ إلى الله في بيته الحرام، بل ليهنأ بالإيمان ومعرفة الله عن طريق الاتصال الشخصي به، جاعلا الوساطة في ذلك الروح لا العقل، جاهد الغزالي نفسه جهادا خالدا ليخلصها من شوائب الحياة؛ حتى تصفو صفاء يؤهلها للمعرفة واليقين والتلقين.
يقول الغزالي:
نظرت إلى نفسي، فرأيت كثرة حجبها؛ فدخلت الخلوة واشتغلت بالرياضة والمجاهدة أربعين يوما،
3
فانقدح لي من العلم ما لم يكن عندي أصفى وأرق منه مما كنت أعرفه، فنظرت فيه، فإذا فيه قوة فقهية، فرجعت إلى الخلوة، واشتغلت بالمجاهدة والرياضة أربعين يوما، فانقدح لي علم آخر أرق وأصفى مما حصل عندي أولا، ففرحت به ثم نظرت فيه فإذا فيه قوة نظرية، فرجعت إلى الخلوة ثالثا أربعين يوما، فانقدح لي علم آخر هو أرق وأصفى، فنظرت فيه فإذا فيه قوة ممزوجة بعلم، ولم ألحق بأهل العلوم اللدنية، فقلت: إن الكتابة على المحو ليست كالكتابة على الصفاء الأول والطهارة الأولى.
وبهذا سلك الغزالي إلى الهداية مسلك الكشف الروحي، والتجأ إلى الاعتكاف والمجاهدة ليطهر نفسه، ويعدها للانقلاب الفكري العظيم.
خاتمة حياته
ومن البيت الحرام رحل الغزالي إلى دمشق، ويقول المقريزي في المقفى: «إنه جعل وهو في دمشق يعكف في زاوية في منارة الجامع الأموي ويلبس الثياب الخشنة، ويتقلل في مطعمه ومشربه، واعتزل الناس، وأخذ في تصنيف كتابه إحياء العلوم، وذهب يطوف المشاهد ويزور الترب والمساجد، ويروض نفسه على المجاهدات ويكلفها مشاق العبادات إلى أن لان له صعبها وسهل له بعد ضيق رحبها.»
ومن ثم صفت روحه صفاء أهلها لاقتباس النور من منابع النور العليا، فألف أخلد كتبه ومنها الإحياء، كما ذهب إلى بيت المقدس، واعتكف في المنارة الغربية من المسجد الأقصى، ثم رحل إلى الإسكندرية.
ثم عاد إلى وطنه خراسان فعاش معتزلا منهمكا في التأمل والمجاهدة والتفكير، ومن عجب أنه عاود التدريس في المدرسة النظامية بنيسابور! ثم رجع إلى طوس، واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته بين تلاوة القرآن، ومجالسة أرباب القلوب والتدريس، والكشف الباطني، كما أخذ يدرس علم الحديث.
وكانت وفاة الإمام الغزالي بطوس يوم الإثنين رابع عشر من جمادى الأخرى سنة خمس وخمسمائة، الموافق ثمانية عشر من ديسمبر سنة ألف ومائة وإحدى عشرة ميلادية، ونقل ابن الجوزي في كتاب الثبات عن أحمد أخي الغزالي أنه قال:
لما كان يوم الإثنين، وقت الصبح، توضأ أخي أبو حامد وصلى، وقال: علي بالكفن. فأخذه وقبله ووضعه على عينيه، وقال: سمعا وطاعة للدخول على الملك. ثم مد رجليه واستقبل القبلة ومات قبل الإسفار.
الشك مقدمة اليقين
تتراوح حياة الغزالي بين فكرتين، لكل منهما أكبر الأثر في دراساته وتوجيهاته، وإلى هاتين الفكرتين ترجع جميع الألوان والصفات المميزة لميراثه الثقافي، وهما الشك والإيمان، فهما مفتاح الوصول إلى تفهم شخصيته وأساليبه وأفكاره.
وقد آمن الغزالي بالشك واعتنقه صراطا علميا، يقول في خاتمة كتابه «ميزان العمل»: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطب فناهيك به نفعا؛ إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال».
وإذن؛ فالشكوك في مطلع حياة الغزالي كانت طريقه إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال. تلك هي شريعة الغزالي، وهذا هو منهاجه العلمي، وقد درس العلوم التقليدية والفلسفية والمذهبية في هذا الضوء.
وقد سبق الغزالي بجعله الشك مذهبا من مذاهب العلم، وفي إيمانه بأن الشكوك هي طريق الحقائق «ديكارت» و«دافيد هيوم» وهما أئمة هذا المذهب في الفلسفة الأوربية الحديثة، بل لقد أصبح الشك مذهبا من مذاهب العلم المعاصر، بل لونا من ألوان التجديد والابتكار.
ولا ريب في أن شكوك الغزالي قد أفادته فائدة كبرى في دراساته؛ فقد علمته أن يناقش قبل أن يؤمن، وعلمته ألا يقنع بما علم، بل يطلب المزيد أبدا.
وبهذا كان الغزالي يجدد حياته العلمية على فترات متعاقبة، كما دفعه الشك إلى عدم الرهبة من الخرافات المقدسة التي كانت تسبح في كتب عصره، أو التزييفات الدينية المحاطة بجلال وهمي في أذهان العامة، كما علمته عدم الرهبة أيضا حيال الأفكار والمذاهب التي تستند إلى أسماء خلدها الفكر والتاريخ؛ وبهذا نجا من التقليد كما نجا من الخضوع لفلسفة الإغريق.
بل إن هذه الشكوك هي التي أعدته لتلك الوثبة الكبرى إلى سماء الإيمان، وهي التي سهلت عليه عندما حصل اليقين اعتزال الحياة والناس؛ لينعم بمتاع عزيز على الحياة والناس.
وعظمة الغزالي تمت بسبب وثيق إلى هذا الشك؛ فهو الذي حمله على دراساته الكبرى، ومجادلاته العظمى، واشتباكاته المتعددة مع النحل والفرق والمذاهب، فلما حصل عنده اليقين كان يقين القوي الواثق الذي لا يداني ولا يماري.
كما أن هذا الشك كان علامة عقل كبير، لا يؤمن بقيود التقليد، بل يؤمن بنفسه أولا فيجل ما يهدي إليه العقل، ويرفض ما سواه.
ذلك الروح العظيم وذلك العقل الكبير، وهذا الاطلاع الشامل، وهذا الصراع بين العقل والروح، بين المشاعر والأحاسيس المختلفة؛ هو الذي أعد الغزالي لرسالته الخالدة.
فقد خرج الغزالي من هذا الصراع العنيف، وذلك التجاذب بين الدنيا والآخرة طاهرا نقيا كالسبيكة الذهبية تزيدها النار لمعانا وإجلالا، احترق الغزالي فتطهر فكرا وعقلا وقلبا.
كما ظهر تأثير تلك المرحلة واضحا في تكوين آرائه الاجتماعية والخلقية؛ لأنه استطاع أن يدرس في نفسه تقلبات الأهواء وإغراءات اللذة، ونعيم الطاعة ومتع العبادة، وخبر التصادم بين شهوات النفس وميول القلب وأسرار الروح، ولمس نقط الضعف في الإنسان، وعرف كيف تعالج وبأي أسلوب تداوى.
ولما آمن بعد شك كان إيمان الواثق الدارس لا إيمان المستسلم المقلد، فكان إيمانه هو الذي أتاح له تلك القوة الروحية الكبرى التي هيمن بها على عصره وعلى العصور التالية.
كما أن صقل نفسه وعقله بالمجاهدات أكسبه روحا تخفق على القرطاس، وتلمع بين الكلمات، وتملك على القارئ أحاسيسه، وتمنحه متاعا لقلبه ومتاعا لعقله ومتاعا لروحه، ندر أن يوجد عند غيره من سادة القلم والفكر.
كان الغزالي بنشأته وتأملاته وتنقلاته وكشوفه الروحية ودراساته العلمية أصلح قادة عصره لتلك الوثبة التي جدد بها روح الإسلام في القرن الخامس.
الغزالي يهدف نحو الحق
كافح الغزالي شكوكه كفاحا قويا، ولم يستسلم لها استسلاما تاما كما حدث ل «دافيد هيوم»، بل سعى إلى الإيمان جاهدا، وطلب الحقيقة في إلحاح ولهفة.
كان يحس ظمأ ملحا إلى الإيمان بحقائق ثابتة ترضي عقله، وترضي قلبه، وترضي روحه، وترضي المثل العليا التي ينشدها في الحياة.
كان الغزالي يسهد ليله في طلب الهدى وتلمس أبواب النور، وكانت جفونه تذبل وتتألم، وهو يبحث وراء الصواب، ويطرق تلك الأبواب الخفية التي تتلمسها الروح الضالة في شوق ولهفة؛ علها تظفر بحكمتها وغايتها.
كان يحلم ويتأمل ويطيل التفكير والتأمل؛ لأنه يشعر بفراغ الإيمان يملأ حياته فراغا، وببرودة الشك تميت حسه، وتميت عواطفه، وتميت جوانب الخير في قلبه، كان يحس ضآلة الحياة بلا هدف ولا يقين.
وقد جعل دراساته للعلوم وسيلة من وسائل الاهتداء، كما هي وسيلة من وسائل المعرفة، وقد تدبر الفقه طويلا وهو علم الأحكام والنظم الإسلامية، وكان ينشد فيه أكثر مما ينشد في غيره؛ الإيمان، ولكنه لم يجد فيه سكينة نفسه؛ لأن الغزالي المشبوب الروح ، الحار العواطف لا ترضيه تلك المجادلات اللفظية، ولا تلك الأقيسة الجامدة؛ فهو لم يحس قلوب الفقهاء تخفق فيما كتبوا، ولم يلمس أرواحهم ترفرف فيما دبجوا، وهو يريد شيئا يرضي الروح والقلب.
ودرس علم الكلام ليصل إلى الله، وليقنع نفسه بأدلته، ويرضي قلبه بألحانه ونغمه، وهو علم الشريعة وخلاصة فلسفتها وكنز مجدها، ولكنه وجد الكلاميين يذكرون الله وصفاته وكأنهم يقيمون بناء هندسيا، أو يجرون عملية من عمليات الحساب في برودة الحاسبين وجمود عواطفهم وأحاسيسهم.
ودرس الفلسفة وهي مفخرة العقل البشري، ليرضي عقله بآياتها، ثم يرضي يقينه برموزها، ولكن الفلسفة زادته شكا بافتراضاتها وألغازها وبقية الوثنية السابحة في معارفها، بل زادته نفورا من موازين العقل، ونفورا من الاهتداء بوساطة العقل.
ولجأ إلى التصوف عله يشفي غلته الصادية، فيذكر لنا «عبد الغافر» كيف أن أبا حامد بعد أن أوغل في دراسة العلم والتبحر فيه، عافه وتبرم به، ولم يجد فيه أية جدوى له، فدار بعينيه يتلمس ما يجدي على نفسه ويعده لزاد الآخرة، فاهتدى بهدي «الفارمذي الصوفي» وأخذ عليه، واشترك في حلقات الأذكار معه، ولكنه لم يبلغ من كل ما سلك شيئا تطمئن به نفسه.
كان يمثل من جديد تلهف سيدنا إبراهيم الخليل وتعطش روحه إلى الإيمان؛ فهو يتلمس الخالق في ضياء القمر، ثم يشاهده آفلا فلا يعجبه هذا الأفول، بل يجل الخالق عن أن تعتريه صفة من صفات النقص والتحول، ثم يرى الشمس؛ فيفرح بها، ويطمئن إليها، ويظنها ربة الأكوان؛ لأنها أكبر من القمر وأشد سناء وبريقا، ثم يراها غاربة فيجحدها وينكرها، ويبحث عن خالقه من جديد؛ حتى أتاه اليقين.
وفي هذا التيه الحار الملتهب عثر الغزالي على رجل شديد الإيمان، شديد الورع، هو الإمام الصوفي «يوسف النساج» فصحبه معه، وأخذ يصقل روحه بالرياضة والمجاهدة حتى طرق معه باب اليقين والنور.
قال الغزالي:
كنت في مبدأ أمري منكرا لأحوال الصالحين ومقامات العارفين، حتى صحبت شيخي يوسف النساج، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حظيت بالواردات، فرأيت الله تعالى في المنام، فقال لي: يا أبا حامد. فقلت: أو الشيطان يكلمني؟ قال لا، بل أنا الله المحيط بجهاتك الست. ثم قال: يا أبا حامد، زر مساطرك، واصحب أقواما جعلتهم في أرضي محل نظري، وهم الذين باعوا الدارين بحبي. قلت: بعزتك إلا أذقتني برد حسن الظن بهم؟ قال: قد فعلت، والقاطع بينك وبينهم تشاغلك بحب الدنيا، فاخرج منها مختارا قبل أن تخرج منها صاغرا، فقد أفضت عليك أنوارا من جوار قدسي. فاستيقظت فرحا مسرورا، وجئت إلى شيخي يوسف النساج، فقصصت عليه المنام، فتبسم وقال: يا أبا حامد، هذه ألواحنا في البداية، بل إن صحبتني ستكحل بصيرتك بإثمد التأييد، حتى ترى العرش ومن حوله، ثم لا ترضى بذلك حتى تشاهد ما لا تدركه الأبصار، فتصفو من الأكدار طبيعتك، وترقى على طور عقلك، وتسمع الخطاب من الله تعالى كموسى:
إني أنا الله رب العالمين .
فكان هذا هو الفيصل، وكانت تلك الرؤيا هي خاتمة الجهاد النفسي، وخاتمة الشكوك، وبداية اليقين والإلهام، والخيط الأول في الفلسفة الغزالية الروحانية.
كان التشاغل بالدنيا هو الحجاب الذي يجب على الغزالي أن يمزقه، وكان حب الله والتفاني في عبادته هو قطرة النور الأولى في هذا الفيض، فتصوف وسلك الطريق، وسار على الجادة؛ حتى كان طليعة القوم ودليل القافلة.
كان هذا الحب الإلهي هو إلهامه ودليله ورائده، فأصبحت رسالته عبادة ومحبة، وقد صبغ الوجود، وأفنى ذاته في جلال تلك المعاني حتى غدا العلم لديه تعبدا؛ لأنه يريه الله في كل شيء، ولأنه يجعل الطبيعة أمامه محاريب دائمة للصلاة والفكر.
وهكذا لجأ الغزالي إلى الاعتكاف والعزلة في جوانب المساجد ومناراتها، يعبد الله ويتأمل في آياته، ويفنى حبا وغراما.
جعل الغزالي الحب الإلهي هو غاية الحياة كما هو سر سعادتها، انظر إليه إذ يقول في توضيح السعادة:
سعادة كل شيء لذته وراحته، ولذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خلق له؛ فلذة العين في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب الخاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مخلوق لها، وكل ما لا يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به مثل الشطرنج إذا عرفها فرح بها، ولو ينهى عنها لم يتركها، ولم يطق عنها صبرا، وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى فرح بها ولم يصبر عن المشاهدة؛ لأن لذة القلب المعرفة، وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر؛ ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو عرف المليك لكان أعظم فرحا، وليس موجود أشرف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم أثر من آثار صنعته، فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة أعظم من لذة معرفته، وليس منظر أحسن من منظر حضرته، وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس، وهي تبطل بالموت، ولذة معرفة الله متعلقة بالقلب فلا تبطل بالموت؛ لأن القلب لا يهلك بالموت، بل تكون لذته أكثر وضوءه أكبر؛ لأنه خرج من الظلمة إلى النور.
فالغزالي يقرر في ثقة يقينية ووضوح وصراحة بأن الحياة الفاضلة السعيدة هي معرفة الله وعبادة الله ومحبة الله؛ تلك هي الغاية العليا والهدف الأسمى؛ لأن كل لذة سواها فانية، وكل غاية سواها لاغية.
فإن كان «شوبنهور» لخص فلسفته كلها في كلمة واحدة هي جماع رسالته؛ إذ يقول: «إن الحياة إرادة»، وإذا كان «نيتشه» جعل آيته الذهبية قوله: «الحياة هي القوة»؛ فإن آية الغزالي ورسالته: «الحياة محبة وعبادة.»
وبذلك يلتقي الغزالي بالفيلسوف الروماني «سنكا» الذي كان يقول: «ولدنا خاضعين لأحكام الله، فمن أطاع الله كان حرا آمنا سعيدا»، ويتفق مع «أرسطو» في قوله: «الأشرار يطيعون خيفة، والصالحون على حب.»
وقد أعد الغزالي نفسه لتلك الرسالة بالتطهر والصفاء والاعتكاف الكامل، كان يتعبد تعبد العاشقين الوالهين.
ثم غادر محاريبه وخلواته ليزاحم الإنسانية في موكبها وليرشدها إلى طريقها. رأى الغزالي الناس يسيرون في مواكب الحياة لا يدرون لماذا هم سائرون، ولا يسألون لماذا يسيرون! شاهد القطيع البشري لا يعرف الراحة، ولا السعادة ولا السلام، ولا يدرك نعمة الاستقرار الكبرى، شاهد دنيا يمزقها التعب والبغضاء، فنادى بمعاني الحياة المقدسة ، وأرشد إلى غاية الوجود العليا، فأذاق المتعبين المجهدين الضالين رحيق الراحة، ونعيم المحبة، وسحر السلام.
هل للمعرفة طريق باطنية غير الحواس الخمس؟
الكشف الباطني يشغل جانبا ضخما من رسالة الغزالي؛ إذ هو في طليعة رجال الفكر الإسلامي، بل العالمي الذين آمنوا بإلهامات الروح، بل وجعلوا من تلك الإلهامات وسائل وغايات للإرشاد والهداية.
وقد اختلف المفكرون قديما وحديثا في طريق المعرفة، وهل تتأتى عن طريق الحواس الخمس فحسب؟ أم لها سبل وطرق باطنية إلهامية أخرى؟
فالماديون منهم لا يرون للمعرفة بابا إلا الحواس الخمس المتصلة بالعالم الخارجي، ويقررون أن لا مصدر فوق هذا تهبط منه المعرفة، غير الخيال والتصور، وهم شديدو التهكم برجال الكشف الباطني ومن سلك مسلكهم من أرباب القلوب أو الرياضة العقلية، ذلك سبيل أصحاب المذاهب المادية من الفلاسفة.
أما الصوفية والروحانيون، على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم، فيقررون أن للعلم وسائل باطنية تصل بين النفس الإنسانية والعالم الروحاني، يلمسها كل من صفت نفسه من أدران المادة، وتخلصت من شوائب الحياة، فيحصل من هذا الطريق على أسرار الوجود وخفايا الخلود، وحكم تعلو على الحواس الخمس والمعارف التي تدركها هذه الحواس.
والعلم الحديث القائم على الاستقراء والمشاهدة يعترف في صراحة بأن للمعرفة وسائل أخرى غير الحواس الخمس، وأن هناك إلهامات روحية غامضة لا سبيل إلى معرفة أسرارها أو إنكارها أو التهكم عليها.
فمسألة العقل الباطني، والتنويم المغناطيسي الذي عجز الماديون عن إنكاره أو تشكيك النفوس فيه، ما هو إلا ضرب من ضروب الأرواح السابحة التي يمكن للأرواح البشرية أن تلتقي بها، وتتحدث إليها، وترشف من نبعها ومعارفها ما شاءت من أسرار وفنون.
وقد دل العلم الحديث على أن المنوم تنويما مغناطيسيا بعد أن تتعطل حواسه يتقمص شخصية أرقى من شخصيته، وتتلبسه روح عاقلة واسعة الإدراك سامية المعارف، تتحدث عن أدق المسائل وأغمض المسالك.
ومن مشاهدات العقل الباطني ما يلمح في كثير ممن نفذ إليهم شعاعه في ناحية خاصة كالحسابين على البديهة، وهم طائفة تلقى عليهم أغمض المسائل الرياضية وأدقها والتي تحتاج إلى زمن كبير في التفكير والعمل، فيجيبون عنها فورا وهم لا يدرون ولا يعرفون كيف ولا متى حصل هذا!
وهناك أطفال يوقعون على الموسيقا قطعا وألحانا يعجز عنها أئمة هذا الفن، وهم لا يعرفون كيف صنع هذا اللحن أو رتب ذاك النغم!
وقد كتب الشاعر «موسيه» عن نفسه فقال: «أنا لا أعمل ولكني أسمع فأفعل، فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني»، وكان «لامارتين» يقول: «لست أنا الذي يفكر، ولكن هي أفكاري التي تفكر لي»، وروى الشاعر «رينيه» أنه قد ينام غالبا وهو يعمل قطعة من الشعر لم تتم، فيستيقظ فيجدها تامة في اليوم التالي عندما يفكر فيها. أما «سقراط» فقد كان يسمع بأذنيه ما تلقيه إليه الروح.
بل إن هناك مذاهب فلسفية قديمة قامت بأسراها على المناجاة الروحية والاتصال بالله، ف «أفلوطين» في مدرسة الإسكندرية يرى: «أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة»، و«مالبرتش» في القرن السابع عشر يقول باتصال مستمر بين العبد وربه، فمعرفتنا ليست إلا فيضا من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.
وأرسطو الذي كان واقعيا في بحثه وطرقه، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته؛ قد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراسته النفسية على شيء من الفيض والإلهام.
ومن مذاهب العلم الحديث «مذهب المتأملين» الذين يؤمنون بالتأمل ويفضلونه على القراءات والدراسات. فأصحاب المذاهب الفكرية وقادة الرأي لديهم كانوا من المتأملين، ولم يكونوا من الذين أفنوا حياتهم في البحث والدرس.
والصوفية في الإسلام تحمل لواء الكشف الباطني، وقد ازدحمت مكاتب الفكر الإسلامي بتراث ضخم للصوفية التي حوت معارفها ينابيع من العلوم والفنون، أثارت جدلا وحوارا، ولا تزال تثير جدلا وحوارا.
ولا ريب في أن الصوفية قد وجدت في الغزالي قائدا بارعا ومحاميا لبقا وشارحا ساحرا، يأسر القارئ إلى صفوفه ويكسب المعارك بفنونه، فاستطاع أن يجعل منها علما واضحا مهذبا، أو كما قال العلامة ماكدولاند: «إن الصوفية بلغت بفضله ونفوذه وتأثيره مكانا ثابتا وطيدا في الإسلام.»
وتفوق الغزالي في تاريخ التصوف مرجعه إلى تفوقه العلمي؛ فقد درس العلوم الفلسفية والتقليدية والجدلية والمذهبية دراسة لم تتيسر لكاتب صوفي سواء تقدم به تاريخ الزمن أم تأخر.
وبذلك أصبح الغزالي هو كاتب الصوفية الأول، وبفضله وضحت أسرارها ومعانيها، وتحددت أهدافها ومراميها، وكما حطم نفوذ الفلسفة في المشرق بعد سيادة وهيمنة أطلق علم التصوف في السماء، يسبح خفاقا في قداسة ونور وإجلال.
والغزالي يؤمن بأن معارف الباطن هي طريق الهداية؛ لأنها اتصال مباشر بالحقائق الخالدة والأسرار النورانية، وصلة مستمرة بين العبد والخالق، أساسها المحبة المتبادلة والإلهامات المشرقة.
وقد أطلق الصوفيون على المعرفة الروحية لقبا يجعلها أصلا من الأصول، لا فرعا من الفروع؛ فأسموها علوم الباطن، وأقاموا ثقافتهم وعبادتهم على أساسها.
وعلم الباطن عند الغزالي هو غاية العلوم وقد عرفه بقوله:
إنه عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بإدراك حقائق علم الدنيا وعلم الآخرة، وهذا ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، ولا سبيل لهذا العلم إلا بالرياضة والتعليم، وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب أو لا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء إلا مع أهله، وهذا هو العلم الخفي الذي أراده
صلى الله عليه وسلم
بقوله: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم يجهله أهل الاغترار بالله.»
واعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة، وإنما ينكرها القاصرون، وقد قال
صلى الله عليه وسلم : «إن للقرآن ظاهرا وباطنا، وحدا ومطلقا»، وقال علي، وأشار إلى صدره: إن هاهنا علوما جمة لو وجدت لها حملة، وقال أيضا: لو أردت أن أفسر الفاتحة بما أعلم لاحتجت إلى ثمانين بعيرا، وقال ابن عباس في قوله تعالى:
الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن : لو ذكرت تفسيره لرجمتموني، وقال أبو هريرة: «حفظت من رسول الله وعاءين؛ أما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر: لو بثثته لقطع هذا الحلقوم»، وقال الرسول: «ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسر وقر في صدره»، وقال سهل التستري: للعالم ثلاث علوم: علم ظاهر يبذله، وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله، وعلم هو بينه وبين الله لا يظهره لأحد. فإن قيل: إذن؛ الظاهر خلاف الباطن، وفي هذا إبطال للشرع. كان الجواب: إن الشرع عبارة عن الظاهر، والحقيقة عبارة عن الباطن، وإن كان لا يناقضه ولا يخالفه، ولا يكون للشرع سر لا يفشى، بل يكون الخفي والجلي واحدا، وإنما هو اختلاف العقول والأفهام والظرف والمكان، وإن هناك من يدرك الشيء جملة ثم يدركه تفصيلا بالتحقيق والفروق، وذلك كما يتمثل للإنسان في عينه شخص في الظلمة أو على البعد، فيحصل له نوع علم، فإذا رآه بالقرب أو بعد زوال الظلام أدركه إدراكا أوفى.
الغزالي والتصوف
إن محمدا عشق ربه
قبيل الوحي المحمدي كان الرسول يتبتل ويتعبد في غار حراء مطلقا روحه للتأمل والتفكر في بدائع الله وآياته الكونية، صارفا قلبه عن متاع الحياة وشواغل الوجود؛ ليتفرغ بقلبه وعواطفه للمناجاة والعبادة وتلمس المعرفة، حتى كانت العرب تقول: «إن محمدا عشق ربه.»
وبداية الأنبياء هي نهاية ما اصطلح على تسميتهم بالصوفية، الذين يقولون: إن المجاهدة والمحبة، والفناء في معاني المحبة والعبادة تعد الروح للتذوق والتلقي، وتوصل إلى العلوم والمعارف. فالمعارف في اعتقادهم كامنة في الروح البشري أصيلة في مادتها لا دخيلة عليها، والتغلب على الجسد بإعلاء مكانة الروح يمزق تلك الحجب ويرفع الظلمة التي تحول بين الروح والنور.
ويعبر الغزالي عن المعرفة بقوله: «إنها نور يقذف في القلب.»
وقد كان الإمام مالك يقول: «ليست المعرفة بكثرة الرواية، ولكنها نور يضعه الله تعالى في القلب.»
وقد أثار التصوف جدلا وحوارا، ولا يزال يثير جدلا وحوارا في الفكر الإسلامي، وأكبر الظن أن هذا الجدل، أو هذا الحوار سيبقى خالدا ما بقي الفكر.
والذين نقدوا التصوف الإسلامي وجهوا نقدهم الأكبر إلى أهداف ثلاثة.
فالفلاسفة وأصحاب المذاهب العقلية عابوا طريقته إلى المعرفة، وأنكروا أن يكون التفرغ والتجرد من متع الحياة والزهد في شهواتها ونعيمها سبيلا إلى المعرفة، بل سبيل المعرفة عندهم هو تغليب أرقى أجزاء النفس على الحواس، وهم يقصدون بذلك قوى العقل وإرادته، كما وصفوا الانتصار العقلي على الحواس بأنه أرفع مراتب السعادة كما يقول ابن رشد.
وهم بذلك يؤيدون الصوفية أكثر مما ينقدونها أو ينقضونها؛ لأن في سعيهم إلى تغليب العقل نزوعا إلى الصوفية وإن اختلف الوضع، فنادوا بالعقل، وناد المتصوفون بالروح.
وعلماء الاجتماع ورجال الأخلاق تهكموا بالصوفية وأساليبها، وأسرفوا في التهكم والتجريح؛ لأنها في نظرهم لا تصلح للحياة العملية، ولا يقوم بها نظام المجتمع، ولا يمكن أن تتأسس على نظمها الزاهدة الأمم.
وتلك شهادة للتصوف لا عليه، فهي تدل ضمنا على أنهم لا ينشدون مظهرا في الحياة ولا غلبة في مضمارها، ولا يبغون مأربا، ولا يلتمسون مغنما من مغانمها، وإنما ينشدون طهرا وقربا من الله، وفوزا برضوانه وعبادة للعبادة، بل إن التصوف الإسلامي جعل العبادة أصلا والمعرفة فرعا.
والصوفيون لا يقولون إن طريقهم للناس جميعا؛ لأن المثالية لم تكن يوما من الأيام شرعة مباحة لكل من يخطر بقدمين على الكوكب الأرضي.
وليس في استطاعة الناس جميعا أن يكونوا ملوكا، ولا أن يكونوا فلاسفة أو أطباء مثلا أو غيرهم من الطوائف والمذاهب العقلية والعلمية.
وأما الفقهاء وعلماء الكلام: فقد هاجموا المتصوفة هجوما عنيفا، بل غالوا في هجومهم حتى رموهم بالمروق والضلال ومفارقة الشريعة وظاهر السنة.
وهنا موقف دقيق، ففريق من المتصوفة قد غالوا وأفرطوا، كجماعة الحلوليين الذين قالوا بوحدة الوجود، وفريق آخر عبث بظاهر الشرع، وأفرط في السبحات والوثبات والاستغراقات حتى تحلل من الفرائض والآداب.
ولكن التصوف الصادق لا يعترف بهؤلاء ولا هؤلاء، بل يبرأ منهم ويهاجمهم بأشد من هجوم الفقهاء أنفسهم.
ودستور الصوفية وصفاتهم يرسمه الغزالي ويوضحه بقوله في كتاب «ميزان العمل» عند ذكره لعلامات السائرين إلى الله فيقول:
اعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل، والمدعي فيه كثير، ونحن نعرفك علامتين له؛ العلامة الأولى: أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع، موقوفة على حد توقيفاته، إيرادا وإصدارا وإقداما وإحجاما؛ إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها، ولا يصل فيه إلا من واظب على جملة من النوافل، فكيف يصل إليه من أهمل الفرائض؟! والسالك لسبيل الله يعرض عن الدنيا إعراضا لو ساواه الناس كلهم لخرب العالم.
فإن قلت: فهل تنتهي رتبة السالك إلى حد ينحط عنه بعض وظائف العبادات، ولا يضره بعض المحظورات، كما نقل عن بعض المشايخ من التساهل في هذه الأمور؟ فاعلم أن هذا عين الغرور، وأن المحققين قالوا: لو رأيت إنسانا يمشي على الماء وهو يتعاطى أمرا يخالف الشرع فاعلم أنه شيطان، وهو الحق.
وإذن؛ فالغزالي يقرر بأن المتصوفين فئة خاصة، ولا يمكن أن يكون العالم على مثالهم، وإلا لخربت الدنيا، وتغيرت معالمها وفسد نظامها.
كما أنه يربط التصوف بالشريعة رباطا لا ينفصم، فيجعل التمسك بقواعد الشريعة بداية السالك، فإذا خالف الشريعة ولو سار على الماء وطار في الهواء فهو شيطان.
تلك هي الصوفية الكاملة التي يصفها الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال بقوله:
إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه؛ لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.
وماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها، وأول شروطها تطهير القلب عما سوى الله تعالى، ومفتاحها استغراق القلب بالكلية في ذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟!
وأول هذه الطريقة المكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
التصوف الإسلامي ومراحله
ينقسم التصوف الإسلامي إلى قسمين؛ قسم يتعلق بالتربية وتهذيب الروح ونبل الخلق والتحلي بالفضائل والمحاسن الأدبية، وهو ما اصطلح على تسميته بعلم المعاملة، وقسم يتعلق بالرياضة الروحية والعبادة وما فيها من نور وطهر وكشف وفيض.
والقسم الأول:
هو عماد فلسفة الغزالي الأخلاقية، بل هو عماد كتابه الأكبر «الإحياء» الذي خلد في تاريخ الفكر الإسلامي، وخلد به الغزالي ك «حجة للإسلام» بتوضيح فضائله وأنواره.
وهو مادة دسمة لرواد الأخلاق، ومادة دسمة لمن يبغي إنسانية نبيلة مهذبة لا تعرف التخاصم والتنابز بالألقاب، ولا تعرف الفسوق والجدال وسوء الخلق، وفيه تتجلى وتبرز معاني الحديث الشريف: «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.»
وأما القسم الثاني:
وهو قسم العبادة والفيض: فأول شروطه - كما يقرر الغزالي - معرفة الكتاب والسنة معرفة عليا، خلافا لمن قال: إن الفيض يأتي بالطهارة فقط، ولو لم تكن هناك معرفة بالكتاب والسنة والفقه، ويسمى هذا القسم في اصطلاحاتهم ب «الطريق» وقد قسموه إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى:
مرحلة العمل الظاهر؛ أي مرحلة العبادة والإعراض عن الدنيا وزخرفها وزينتها، والزهد في شهواتها، والانفراد والعكوف على الذكر والاستغفار.
والمرحلة الثانية:
مرحلة العمل الباطني، بتزكية الأخلاق وتطهير القلب، وتصفية الروح ومحاسبة النفس ومراقبتها، والتجمل بالأخلاق النبيلة والصفات الزكية.
والمرحلة الثالثة:
مرحلة الرياضة والمجاهدة التي يقول فيها الرسول: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، وبتلك المجاهدة يقوى سلطان الروح، وتتحرر النفس من الأدران الأرضية؛ فتسمو وتصفو حتى تنطبع فيها حقائق العالم وأسراره، وينسكب في القلب نور ينكشف به جمال العالم وجلاله ودقائقه وأسراره، فيرق الحس ويتنبه الشعور ويستيقظ الإحساس، فتكون حركة حياة في المشاعر عامة، وتشعر تلك المشاعر بلذة عليا وعلوم نورانية تقوى في النفس حتى تصير صفة لازمة، ويتوالى الكشف للنفس وتزاح عنها الحجب شيئا فشيئا، حتى تصل إلى الأنوار العليا في عرفهم.
أما المرحلة الرابعة:
فهي مرحلة الفناء الكامل بوصول النفس إلى مرتبة شهود الحق بالحق، وانكشاف ووضوح العوالم الخفية والأسرار الربانية، وتوالي الأنوار واللذة الروحانية.
وتلك المرحلة هي مرحلة الخطر، ومن أجلها نشبت المعارك بين الفقهاء والصوفية، ومنها نشأ التيه لكثير من الصوفية؛ لأن من تزل قدمه هنا ضاع إلى الأبد.
وتلك المرحلة لا تكتب ولا توصف؛ لأنها خارجة عن نطاق التصور العقلي، والغزالي وهو علم الصوفية وكاتبها الأكبر لم يتعرض لها، ولم يشغل قلمه بها، وإن كان لم ينكرها، بل تركها لأصحابها وأربابها.
ولكنه جال وأفصح في المراحل الثلاث السابقة ونثرها في كتبه نثرا أشبه بالنور والعطر، واستمد منها روعة أسلوبه، وروعة تهذيباته، وروعة مبادئه التي جعلت من الحياة محرابا أعظم لعبادة الله، ودعوة عباده إلى الهدى والرشاد.
وقد تخصص الغزالي لآداب التصوف تخصصا جعله نسج وحده بين رجال الفكر الإسلامي؛ فقد مزج الشريعة بالتصوف، كما مزج العبادات بروح من التصوف أطلق فيها النور والروح إطلاقا يبعث في القلب نشوة الإيمان، ورعشة الخوف، وفرحة الحس المطمئن إلى واجبه المقدس.
ودارس الأخلاق عند الغزالي لا بد وأن يدرس التصوف، وأن يتذوق التصوف، ثم يدرس أخلاقيات الغزالي فيتذوق نبل رسالته الأخلاقية وجلال شأنها.
وإن كان رجال التربية وأساتذة الفكر المثاليين يفكرون اليوم في إيجاد طبقة من الإنسانية ممتازة، كاملة الرجولة، قوية الحيوية، سامية الخلق والفكر، متلائمة التناسق، ممن أطلقوا عليها اسم «سوبرمان» أي الرجل الكامل أو الخلق الكامل، فقد وضع الغزالي من قرون الصورة الحقيقية التامة لهذا النوع الممتاز من البشرية السعيدة الطاهرة.
فإن المبادئ الأخلاقية النبيلة التي وضعها الغزالي وشرطها للمؤمن لجديرة بإيجاد مجتمع إنساني ملائكي فاضل، سليم من الضغن والتنازع، بعيد عن الفحش والرزيلة.
وأن النظم التي سنها الغزالي ووضعها للمجتمعات، وطرق اتصالها وتعاملها وعوامل اتحادها ومحبتها لخليقة بإنشاء دولة أو عصبة من الأمم عالمية متحابة متعاونة متفانية في غاية نبيلة واحدة، تهدف نحو وجهة عليا يرفرف عليها علم المحبة، ويوحدها قانون الأخوة، ويسعدها السلام الدائم للروح والقلب والأحاسيس.
ورسالة الغزالي الأخلاقية هي تطهير الجوارح تطهيرا كاملا عما يلوثها ، وتزكية القلب حتى عن همسات الغل والحسد وأماني التفوق والغلبة.
هي الطهارة التامة الشاملة لأحاسيس الروح ونداءات البدن ووثبات العقل، فهو يرى أن الإنسان خلق للفضيلة، وأن السعادة والفضيلة صنوان، وأن الإنسان الفاضل هو الإنسان السعيد؛ وبذلك حل مشكلة الإنسان والأخلاق والسعادة حلا فاصلا كاملا.
رسالة الغزالي في الأخلاق هي ربط السعادة بالفضيلة، وبذلك تستريح النفس الإنسانية، ويستريح المجتمع الإنساني، وتستريح الأمم البشرية؛ لأن أهدافها ستتحد بالفضيلة؛ ولأن الفضيلة ستكون طريقها إلى السعادة.
الصراع بين الغزالي والفلاسفة
إن الصراع الذي أثاره الغزالي وحمل لواءه ضد الفلسفة والفلاسفة ليحتل من الثقافة الإسلامية وتاريخ الفكر العام جانبا خطيرا؛ فقد انتظم في الاهتمام به رجال الفكر في مختلف العصور والأزمان على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم.
فقد كان للفلسفة في الشرق سيادة وجلال، بل لقد كادت الفلسفة أن تحل مكان الدين، فاستحوذت على الذهن والتفكير واتسعت التصورات، وانتشرت التأملات الفلسفية، وجرى الناس وراء النظريات والجدل جريا أتعبهم وأتعب معتقداتهم وأتعب الحياة معهم.
ولا شك في أن علماء الكلام الإسلاميين قد استفادوا من الفلسفة؛ فالإمام الأشعري وهو ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة أحدثوا أكبر انقلاب فكري في تاريخ الإسلام قد استعان بكثير من النظريات العلمية الفلسفية لتدعيم علم الكلام، وتقوية حججه وطرائق بحثه.
كما أثرت الفلسفة في أدلة الفقه وطرائق بحثه، وأثرت أكثر من هذا في رجال العقل الإسلامي؛ فقد بذل الفلاسفة الإسلاميون كثيرا من الجهود في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين؛ فابتدعوا مذهبا وسطا في علوم ما وراء الطبيعية، وابتكروا نظريات تتأرجح هنا وهناك للمصالحة والتوفيق بين فلسفة الإغريق ونظم الإسلام.
ورغم هذا فقد رهبها رجل الفقه، كما رهبها رجل الكلام؛ فحاربوها وجادلوها وابتدعوا لحربها علوم التوحيد.
وجاء الغزالي وطبول الحرب تدوي باسم الدين، وحماية الجماهير من لوثة الوثنية والتضليل والتشكيك العقلي.
جاء والنزاع بين الفلسفة والدين هو موضوع الساعة، كما هو موضوع الساعة أبدا في كل العصور والدهور؛ فمشكلة العقل والدين مشكلة خالدة، ما دام هناك فكر يسبح ووحي يتبع.
وكان لا بد للغزالي من خوض المعركة؛ فقد اجتمعت في يديه أسلحة لم تجتمع لغيره، ولقلمه جولات يترقبها جيله ويرمقها بالإجلال والإكبار، وهو رجل قتال وكفاح، يلبي الصيحة ويحمي حماه.
أرسل الغزالي صيحة لا تعرف المجاملة ولا اللين، ففض في صراحة وعنف النزاع بين العقل والعاطفة، والوحي والفلسفة.
وأحدثت تلك الصيحة دويا، فهي صيحة جديدة النغم ساحرة اللحن قوية اليقين، فقد كان الغزالي هو المفكر الأول والوحيد الذي لم يكتف مثل علماء الكلام باقتباس عدة مباحث متفرقة للفلاسفة ثم نقضها؛ بل قام لهدم البناء كله، ذلك البناء الذي أنشأه الإغريق وهذبه الفلاسفة المسلمون.
ولم يكن الغزالي هادما فحسب، بل أقام من أنقاض البناء الفلسفي الذي هدمه على رءوس أصحابه صروحا من الفلسفة الأخلاقية الدينية، لا يزال يعمرها المسلمون إلى اليوم.
والغزالي لم ينكر الجانب العقلي والرياضي من الفلسفة، بل اعترف بهما وتركهما للموازين العقلية، وإنما حطم جانب ما وراء الطبيعة، وحطم معه الفلاسفة بتهم المروق والزندقة.
والغزالي بعد ذلك - كما يقول العلامة ماكدولاند - أول من أدنى الفلسفة وقرب بحوثها الدينية أو الإلهيات من متناول الذهن العادي وتعاطي الناس عامة لها، وكانت من قبله محفوفة بالأسرار مكتنفة بالغموض والرهبة، كأنها علم لاهوتي لا يدركه غير أصحابه والراسخين فيه؛ لما كان لاصطلاحاتها من الغرابة على الأذهان، حتى لتقتضي معرفتها الدرس المجهد، والاستظهار الشاق، وكان من الصعب تفهمها ودراستها، فقد انتقلت النظريات والمذاهب والأفكار اليونانية بأكثر مصطلحاتها وتعبيراتها إلى السريانية أولا ثم إلى العربية، وأوجب هذا الانتقال تصحيفا وتحريفا عند التعريب، وكان لا بد من طول دراسة وتقص متواصل قبل معرفة مصطلحات الجدل والإلمام بعلم المناظرة.
فلما جاء الغزالي مزق الحب وأطلق النور في الظلمات، فإن كتابه «تهافت الفلاسفة» لم يكتب لطلاب الفلسفة، وإنما كتب للجماهير كافة، وقربت مناهله وموارده لسائر الوراد والقاصدين، وهذا ما أغضب ابن رشد؛ فاتهم الغزالي بأنه أباح العلم للعامة وأفقده أرستقراطيته.
والحق أن الغزالي كان له فضل إنزال الفلسفة من عليائها؛ فقد جعل أسرارها علما واضحا لكل قارئ، وتلك قوة لم تعرف في عالم الفكر إلا للغزالي، وقد ألف كتابه «مقاصد الفلاسفة» لهذا الغرض، وأوضح غايته في مقدمته بقوله:
أما بعد، فإني التمست كلاما شافيا في الكشف عن تهافت الفلاسفة، وتناقض آرائهم، ومكامن تلبيسهم وإغوائهم، ولا مطمع في إسعافك إلا بعد تعريفك مذاهبهم، وإعلامك معتقدهم؛ فإن الوقوف على فساد المذاهب قبل الإحاطة بمداركها محال، بل رمي في العماية والضلال؛ فرأيت أن أقدم على بيان تهافتهم كلاما وجيزا مشتملا على حكاية مقاصدهم في علومهم المنطقية والإلهية، من غير تميز بين الحق والباطل، بل لا أقصد إلا تفهم غاية كلامهم من غير تطويل.
وحينما فرغ الغزالي من تلك الرسالة، عمد إلى أخرى أشد صعوبة وأكثر التواء، وذلك هو تصديه لكل هؤلاء، والتمييز بين حقهم وباطلهم.
درس الغزالي المذاهب الفلسفية كافة، ثم لخصها وركزها في عشرين مسألة رئيسية، استطاع أن يزيفها في قوة وتفوق تزييفا جر عليه عداء الفلاسفة عداء ملتهبا قاسيا، حتى إن ابن رشد كان يلقبه ب «الجاهل الشرير».
ولكنه من الناحية الأخرى رفع له مكانا في الشرق، وخاصة بين الدينيين لم يستطع باحث أن يزاحمه فيه رغم توالي السنين والقرون.
ولا جدال في أن الغزالي قد نجح في حملته نجاحا باهرا؛ لمكانته العلمية ولسلطانه الواسع على النفوس والقلوب، نجاحا نلمس أثره قويا واضحا في الشرق؛ إذ أصبح اسم الفلسفة فيه حليف الزندقة والإلحاد.
ولقد أنتجت تلك الحركة ثمارا طيبة؛ لأنها خففت من غلواء المذاهب الفلسفية، وأبعدت فتنتها عن كثير من العقول، إلا أنها كانت كما يقول الغزالي في موازينه العلمية: «إن لكل شيء وجهين؛ وجه خير ووجه شر.» لأنها أنتجت من الناحية الأخرى فكرة متطرفة مسرفة في التطرف، ترمي إلى النفور من الفلسفة طالحها وصالحها بلا تمييز أو تفكير.
وبلغ من الغلو في تلك الناحية أن حرم كثير من علماء الدين البحوث العقلية، بل اتخذ هذا التحريم حجة في المناقشات ودحض البراهين، حتى أصبح شعارا للجامدين من الفقهاء رمي المفكرين بالزندقة والإلحاد.
والغزالي لم يقصد هذا ولم يرم إليه، وإنما جرح من الفلسفة كل ما يتعارض مع أصول الدين وقواعده، وأما ما عدا ذلك فقد دافع عنه بحرارة وغذاه وأوضحه، ونشره على الخافقين في بحوثه ودراساته.
يقول الغزالي في مقدمة كتابه «تهافت الفلاسفة» ما خلاصته: «إن الفلاسفة من عهد أرسطو إلى عهدنا هذا قد بنوا مذاهبهم في الإلهيات على ظن وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون بهذا ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها، كما لم يختلفوا في الحسابية والمنطقية.»
وبهذا المنطق القوي الواضح السائغ ناقش الغزالي الفلاسفة، فحطم ونقض جميع ما دبجت أقلامهم في الإلهيات وعلوم ما وراء الطبيعة.
الغزالي ينشد الحق ولا يتقيد بالمذاهب
بعد أن طوف الغزالي في آفاق العلوم التقليدية والعقلية والمذهبية، وبعد أن صقل روحه بالمجاهدات والكشف الباطني، استن لنفسه نهجا مستقلا؛ فهو طالب حق وحكمة، شعاره: «لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله»، وبهذا ابتدع الغزالي مذهبا فريدا بين مذاهب الفكر الإسلامي.
فهو لا يتقيد ولا يقيد نفسه بالانتساب إلى فرقة ما، أو مذهب خاص، أو يربط تفكيره إلى مركبة جماعة من جماعات العلم يفكر بتفكيرهم؛ فيصوب ما يصوبون، ويخطئ ما يخطئون.
بل هو ينشد الحق والحق وحده أينما وجد، وأي لسان به نطق؛ فيأخذ من آراء المتكلمين ما يؤمن به، ومن آراء الفقهاء ما يعتقده بلا عصبية أو جمود. فهو يبيح لنفسه الاجتهاد، بل يبيح لكل إنسان الاجتهاد؛ ليكون صاحب مذهب ورأي لا عبدا من عبيد التقليد والمذاهب.
وقد وضح الغزالي مذهبه الفكري بقوله في كتابه «ميزان العمل»:
لعلك تقول إن كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية، وإلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد. فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقا، فكيف يتصور هذا؟ وإن كان بعضه حقا فما ذاك الحق؟
ثم يجيب عن هذا بقوله:
اطرح المذاهب، فليس مع واحد منهم معجزة يترجح بها جانبه. فاطلب الحق بطريق النظر، لتكون صاحب مذهب، ولا تكن في صورة أعمى مقلد، وإنما خذ الحق أينما وجدته، وفي أي ناحية كان، واطلب الحق بالنظر لا بالتقليد؛ فالحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها.
وتلك رحابة فكرية من الغزالي لم تعرف لغيره من رجال الدين؛ فهو ينشد الحق لا المذهب، ويعرف الحق أولا ثم الرجال، لا الرجال أولا ثم الحق.
وهو يرى أن العصبية لمذهب ما تحرم الإنسان من جني ثمرات طيبة في غيره. فليس مذهب ما مهما عاديناه وخاصمناه يخلو من فكرة رائعة، ونظرة صائبة ولو في جانب واحد، ومذهبنا الذي نعتنقه مهما أحببناه وقدسناه لا يخلو من ضعف ولو في فكرة واحدة من طرائق بحثه وعرضه، فلم نقيد أنفسنا، والعلم كالفكر يجب أن نحرره من العصبية، فننشده في كل أفق ونطلبه في كل نبع؟!
وهي فلسفة غزالية مبتكرة في التفكير الإسلامي، بل هي فلسفة غدت اليوم من سمات العلماء المجددين.
جهاد الغزالي
بعد أن تطهر الغزالي في عزلته، وبعد أن أعد نفسه إعدادا عقليا وروحيا لرسالته الإصلاحية، وبعد أن آمن بأن لديه مسببات النجاة لهؤلاء الذين يسيرون في الحياة بلا غرض ولا غاية ولا هدف نبيل، يسيرون تعلو وجوههم علامات التعب والأسى، وتزخر قلوبهم بشهوات النفس والهوى، وتموج عقولهم بالترهات والأكاذيب والضلال؛ فارق اعتكافه وعزلته ليحمل راية الجهاد، راية الأنبياء والمصلحين والقادة.
فهو يعتقد أن الاعتكاف والعزلة والنجاة بالنفس أوهى درجات اليقين والإيمان، أما الجهاد في سبيل الخير والإصلاح وتهذيب الإنسانية وهديها فهو رسالة الأنبياء، ورسالة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والحفظة على تشريعهم، فإن كان الورع والزهد عبادة فالجهاد لإصلاح حالة المجتمع هو أسمى حالة التقوى، بل هو روح العبادة ونورها وعلامة اليقين والإجلال لها.
فارق الغزالي عزلته ليواجه الحياة برسالته، وهو يعلم أن دون تلك الرسالة أهوال وعقبات، ولكن الإيمان لا يروعه هول، ولا يفل من عزمه مشقة الطريق ووعورة المسالك.
نظر الغزالي إلى المجتمع في عصره فرآه ضعيف الإيمان قليل العمل للآخرة ، فراح يتقصى الأسباب حتى إذا أحاط بها حصرها في أربعة أمور رئيسية: (1)
الخوض في الفلسفة. (2)
الخوض في طريق التصوف. (3)
الانتساب إلى دعوى العلم. (4)
سوء أخلاق العلماء.
وقد أوضح الغزالي تلك الأمور بقوله:
أخذت أسأل المقصر: ما لك تقصر؟ إن كنت مؤمنا بالآخرة فلماذا لا تستعد لها؟ وإن كنت لا تؤمن بالآخرة وإنما لا تستطيع المجاهرة فأنت منافق ضائع الرأي! فكانت الأجوبة كما يأتي:
فمن قائل يقول: هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشاهير بين الفضلاء والعلماء لا يصلي، وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهود، وهؤلاء قد ضلوا بالقدوة السيئة.
وقائل ثان يدعي علم التصوف، ويزعم أنه قد بلغ مبلغا ترقى به عن الحاجة إلى العبادة.
وثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة، ويزعم أن مشايخه قد فعلوا وقد أفتوا، وهؤلاء ضلوا عن التصوف.
ورابع اشتغل بالعلوم والمذاهب، فيقول: الحق مشكل، والاختلاف فيه كثير، وليس بعض المذاهب أولى من بعض، وأدلة العقول متعارضة؛ فلا ثقة برأي أهل الرأي!
وخامس يقول: أنا أعظم من أن أقلد، فقد قرأت الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة، وقد بلغت مرتبة من الحكمة، والمقصود من العبادة ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات، فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل تحت نير التكليف، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة.
حتى إن بعضهم كان يشرب الخمر، ويقول: إنما نهي عن الخمر؛ لأنها تورث العداوة والبغضاء، وأنا بحكمتي متحرز عن ذلك، وإني أقصد بها شحذ خاطري. حتى إن ابن سينا كتب: «أنه عاهد الله أن لا يفعل كذا وكذا، ولا يشرب الخمر تلهيا، بل تداويا وتشافيا.»
فلما رأيت ذلك اعتزمت كشف أسرارهم، وتحطيم تلك الأصنام من العلماء والفلاسفة؛ لكثرة خوضي في علومهم وطرقهم، أعني الصوفية والفلاسفة ودعاة الفقه والعلم.
وإذن؛ ففساد القادة، وضلال الأتباع، والجهل بالشريعة؛ كانت دوافع الغزالي في تركه العزلة، وإعلانه الجهاد، وقيامه بالدعوة إلى تجديد الروح الإسلامي، والآداب الإسلامية والأخلاق النبوية.
وفي سبيل تطهير المجتمع الإسلامي رفع الغزالي لواء رسالته الأخلاقية، وهي من أجل جوانب رسالته العامة.
ولكي ندرك عظمة الغزالي في جهاده يجب أن نتصور فساد عصره وبلبلة الأفكار فيه، وفساد العلماء والفقهاء المتصدرين للقيادة والإرشاد، هؤلاء الفقهاء الذين يصفهم الغزالي فيقول:
ولو سئل فقيه عن معنى الإخلاص أو التوكل أو وجه الاحتراز من الرياء لتوقف فيه، ولو سألته عن اللعان والظهار لسرد عليك مجلدات من التفريقات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء فيها، وهو لا يزال يتعب ليلا ونهارا في حفظها ودرسها، ويغفل عن روح الإسلام ومعانيه.
وإذا روجع فيه قال: اشتغلت به؛ لأنه علم الدين وفرض كفاية، ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه.
ولو كان غرضه الحق في تعلم فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين، بل قدم عليه كثيرا من فروض الكفاية، فكم من بلد ليس فيه طبيب إلا من أهل الذمة، ثم لا ترى أحدا يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لا سيما الخلافيات والجدليات، والبلد مشحون من الفقهاء.
فليت شعري! كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة إهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب؟ إلا أن الطب ليس متيسرا به الوصول إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة أموال اليتامى، وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء.
تلك أخلاق العلماء والفقهاء في عصره، وهذا مبلغها من الفساد وفهم الشريعة والأخلاق، وإذا فسد العلماء والفقهاء فسدت الجماهير وفسدت الصورة النبيلة التي للدين.
وقد استطاع الغزالي أن يظفر بنصر كامل، بل استطاع أن يدفع قافلة الحياة في عصره إلى وجهة جديدة، وأن يحمل الناس على نهج جديد لا تزال آثاره تسود عصرنا وتهيمن على توجيهاته رغم القرون والأحقاب.
يقول العلامة ماكدولاند: «إن الغزالي عاد بالناس من الجري في أثر النظريات والجدل، والفقه والمنطق والعلوم الدينية، واختلاف المذاهب والطرق، إلى الحياة الحقيقة والاتصال الملابس للدين والسنة والكتاب، بل إلى روح الدين ذاته وجوهره ولبابه دون القشور والسطوح والمسائل النظرية الكثيرة العقد، وإن ما وقع في أوربا عند تحطيم نير الفلسفة المذهبية في القرون الوسطى، بل إن ما هو اليوم بالذات واقع بسبيل هذا، ونحوه قد وقع بالفعل في الإسلام لعهد إمامة الغزالي وزعامته الفكرية، وقيامه بدعوته وأداء رسالته.
وقد كان في وسعه أن يكون فقيها مع الفقهاء ومذهبيا مع المتبذهبين، ولكن طريقته في الحق وفضله ينحصران في توفره على إبراز الكتاب والسنة، وجعلهما أساسا علميا لا تحول عنه ولا تبديل له، وقد ظهر دائما أن الانطلاق من البحث النظري عن الحقائق والجدل فيها، والحوار المقيم عليها، إلى الأخذ بهذه الحقائق الأساسية في غير جدل عقيم، وبحث غير مجد؛ هو في الواقع الفرار من النزعة المذهبية، والتخلص من نيرها المستبد الأليم.
وقد حاول الإمام أبو الحسن الأشعري ذلك بالذات قبل الغزالي بمائتي سنة، كما حاوله ابن رشد كذلك بعد مائة سنة من رحيله، وكما فعل في عهدنا هذا «إسبرنجر» إذ أراد أن يدخل حياة جديدة على الإسلام في الهند فلم يوفق وعاد فاشلا، ونحسبه لم ينجح لأن المهمة كانت شاقة عصيبة عليه، أو لأنه لم يكن له من الإيمان والشخصية ما كان للغزالي من ذلك كله.»
ولا جدال في أن الغزالي - كما يقول ماكدولاند - قد انتصر بإيمانه وشخصيته، وما كان لرجل أن ينتصر في تلك المعركة إلا بإيمان لم يهن، بل يلهم وينتصر، وشخصية تحمل جيلها على الإجلال والإيمان.
دستور الغزالي الخلقي
الغزالي أكبر كاتب خلقي عرفه الفكر الإسلامي، بل لعله أكبر كتاب الأخلاق الدينية في العالم.
فقد جعل الأخلاق رسالته العليا، وربط الأخلاق بالدين رباطا لا انفصام له، بل جعل الأخلاق هي روح الدين، والغاية منه، وأضفى على العبادات أصولها وفروعها ألوانا خلقية تحببها إلى النفوس، وتعطرها في القلوب، وتملأ الحس خشوعا وإيمانا وجلالا.
فللصلاة آدابها التي هي الروح والهدف، وللصيام برنامجه الخلقي الذي لا يستقيم بدونه، وللنفس والقلب ولكل جارحة من الجوارح وخاطرة من الخواطر صفة خلقية، ودعوة إلى تطهير وتزكية، حتى همسات القلب ، وسوانح الفكر، يقيدها الغزالي وينظمها ويضع لها دستور الكمال.
وتساير أخلاقيات الغزالي الإنسان في مأكله ومشربه ومنامه وحله وترحاله، وتلازمه في تصرفاته مع الأصدقاء والأهل والزوج والولد والمجتمع والعالم.
فالأخلاق عند الغزالي شريعة شاملة للحياة بأسرها، شريعة لها مثلها العليا وأهدافها السامية المرتفعة إلى السماء، ثم هي أيضا تعيش معنا على الأرض متصلة اتصالا وثيقا بكل حركة من حركات الروح والقلب والعقل والبدن.
وقد عاب الماديون على الغزالي أن فلسفته الخلقية فلسفة سلبية لا تلائم الحياة العملية، ولا تصلح في معترك الحياة وزحام الوجود، ولا تعد صاحبها للكفاح والنضال والغلبة والسيادة.
عاب الماديون على الغزالي هذا، وكأنهم يريدون أن يسمعوا من الأخلاق رنين السيوف لا همسات السلام، وصيحات القتال لا نداء الرحمة والوئام.
عابوا على الغزالي فلسفته الأخلاقية؛ لأنها تريد أن تبتدع مجتمعا فاضلا معطرا بصفاء الروح وطهارة القلب والحس والجوارح، طهارة لا تعرف الغل والحسد، ولا تقر الغش والتزييف، ولا ترضى التواثب والتلاحم، وتنكر الصراع والنزال.
وعابوا على الغزالي فيما عابوا أنه مزج الدين بالأخلاق، والروحانيات بالفضائل، ولم يمزجها بعلم النفس، ولم يقم صروحها على نداءات الجنس، وضرورات الشهوة، ودوافع المجد والنصر في الروح البشرية.
عابوا على الغزالي وأسرفوا، ثم عابوا وأسرفوا، فأخطئوا وأسرفوا في الخطأ؛ لأن أخلاقيات الغزالي لا توزن بتلك الموازين الجامدة المتشائمة التي صور أصحابها الناس بألوان من الشهوات وألوان من الغايات وألوان من النزوات، لا يستقيم معها خلق ولا يسود فيها دين.
أما الميزان الصادق الذي يقام في ساحة العدالة الفكرية، عند دراسة تلك الأخلاق، فهو ميزان الآداب السماوية، وميزان المثالية الخلقية.
فالغزالي حينما وضع دستوره الأخلاقي كان يمسك بيمناه ميزان عدل وهدى، الأخلاق عنده هي كل ما يرفع النفس، ويسمو بالحياة إلى مناطق النور والصفاء، والرذائل لديه هي كل ما يفسد الجسم والنفس والعقل، ويبعد الروح عن مناطق النور والصفاء.
فإذا دعا الغزالي إلى عدم التكالب على الرزق، والتفاني في الحرص على متاع الحياة، وذهاب النفس حسرات على مباهجها، فذلك لأنه يحتقر المال والجاه والسيادة إذا كان في الفوز بها صفة من تلك الصفات التي تمس الخلق القويم.
وإذا نادى بكف النفس والعقل واليد عن مطامع الحياة، وكف النفس والعقل واليد عن المتاع الزائل والمجد الزائف والصراع الباطل، فليس لنا أن نقول للغزالي إن هذا الزهد في الحياة يقتل بواعث المجد في النفوس، ويخمد شعلة التوثب والفوز في القلوب.
فالغزالي لم يتخيل الدنيا ملحمة بين كباش تتناطح، وإنما تصورها حنانا ورحمة وطاعة وعبادة، فالمجد عنده مجد النفوس المطمئنة المتحابة، والنصر لديه هو الفوز على النزوات والشهوات والتطهر من الرذائل الهابطة إلى الظلمات.
نظر الغزالي إلى الحياة الدنيا باعتبارها وسيلة لا غاية، وعبادة لله لا للدرهم والدينار والتغالب والتفاخر والتنابذ بالألقاب.
كتب الغزالي أخلاقياته للمجتمع الإسلامي الفاضل الذي يؤمن به ويدعو إليه، ومن ثم ابتدع له أخلاقا كاملة على أسس دينية وطاعات روحية وقلبية.
فليس لنا أن نقول له إنك أهملت ما كشف العلم الحديث من علوم وفنون، فالعلم الحديث يقرر أن الجنس هو المحرك الأول للوجود والملون الأول للأخلاق والبواعث القلبية والنفسية، وأنت تقسو على الجنس وتغالي في قمعه وتهذيبه، وتغالي في عدم الاعتراف بسلطانه وجبروته.
وليس لنا أن نعترض عليه بأن الحياة هي القوة، والتوثب للمجد، والتطاول والتفاخر بالمال والجاه، وما إلى المال والجاه من متاع وسلطان.
وليس لنا أن نقلل من شأن أخلاقيات الغزالي؛ لأن روح الزهد والقناعة تترقرق واضحة بين أسطرها، وعطر المحبة والعبادة يتضوع من شمائلها وأعطافها.
الأخلاق عند الغزالي نشيد لم يترك وجهة من وجهات الحياة إلا ألقى عليها النور والرحمة والإيمان والسلام.
الأخلاق لديه صفات مثالية، أو إن شئت فهي محاولة صادقة لإنشاء إنسانية فاضلة وخلق مجتمع بشري سعيد.
أسلوبه وطريقته
يقول العلامة ماكدولاند: «إن الغزالي في وعظه وأخلاقياته وتعاليمه النفسية عاد فأدخل عنصر الخوف، فقد جعل في كتابه «المنقذ من الضلال» وغيره من الكتب يؤكد وجوب إلقاء الرعب والوجل في النفوس العامة، مناديا بأن الأمر لم يعد يستوجب الملاينة والمصانعة والرفق والتأميل والتفاؤل؛ بل لقد وجب أن تبين للناس حقيقة الجحيم وعذابها الأليم، فقد أحسها هو في نفسه وشعر بها في أعماقه، وقد رأيناه كيف تجرد من المتع، وأخضع النفس للزهد والنسك والحرمان، وجعل الخوف من النار الباعث الأكبر على هدايته واجتنابه الضلال والهوى».
كانت طريقة الغزالي التي ترمي إلى التهويل وإلقاء الرعب في القلوب ملائمة لعصره الذي لم يعد الأمر فيه - كما يقول ماكدولاند - يستوجب المصانعة والملاينة، ذلك العصر الذي أسرف على نفسه في الشكوك والأوهام، وأسرف على نفسه في الترف والملاذ، وأسرف على نفسه في التنابذ والخصام، فقاوم الغزالي تلك الروح المسرفة العابثة بأسلوب ملتهب حار يبرق فيه التهديد والوعيد، وتتمثل فيه أهوال العقاب والثواب.
وأسلوب الغزالي فوق عنفه وقسوته يخفق على القرطاس نابضا بالحياة، ويتسلل إلى القلوب مناجيا الضمائر والأحاسيس، حتى ليشعر قارئ الغزالي بروح يتكلم في أعماق، ويحس شخصية الغزالي تناجيه وتلازمه، وتسيطر على أفكاره واتجاهاته.
والغزالي كاتب مصور بارع الخيال، يمتلك في يسر وبساطة حاسة الخيال الفني؛ فهو فنان في أخيلته، فنان في تصويره، فنان في أمثلته وتشبيهاته.
انظر إليه كيف يشبه من يحسب أن المحسن أحسن باختياره، إنه يشبهه بالنملة ترى سواد الخط على بياض القرطاس يحصل من حركة القلم، فتضيف ذلك إلى القلم؛ إذ حدقتها الصغيرة الضعيفة لا تمتد إلى الإصبع، ومنها إلى اليد، ومنها إلى القدرة المحركة لليد، ومنها إلى الإرادة، ومنها إلى المعرفة، ومنها إلى صاحب القلم والقدرة والإرادة.
فأسلوب الغزالي في أخلاقياته يستمد قوة عرضه وقوة تأثيره من حاسة الخيال الفني، فإذا تكلم عن فضيلة من الفضائل عمد إلى ذكر ما ورد في حمدها من الآيات في اختيار بديع بارع، ثم يسرد ما جاء عنها من الأحاديث، ثم يعقب بالآثار، وينطلق بعد ذلك مؤيدا قوله بالقصص والأمثال التي تأسر قلب القارئ، وتصور في نفسه محبة تلك الفضيلة، وما لها من خطورة وجلال.
فإذا تكلم عن رذيلة، من الرذائل، طرق هذا النهج أيضا مضيفا إليه إلهاب الكرامة النفسية في القلب، وتنفير تلك الكرامة من أن تتدنس برذائل حيوانية حقيرة.
أما ميزة أخلاقيات الغزالي الكبرى فهي صلاحيتها الخالدة لكل جيل وعصر، وصلاحيتها الخالدة لكل قارئ على اختلاف الثقافات والبيئات أسلوبا ومعنى.
تربية الخلق أو العادة
وللعادات عند الغزالي تأثير كبير في تكوين الخلق، حتى إن الخلق بحكم العادة يصبح عبارة عن هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير حاجة إلى التفكير والروية؛ فالخلق عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة، ولهذا السبب نرى الغزالي يتشدد في الأمور الطفيفة المتعلقة بالأخلاق؛ لأنه يؤمن بأنها ستكون مقدمة لما هو أشنع، وبأنها ستصبح صورة لازمة.
وهو يقرر أن النفس إذا كانت تستلذ الباطل وتميل إليه بالعادة، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه والتزمت المواظبة عليه؟!
كما يقرر أن النفوس بفطرتها خيرة تميل إلى الخير، أما هذا الميل إلى الأمور الخسيسة فهو أمر خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى أكل الطين، وقد شاهد الغزالي قوما يستطيبونه بحكم تغلب العادة والاستمرار عليها.
إن النفوس خلقت بفطرتها تهوى الحكمة وحب الله ومعرفته وعبادته، وهو أمر أصيل لا دخيل؛ لأنه وحي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وميل غريزي كالميل إلى الطعام والكلام، وهو ضروري للقلب؛ لأنه أمر رباني.
أما الميل إلى مقتضيات الشهوة فغريب عن ذات الإنسان، وعارض على طبعه، وإنما أصبح مألوفا بالعادة السيئة، ولهذا أصبح الطفل أمانة في عنق ذويه؛ فليتقوا الله في أمانته وليحافظوا على تربيته، وليتجهوا به الوجهة الصالحة التي خلق لها، وليجنبوه مهاوي الضلال وفاسد العقائد والعادات.
ومسألة الفطرة البشرية، وهل الشر أصيل في النفوس أو دخيل عليها مسألة تطاحنت فيها العقول واختلفت، ولم نر فيصلا تطمئن إليه القلوب في هذا الاختلاف.
ولكن الغزالي يلبس تلك الفكرة ثوب الدين؛ فيرى أن الميل إلى الحكمة وحب الله وعبادته أمر رباني في القلوب أصيل لا دخيل، وإنما فاسد الأخلاق هو الذي يميل بالنفس إلى الهوى ومجانبة الحق وارتكاب الشر.
والغزالي بذلك يعلي من شأن الروح البشري، ويعلي من شأن الفطرة الأولى، ويعلي مكانة الإنسان عند ربه، حتى إنه يخلقه مهيأ للخير مجلوبا عليه،
فطرة الله التي فطر الناس عليها .
الخلق والتخلق
والغزالي يرى أن تربية الخلق الفاضل تكون بالتخلق؛ أي حمل النفس على الأعمال الصالحة الطيبة، ومن هنا نشأ اهتمام الغزالي بالرياضة الروحية وتقديره إياها وإيمانه بضرورتها، ويقرر أن كسب الخلق بسبب التخلق من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح، ويعلل ذلك بقوله: «كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح، حتى لا تتحرك إلا على وفقها، وكل فعل يجري على الجوارح يرتفع منها أثر إلى القلب، والدليل على ذلك أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة صفة نفسية له، فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق، ويواظب عليه مدة طويلة، يحاكي الخط الحسن، حتى يصير صفة لازمة له، بعد أن كان في الابتداء تكلفا.
وكذلك من أراد أن يكون حسن الخلق فعليه أن يحاكي ذوي الأخلاق الحسنة، حتى يصبح بالتكرار منهم.»
واجب المرشد الأخلاقي
الخلق السيئ عند الغزالي: هو مرض القلب، فإذا كان الجهل يعالج بالتعليم، ومرض البخل بالتسخي، فسوء الخلق يعالج بمجاهدة النفس.
وكما أنه لا بد من احتمال مرارة الدواء، ومشاق التعليم، فلا بد أيضا من احتمال مرارة المجاهدة، والصبر على احتمال المداومة على تلك المجاهدة.
والغزالي طبيب نفساني ماهر، فهو يرى أن الدواء إذا زاد قتل، وإن قل أخفق، وأن هذا الدواء قد ينفع لشخص ما ويضر غيره، وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك المرشد لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة والمجاهدة أهلكهم وأمات قلوبهم، بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وحاله وسنه ومزاجه وبيئته، ويبني على ذلك حكمه وعلى هذا الهدي يقرر نوع رياضته.
وتلك لفتة بارعة من الغزالي، فلكل نفس حالتها ومزاجها الخاص، فإذا لم يراع في تهذيبها ظروف البيئة والمزاج والاستعداد النفسي لم يصل المربي إلى غايته، ولم يحصل داعي الأخلاق على أمنيته.
الصفات التي يجب تهذيبها
الفضائل في مجموعها عند الغزالي تنحصر في معنيين؛ جودة الذهن والتميز، وحسن الخلق، فجودة الذهن ليميز طريق السعادة والشقاء، وليعتقد الحق في الأشياء ببراهين قاطعة مفيدة لليقين، لا عن تقليدات ضعيفة ولا عن تخيلات واهية، وأما حسن الخلق فإنه يزيل جميع العادات السيئة التي عرف الشرع تفاصيلها فيتجنبها، ويتعود العادات الحسنة ويشتاق إليها.
ثم ينتقل الغزالي من ذلك إلى تفصيل القوى النفسية التي يجب تهذيبها، فيحصرها في ثلاث قوى رئيسية.
قوة التفكير، وقوة الشهوة، وقوة الغضب.
فإذا هذبت قوة التفكير كما ينبغي حصل بها الحكمة التي أخبر الله عنها بقوله:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وثمرتها أن يتيسر له التفريق بين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الأفعال، ولا يلتبس عليه شيء من ذلك.
القوة الثانية: هي الشهوة، وبإصلاحها تحصل العفة؛ حتى تنزجر النفس عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتنقاد للمواساة والإيثار المحمود بقدر الطاقة.
والثالثة: الحمية الغضبية، وبقهرها وإصلاحها يحصل الحلم، وهو كظم الغيظ وكف النفس عن التشفي، وتحصل الشجاعة وهي كف النفس عن الخوف والحرص.
فإذا أصلحت القوى الثلاث وضبطت على الوجه الذي ينبغي، وإلى الحد الذي ينبغي، وجعلت القوتان منقادتين للثالثة التي هي الفكرية العقلية؛ فقد حصلت العدالة، وبمثل هذا العدل قامت السموات والأرض، وهي جماع مكارم الشريعة وطهارة النفس وحسن الخلق، كقوله
صلى الله عليه وسلم : «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا وألطفهم بأهله»، وقوله: «أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون.»
أمهات الفضائل النفسية
وانتقل الغزالي من تلك القوى الثلاث التي يجب تهذيبها إلى الفضائل النفسية، فقسمها إلى أربعة أصول رئيسية تشتمل شعبها وأنواعها على الفضائل عامة، وهي:
الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة.
فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة وكمالها الورع فضيلة القوة الشهوانية.
فالحكمة:
تنطوي تحتها العلوم اليقينية الصادقة التي لا تختلف باختلاف العصور والأمم، كالعلم بالله تعالى وصفاته وكتبه ورسله وأصناف خلقه في العالم، والعلوم التي تساس بها قوى النفس، وتساس بها الجماعات والأمم.
والشجاعة:
وكمالها المجاهدة والعدالة، ينطوي تحتها الكرم والنجدة وكبر النفس، والاحتمال والحلم والثبات والنبل والشهامة والوقار.
والعفة:
وينطوي تحتها الحياء والخجل، والمسامحة، والصبر، والسخاء، وحسن التقدير، والانبساط، والدماثة، والانتظام، وحسن الهيئة، والقناعة، والهدوء، والورع، والطلاقة، والظرف والمساعدة.
والعدالة:
وكمالها الإنصاف، الإنصاف العام؛ فلا تحب لأخيك إلا ما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكرهه لنفسك، وتعطي الحق كاملا.
فالعدالة جامعة لجميع الفضائل، والجور مقابل لها، وهو جامع لجميع الرذائل.
تلك هي جماع الفضائل النفسية عند الغزالي، وهو يشرح كل واحدة منها شرحا كاملا شاملا، مستمدا أدلته من الكتاب والسنة والكشف والأمثال.
ثم يعقبها بالفضائل البدنية، ويحصرها في أربعة أمور: الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر.
ولكل واحدة من تلك الفضائل عنده معان وصفات وأهداف وواجبات، تستغرق من بحوثه صفحات وصفحات.
ثم يتم هذه الفضائل بفضائل يسميها: «فضائل مطيفة بالإنسان»، وهي أربعة أمور أيضا: المال، والأهل، والعز، وكرم العشيرة.
ولا يتم الانتفاع بشيء من ذلك إلا بالنوع الخامس من الفضائل، وهي الفضائل التوفيقية، وهي أربعة: هداية الله، ورشده، وتسديده، وتأييده.
ذلك هو الدستور الخلقي للغزالي، وهو دستور تشتمل عليه طائفة كبيرة من كتبه، وينثره كالعطر بين أسطره وفصوله، في مختلف كتبه وفنونه.
وهو دستور وإن لم يخضع للقواعد النفسية والنظريات العلمية الحديثة - بل خضع خضوعا تاما للفكرة الدينية والآداب الإسلامية - فقد حقق كثيرا من أهدافه ومراميه، واستطاع أن يكون إماما مرشدا للملايين، أحقابا وقرونا.
هو دستور أوجد في الشرق مدرسة تأدبت بآدابه، وتتلمذت على فضائله، بل قد هيمن هذا الدستور على أهداف الوعظ الإسلامي هيمنة كاملة ملموسة الأثر إلى يومنا.
الغزالي وصلات الرجل بالمرأة
حديث الغزالي عن المرأة مطبوع دائما بطابع الخلق الكريم؛ فهو يقيم صلات الرجل بالمرأة على آداب عليا وتقاليد مهذبة، لا تجنح إلى الشدة ولا تدفع إلى الاستهتار.
فهو يقرر أن سيادة البيت للرجل، وبدون تلك السيادة لا تستقيم الحياة ولا توجد السعادة، فمن أطاع المرأة وملكها نفسه فقد عكس القضية؛ إذ حق الرجل أن يكون متبوعا لا تابعا، وقد سمى الله تعالى الرجال «قوامين على النساء»، وسمى الزوج «سيدا» فقال تعالى:
وألفيا سيدها لدى الباب
فإذا انقلب السيد مسخرا فقد بدل نعمة الله كفرا، ولكنه يفرض للمرأة حقوقا مقدسة، ويفرض على الرجل واجبات يؤديها للمرأة، ويلزم بها إلزاما هي كفاء سيادته.
ولعل المرأة لم تطمع يوما من الأيام، مهما نادت بالمساواة وتطرفت في تلك المساواة، في كلمة أروع من تلك الكلمة التي جعلها الغزالي محور صلات الرجل بالمرأة، وهي قوله: «ليس حسن الخلق مع المرأة كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها.»
ذلك دستور الغزالي الخلقي في صلات الرجل بالمرأة، فليس حسن الخلق كف أذى الرجل عن المرأة، بل احتمال الأذى منها عند غضبها وطيشها.
ويأمر الغزالي الرجل بأن يكون بشوشا مرحا مع زوجه، فيطيب قلبها بالمزاح والمداعبة، ولا يقتر في الإنفاق عليها، بل يجب عليه أن يتحفها دائما بالهدايا والحلوى، كما أن عليه أن ينظر في حاجة المرأة إلى حقوق البدن وندائه، وهو أساس التحصين والعفة.
والاعتدال في الغيرة هو قاعدة السعادة والهناء في الحياة الزوجية، فيقول الغزالي: يجب على الرجل أن لا يتغافل عن مبادئ الأمور التي تخشى غوائلها، ولا يبالغ في الظن والتعنت وتجسس البواطن.
ومبدأ الاعتدال في الغيرة من أسمى المبادئ، بل هو أصل من الأصول المؤدية إلى هناء العش الزوجي، وإطلاق النور والمحبة والصفاء في رحابه.
وينادي الغزالي بضرورة تعليم المرأة، ولكنه يقصر تعليمها على الأمور الدينية، ويلزم الرجل بتعليم زوجته الصلاة ومبادئ الدين، فإن قصر وجب على المرأة أن تخرج لتتعلم ولا جناح عليها في ذلك، وليس للرجل أن يمنعها؛ إذ العلم واجب ديني على الرجال والنساء، فإذا أتمت تعلم الفرائض وأصول الدين، فلا يحق لها أن تخرج للاستزادة من العلم إلا برضاء الزوج وموافقته.
ويلح الغزالي على الرجل إلحاحا كبيرا في وجوب الرفق بالمرأة، فيقول في كتابه «التبر المسبوك»: «إن من أحب أن يكون مشفقا على زوجته رحيما بها فليذكر أن المرأة لا تقدر أن تطلقه وهو قادر على طلاقها، وأنها ما دامت في عصمته لا تقدر على زوج سواه، وهو قادر على ذلك، وأنها تقنع منه بطلاقة وجهه وبالكلام اللين، وهو لا يرضى بجميع أفعالها، وأنها تفارق أمها وأباها وجميع أقاربها لأجله، وهو لا يفارق لأجلها أحدا.»
الغزالي والطلاق
الطلاق إحدى المسائل الرئيسية التي أسرف الناس فيها إسرافا لا يرضاه الشرع، ولا تقره نظم الحياة الاجتماعية.
فالطلاق دينا ليس هوى ومتاعا للنفوس، بل ضرورة وضرورة عظمى، في حالة شاذة لا سبيل إلى إصلاحها وعلاج شرورها إلا به، وهو أبغض الحلال إلى الله لما فيه من أذى.
والغزالي يقول: إن الطلاق إيذاء، ولا يباح للرجل إيذاء المرأة إلا بجناية من جانبها.
ولا بد عند الغزالي أن يسبق الطلاق مجالس للصلح والتوفيق كما أمر القرآن، فإذا وقع بين الزوجين خصام وشقاق فلا بد من حكمين؛ حكم من أهله وحكم من أهلها لينظرا بينهما ويصلحا أمرهما، ولا يجب الطلاق قبل ذلك، ولا ينبغي؛ لأنه إيذاء وضرر.
وما يراه الغزالي هنا هو خلاصة روح الإسلام وتشريعه، بل ما أحوج عصرنا اليوم إلى تدبره وتنفيذه، فلا يباح الطلاق إلا بجناية زوجية، ولا يباح الطلاق قبل التحكيم في النزاع والسعي في التفاهم والوفاق.
رسالة العلم وآداب المتعلمين
خطأ الجمهور والكتاب في فهم الغزالي
آراء الغزالي في العلم على لونين؛ لون صوفي ينادي بالعلم الأخروي والعزوف عن سواه، ولون آخر يقدس العلوم كافة ويدعو إليها ويأمر بها.
وقد التبس هذا الأمر على كل دارسي الغزالي والمتتبعين لآرائه، بل إن لسوء فهم آراء الغزالي في العلم أثرا بعيد المدى جدا في التفكير الإسلامي.
فالغزالي قد هيمن على عقول القرون التي تلته هيمنة كاملة، وقد فهم جمهرة أتباعه، ومن تثقف على آرائه أنه يخاصم العلم الدنيوي، بل لقد وقع في هذا الخطأ كثير من العلماء والسادة؛ فظنوا - وأكثر الظن إثم - أن الغزالي يحارب علوم العقل والتجربة، بل ويذمها ويحقرها، ولا يدعو إلا إلى علوم الآخرة.
وقد حسب كثير من الناس في قرون متتالية أنهم يتابعون الغزالي، وهو حجة الإسلام، إذا أعرضوا عن الدنيا إعراضا كاملا، نعيمها وطيباتها وعلومها أيضا.
وتسلسلت هذه الفكرة مع القرون، وتتابعت مع السنين، وجارى العلماء العامة في تفهم الغزالي، بل جارى العامة كثيرا من رجال الفكر والقلم؛ فظنوا بالغزالي ما ظنوا، ووقفوا من آرائه في العلم والتعليم موقفا مضحكا! حسبوا فيه أنهم يسخرون من الغزالي؛ لتعدد آرائه وسوء فهمه، وهم يسخرون من أنفسهم؛ لأنهم لم يتفهموا حقيقة آرائه.
وسر هذا الخطأ في الفهم أن الغزالي كان يكتب في أواخر حياته كتبه للصوفية وعلى طريقتهم، وما كتب للصوفية لا يصلح إلا لهم ولا يباح للناس جميعا، وليس هو الحق وحده، والغزالي يقول: «إن هذا الطريق ليس للناس جميعا، ولو تبعه الناس وعملوا به لخرب العالم وبطلت الحكمة منه.»
فالغزالي حينما عرف العلم «بأنه العلم الأخروي»، وحينما دعا إلى الاشتغال بالعلم الحقيقي كالعلم بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، وإهمال علوم العقل والتجربة؛ إنما كان يخاطب الصوفية وحدهم، ويقرر مذهبهم القائم على الفناء في الله والإعراض عن الدنيا بالكلية؛ كان يصف صورة مثالية لقوم مثاليين في عبادتهم.
وهو إذ يعرف علم الفقه بأنه من علوم الدنيا، ويقول: «إن الفقيه هو العابد المرشد لا المجادل العالم بأصول الفقه وتخريجات أحكامه.» إنما قصد بهذا التعريف وجهة النظر الصوفية، وقد نبه الغزالي على ذلك في مواقف مختلفة من كتبه، فهو يقول بعد أن أشاد بعلوم الآخرة وحث عليها، وأمر بترك ما سواها من علوم الدنيا:
ولا ينبغي أن يفتر رأيك في طلب العلوم الدنيوية بما حكيناه عن طريق الصوفية؛ فإنهم لا يعتقدون حقارة العلوم؛ بل يعتقد كل مسلم حرمتها وعظمتها، وما ذكروه إنما أوردوه بالإضافة إلى مرتبة الأنبياء والأولياء.
ثم يقول:
ومن قصد التقرب إلى الله بالعلوم نفعه الله ورفعه لا محالة.
ذلك هو قول الغزالي في وضوح وصراحة، وكأنما أحس بما سيحدث من سوء فهم لآرائه؛ فنادى بعدم فتور الرأي في طلب العلوم العقلية بما يحكى عن الصوفيين؛ لأن ذلك لهم خاصة، وهم لا يحتقرون العلوم؛ بل يجلونها ويعتقدون عظمتها وحرمتها وقداستها، بل يقرر الغزالي أن من قصد التقرب إلى الله بالعلوم على اختلاف أنواعها نفعه الله ورفعه.
بل هو يقرر في يقين أن الله سبحانه حبب العلوم إلى الناس لصلاح العالم؛ فيقول في كتابه ميزان العمل: «فلولا أن الله حبب علم الفقه والنحو والطب والرياضة ... إلى آخر العلوم، في قلوب طوائف من الناس، لبقيت هذه العلوم معطلة، ولتشوش النظام الكلي.»
الغزالي عالم رحب الآفاق، تشهد بذلك كتبه وآثاره، عالم بالعلوم وفنونها على اختلاف ألوانها وغاياتها، تشهد بذلك أيضا كتبه وآثاره؛ فهو عالم يدعو إلى رسالة العلم كاملة في يقين وإيمان؛ لأنه يؤمن بأن نظام العالم ونظام القوة والسيادة في الدنيا إنما يبنى على العلوم والمعارف الكونية والعقلية، فمن الخطأ في حق العلم، ومن الخطأ في حق العقل أن يقول قائل: إن الغزالي يحارب علوم العقل والكون والتجربة. وهو إمام من أئمتها.
ولكنه حين يتحدث في أساليب الصوفية ومبادئ الصوفية يعلي شأن العلوم الأخروية؛ لأنها روح العبادة واليقين، ويجري المقارنات بينها وبين علوم الدنيا، فيذمها بالقياس إليها وتمجيدا لها، والصوفية فئة من الناس ارتضوا لأنفسهم وضعا معينا، وحياة معينة، ومسلكا في الوجود فريدا كالرهبان مثلا، فما يصلح لهم لا يصلح لغيرهم، وهم لم يقولوا للناس هلم إلينا، ولم يقولوا لهم تكلفوا ما نتكلف، واتبعوا ما نتبع، وتحملوا ما نتحمل.
ولغة الغزالي الصوفية شديدة الخطوة في تفهم آرائه، بعيدة الأثر في تشويه تلك الآراء، وتشويه آثارها في النفوس والعقول، وقد فتن كثير من الناس وضلوا بسبب خطئهم في فهم الصوفية وأغراضها ولغة مباحثها وعلومها.
وهو يعرض صورة الصوفية في براعة وتشويق شأن أساليبه، والقلوب تسارع إلى التمسك بتلك الصور المعطرة بذكر الله والجنة، فتنسى في تلك الوثبة الروحية في ختام البحث مثلا أن الغزالي قد بدأه بقوله:
من لم تكن بصيرة عقله نافذة فلا تعلق به من الدين إلا قشوره، بل خيالاته وأمثلته دون لبابه وحقيقته، فلا تدرك العلوم الشرعية إلا بالعلوم العقلية؛ فإن العقلية كالأدوية للصحة، والشرعية كالغذاء، والنفس المريضة المحرومة من الدواء تتضرر بالأغذية ولا تنتفع بها.
وذلك اعتراف صريح من الغزالي بأن العلوم الشرعية والأخروية لا تدرك إلا بعد التمكن من العلوم العقلية؛ لأنها الميزان والدواء، بل هو يربط معرفة الله بمعرفة علوم الكواكب والآثار العلوية، ومعرفة أقسام الموجودات وآيات الآفاق في كثير من بحوثه، فيكف يتهم الغزالي بعد ذلك بأنه من خصوم العلوم والفنون؟!
العلم أصيل في النفوس
يرى الغزالي أن النفس الإنسانية معدن للعلم والحكمة ومنبع لها، فالمعارف أصيلة فيها لا دخيلة عليها.
مثلها في ذلك كالنار في الحجر، والماء في الأرض، والنخل في النواة، ولذلك وجب السعي للتعلم؛ لتعود النفس إلى فطرتها، ولا بد من الصبر والتجمل في الصبر لإدراك تلك الغاية العليا.
والغزالي هنا متأثر بالصوفية؛ فالمتصوفة يقولون: إن العلوم كافة موجودة في القلب، وإنما أسدلت على القلوب أحجبة من الظلمة طمست تلك الأنوار، فلو رفعت الحجب بالرياضة والمجاهدة لامتلأت القلوب حكمة وعلما.
الغاية من العلم
يضفي الغزالي على الغاية من العلم ثوبا خلقيا؛ لأنه ينظر إلى الدنيا دائما نظرة مثالية، فالغاية من العلم عنده هي بلوغ النفس كمالها؛ لتسعد بكمالها مبتهجة بما لها من البهاء والجمال أبد الدهر.
وهذا التعريف يشتمل على أدق ما قيل في الغاية من العلم، والهدف الذي ينشده الإنسان من ورائه.
بلوغ النفس كمالها، تلك غاية العلم، وغاية هذا الكمال سعادة النفس بما لها من البهاء والجمال؛ بهاء العلم وجمال المعرفة.
واجبات المتعلم
ثم يضع الغزالي دستورا شاملا للآداب والأخلاق والمبادئ الواجبة على المتعلم والمعلم وطرق التعليم ووسائله، فيرى أن على المتعلم واجبات، أهمها: ألا يبدأ دراسته في علم ما بتعلم الاختلاف الواقع بين أصحاب هذا العلم؛ لأن ذلك يفتر عزمه، ويضعف إيمانه فيما يتعلم.
وألا يدع فنا من فنون العلم ونوعا من أنواعه إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على غايته ومقصده وطريقه، ثم يتخصص بعد ذلك؛ لأن العلوم جميعها متعاونة، يفيد بعضها بعضا، وحتى لا يكون معاديا لعلم ما بسبب جهله له؛ فإن الناس أعداء ما جهلوا، قال تعالى:
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم .
ثم من واجباته أيضا ألا يخوض في فنون العلوم دفعة واحدة، بل يراعي الترتيب؛ فيبدأ بالأهم فالأهم، ولا يخوض في فن من الفنون حتى يستوفي الفن الذي قبله، وألا يبتر العلم، بل يتمه؛ لأن العلم يجب أن يكون تاما وإلا كان مضرا. نعوذ بالله من نصف متكلم ونصف طبيب؛ فذلك يفسد الدين، وهذا يفسد الحياة الدنيا.
تلك آراء الغزالي في واجبات طالب العلم وأساليب التعليم، وهي تطابق أرقى البرامج العلمية الحديثة، وتتمشى جنبا إلى جنب مع المناهج المستحدثة في الكليات والجامعات، من حيث التخصص بعد الإلمام العام.
ومن أروع لفتات الغزالي البارعة أنه يجب الاطلاع على كل علم حتى لا يعادى بسبب الجهل به؛ لأن الناس أعداء لما جهلوا.
ثم يجعل الغزالي رسالة العلم مستمرة، فيقرر أن المتعلم إذا بلغ الغاية من العلوم أصبح من الواجبات المقدسة عليه أن يعلم غيره؛ حتى تتم حلقة العلم فتشمل الإنسانية كافة.
واجبات المعلم
وعلى المعلم آداب وواجبات أهمها:
أن يجعل تلاميذه عنده كبنيه تماما حبا ورعاية وإخلاصا في تثقيفهم وتعليمهم، وتزويدهم بالمثل العليا التي تفيدهم وتفيد الإنسانية على أيديهم.
وعليه أن يعمل بما علم قبل أن يدعو الناس إلى علمه، فمعلم الشرع لا يكذب حاله مقاله، وإلا نفر الناس من آدابه وشرعه.
والطبيب إذا تناول ما زجر الناس عنه حملهم على الهزء به وتناول ما نهاهم عنه، ولو كان من السموم، فيضل ويضل، وينقلب النهي إغراء وتحريضا.
والعلم والعمل صفتان متلازمتان عند الغزالي، فلا قوام لإحداهما بدون الأخرى، فإذا ترك المعلم ما يهديه إليه علمه ويأمره به فقد ضل وأضل، وفقد ثقة الناس، بل يجب الإعراض عنه وإخراجه من حظيرة العلم.
القدرية والتوكل
فكرة القضاء والقدر إحدى مشاكل الشرق الكبرى، وقد خدع كثير من عوام المسلمين بها، كما نسبها إلى الإسلام ظلما كثير من الأوربيين.
والغزالي في نظر الجماهير الإسلامية في عصرنا وفي العصور السابقة إمام من أئمة المنادين بالتوكل والقدرية؛ لأنه إمام من أئمة التصوف والصوفية.
والغزالي بريء من هذا براءة الإسلام منه، وإنما نشأت تلك العقيدة من تطرف بعض الصوفية، ومن سبحات أقلامهم بكلمات تبرق فتخدع من لا يعرف حقيقة الإسلام، وحقيقة دعوته إلى العمل والحياة والقوة والكفاح.
يقول الغزالي:
من الخطأ أن يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم؛ فهذا ظن الجهال.
لأنك إن انتظرت أن يخلق الله فيك شبعا دون الخبز، أو يخلق في الخبز حركة إليك، أو يسخر ملكا ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك؛ فقد جهلت سنة الله، وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله نباتا بغير بذر، أو تلد زوجتك بغير وقاع، فلا يجوز لك ترك الأسباب، كما يجب أن تعلم أن مسبب الأسباب هو الله تعالى.
تلك هي الكلمة القوية التي نفى بها الغزالي تهمة التوكل عن مبادئه، وبالتالي عن مبادئ الإسلام.
ومن عجب أن الأمثال أصبحت تضرب بالغزالي إذا ذكرت مذاهب القدرية، ومذاهب المتوكلين الخاملين المتهالكين على الكسل والراحة باسم الدين والقدوة الصالحة.
بل أعجب من هذا أن أقلام الكتاب الذين كتبوا عن الغزالي قد جارت العوام والجمهرة من الناس، فنسبوا إلى الغزالي ما يبرأ منه وما يبرأ منه الإسلام.
ووجه الشبه عند هؤلاء وهؤلاء: هو ما تزخر به كتب الغزالي من ذكر الصوفية وأخبارهم، وما في قصصهم من توكل مطلق.
وقد أوضحنا أن الغزالي يكتب هذا القصص للصوفية فقط، وأنه يقرر أن الصوفية مذهب خاص لا عام، وأن فكرتهم لو سادت لفسد العالم وبطلت الحكمة منه.
الغزالي وتفسير القرآن
كتاب «جواهر القرآن» للغزالي يدل دلالة واضحة على إيمان الغزالي العميق بأن القرآن مصدر كامل لعلوم الروح والبدن والطبيعيات والفلكيات والنباتات، بل وعلوم الآلات بسائر فروعها.
ولهذا فإنه يجب على مفسر القرآن أن يكون محيطا بكل هذه العلوم حتى يؤدي أمانة التفسير كاملة.
فإذا قال القرآن مثلا:
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك ، فلا يفسر هذه الآية التفسير الكامل المراد منها إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها ... إلخ.
وإذا تعرض لقوله تعالى:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ، فكيف يفسر تلك الآية من يجهل التسوية والنفخ والروح وأسرارها؟!
وإذا قال القرآن:
الشمس والقمر بحسبان ، وقال:
وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، وقال:
وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر ، وقال:
والشمس تجري لمستقر لها ، فلا يعرف حقيقة الشمس وسيرها وأبراجها ومنازلها، والقمر ودوراته، وخسوفهما، وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر؛ إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض، وهو علم تتفرع منه علوم.
أما آية:
وإذا مرضت فهو يشفين ، فهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله وأحاط بدقائقه وأسراره.
وتلك دعوة صريحة من الغزالي إلى الإحاطة التامة بالعلوم كافة، وهي تنفي تهمة إهمال العلوم العقلية التي نسبت إليه؛ فهو يقرر أن مفسر القرآن لا بد وأن تتوفر فيه القدرة الكاملة على تفهم العلوم العقلية قبل الشرعية، حتى يستطيع أن يتفهم أغراض القرآن، ويستطيع أن يبرز للعالم ما فيه من عظمة وجلال وعلوم ومعارف.
ويقول الغزالي بعد أمثلة كثيرة شاملة: «ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن الكريم من تفاصيل وعلوم لطال الأمر وتشعب، فتفكر في القرآن والتمس غرائبه؛ لتصادف فيه مجامع علوم الأولين والآخرين.»
الغزالي وصفات التشبيه والتجسد
يقول الغزالي: إن الإنسان لا يحتمل الحقائق الروحية إلا مصبوبة في قالب الأمثال الخيالية، ومن هنا نفهم ما ورد في القرآن من آيات الصفات والتجسد.
فهي آيات للتقريب والفهم، لا للدلالة على صور وصفات، وبذلك ينفي الغزالي صفات التشبيه، ويقرر أن إدراك ذلك إنما يكون بإدراك المناسبة بين عالمنا وعالم الروح، فالمثال الجسماني مندرج تحت المعنى الروحاني.
ويضرب لذلك مثلا بالمنامات، وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وكيف تكشف حقيقتها بأمثلة خيالية.
فقد روى بعضهم أنه شاهد في منامه أن في يده خاتما يختم به فروج النساء وأفواه الرجال، فقال له ابن سيرين: «أنت رجل تؤذن في رمضان قبل الصبح.» فقال: نعم. يقول الغزالي: «فانظر ختم الأفواه والفروج بالخاتم مشاركا للأذان قبل الصبح في روح الخاتم، وهو المنع، وإن كان مخالفا لصورته، وقس على ذلك ما ورد في القرآن والأحاديث والأمثال، فإنها تشتمل على كثير من هذا الجنس.» كقول الرسول - صلوات الله عليه وسلامه: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن.» فإن روح الإصبع القدرة على سرعة التقليب، فإن قلب المؤمن بين الغواية والهداية، والله تعالى يقلب قلوب العباد كما يقلب الإنسان الأشياء بإصبعين، وكذلك سائر الأحاديث والآيات الموهمة للتشبيه والاستواء.
فمن عرف معنى الإصبع عرف بعد ذلك معنى القلم في قوله تعالى:
علم بالقلم ، ومعنى اليد في قوله تعالى:
يد الله فوق أيديهم .
الغزالي والاكتشافات العلمية
وللغزالي رأي عجيب مبتكر في علوم مقبلة وعلوم مندرسة، فهو يقول:
ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافا من العلوم العجيبة لم تخرج بعد من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود واندرست الآن، فلن يوجد في هذه العصور على وجه الأرض من يعرفها، وعلوم أخرى ليس في قوة البشر أصلا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين.
والغزالي بهذا قد تنبأ بالمعارف الإنسانية التي نشاهدها في عصرنا ولم يشاهدها هو في عصره، والتي ستشاهدها العصور القادمة ولم نشاهدها نحن.
ونظريته في العلوم المندرسة يشهد بصحتها العلم الحديث والاكتشافات التاريخية، فقد وجد لدى قدماء المصريين في مقابرهم من أسرار الكيمياء وتحنيط الأجساد والحبوب، وأسرار البناء والفلك، ما لم تهتد إليه المعارف الحاضرة.
رموز القرآن
وللغزالي كتاب سماه رموز القرآن، ولكنه لسوء الحظ لم يطبع، وأما نسخته الخطية فقد نقلها المستشرقون إلى برلين، وبذلك فقدنا الدليل الذي كنا نستطيع به أن نعرف هل استطاع الغزالي أن يفسر القرآن بالشروط التي اشترطها، أم عجز عن الوفاء بما اشترط، وقد أشار غير واحد من المؤرخين إلى أن الغزالي قد أشار في كتابه هذا إلى الكهرباء والديناميت والهواء الخفيف، ولكن ليس في استطاعتنا أن نؤكد صحة هذه الأشياء، فدليلها مفقود، وآيتها في بطون صفحات لا تزال محجوبة عن الشمس.
الغزالي بين أنصاره وخصومه
أروع الناس وأتقاهم وأعلمهم من لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل بعضهم بعين الرضا وبعضهم بعين السخط.
الغزالي
الغزالي أحد مشاكل الفكر في التاريخ الإسلامي، فقد عشقه أقوام حتى رفعوه مكانا عليا، لا ترقى إليه الشبهات ولا تناله النقدات، فنادوا به قطب العلوم الأكبر وحبر الأمة الأعظم، بل سموا به سموا كادوا يصلون به إلى العصمة، وأسدلوا عليه ستارا من الرهبة، وأطلقوا عليه شعاعا من النور الإلهي، حتى إنهم ليقرءون كتابه «إحياء العلوم» فيجعلونه أورادا للتبرك بعد القرآن والسنة.
وقالوا فيما قالوا: إن الصالحين منهم شاهدوا الرسول - صلوات الله عليه - في المنام يبارك الغزالي، ويعاقب خصومه، ويفاخر به أنبياء بني إسرائيل، وإن موسى - عليه السلام - قال له: إنك تقول إن علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما دليلك؟ قال: علي بروح الغزالي. فلما حضر قال له موسى: ما اسمك؟ قال: محمد بن محمد بن محمد الغزالي، قال: سألتك عن اسمك فلم ذكرت لي اسم أبيك وجدك؟
قال الغزالي: وأنت سألك ربك عما بيمينك فقلت: هذه عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى، وقد سألك عما بيمينك فقط. قالوا: فحاجه الغزالي.
ولا ريب في أن أنصاره أسرفوا وغالوا في الإسراف، كما أن خصومه قد أسرفوا وغالوا في الإسراف.
كان الغزالي يخطئ ويصيب، والشخصية الإنسانية الكاملة هي التي تخطئ وتصيب.
فلا يليق بالمغالين أن يغضبوا إذ قيل: إن الغزالي استقام تفكيره هنا ولم يستقم هناك؛ لأنهم يقدسونه ويجلونه عن الخطأ، وليس هكذا الإنسان.
والغزالي بعد، لسان من ألسنة الدين القوية، وحجة من حججه الباهرة، ومجاهد من أكبر مجاهديه، وقائد من أعظم الهداة في القافلة، ومفكر من أئمة رجال الفكر في تاريخ الفكر.
فلن نرضى من خصومه أن يسلبوه العلم أو الإيمان، ولن نرضى من خصومه أن يجردوه من المنطق والصواب، ولن نرضى من خصومه أن يهبطوا به إلى مناطق العامية والركاكة.
كان الرسول - صلوات الله عليه - يقول لعلي كرم الله وجهه: «هلك فيك رجلان؛ رجل غالى في محبتك، ورجل غالى في عداوتك.»
وما أصدق تلك الكلمة على الغزالي، فقد غالى قوم في محبته حتى جحدوا المنطق فأقاموا الهوى علما ومحجة، وغالى قوم في عداوته حتى فقدوا قداسة الإنصاف، فأضاعوا الحقيقة التاريخية، وشوهوا حقائق العلم والهدى.
الغزالي أحدث دويا علميا في جيله، وأحدث دويا علميا في الأجيال المتعاقبة، وتلك سمة الخلود، وطابع العبقرية.
والمشكلة الحقيقية ليس محورها الغزالي فحسب، بل محورها ومحركها الصراع بين مدرستين والتباغض بين فكرتين، اختلفتا في المزاج والتأويل، كما اختلفتا في التعليم والتفكير.
فالغزالي بعد أن برع وتفوق في مختلف العلوم والفنون أعرض عنها ولجأ إلى شعاع من الكشف الروحي جعله محور العبادة والهداية، ومن ثم أضفى على الفقه وسائر العلوم الإسلامية ثوبا صوفيا شمل أصولها وفروعها، واستطاع الغزالي أن يوقظ الشعور، ويلهب حرارة الروح والإيمان في الجماهير، كما استطاع أن يتزعم رجال المذاهب الصوفية، وهم قوة لها أثرها ونفوذها الضخم الساحر في التفكير الإسلامي.
وخاصم الغزالي شتيت من المفكرين، على اختلاف ألوانهم ونحلهم؛ من الفلاسفة إلى علماء الكلام، خصومة أساسها إسراف الغزالي في التمسك بالمظاهر الروحية، وإسراف هؤلاء في التمسك بالمظاهر العقلية.
وانضم إلى هؤلاء الخصوم بعض رجال الفقه؛ لأن الغزالي هاجمهم هجوما عنيفا، وزلزل مكانتهم في قلوب الجماهير زلزالا كبيرا إذ نادى بصوته القوي، بأن الفقيه هو العابد العامل بعلمه، لا العالم البارع في المجادلات والتخريجات.
وما أصدق ابن السبكي: «إن الطرق إلى المعرفة شتى مختلفة، وقلما رأيت سالكا لطريق من الطرق إلا واستقبح الطريق التي لم يسلكها، ولم يفتح عليه من قبل فيها، فيضع عند ذلك من أهلها.»
وقد تعددت الكتب والآراء التي صدرت في نقد الغزالي، ولكن أشد خصومه التاريخيين: ابن رشد من الفلاسفة، وابن القيم من المجددين الإسلاميين.
أما ابن رشد: فقد هاجمه دفاعا عن الفلسفة وانتصارا للفلاسفة، وهو هجوم لم يثبت على التاريخ؛ لأن الغزالي كان فيه نصيرا للروح الإسلامي، وكان ابن رشد فيه صدى لأفكار غيره من فلاسفة الإغريق وسواهم من المتأخرين.
وأما ابن القيم ومن ذهب مذهبه وجرى في عنان الخصومة جريه، فقد حصروا نقدهم للغزالي في عشرين مسألة تدور بأسرها على محور واحد، وهو إسراف الصوفية في الابتعاد عن المظاهر الإسلامية، وأهم تلك المسائل: (1)
قول الغزالي: «ليس في الإمكان أبدع مما كان»؛ فقد اعتبروا أن في تلك الكلمة ما يوهم العجز في قدرة الله تعالى. (2)
وصفه الرياضة الروحية بأنها تفريغ القلب بالخلوة، والجلوس في مكان مظلم، فإنه في مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق تعالى ويشاهد جلال الربوبية؛ فيقول له ابن القيم: «وما أدراك أن ما يسمعه حينئذ هو هذيان روحه ووسوسة شيطانه؟! فإن الامتناع عن الأكل والاختلاء في الظلام يبعث الوساوس والجنون.» (3)
تأييده لقول الجنيد: إذا كان الأولاد عقوبة شهوة الحلال، فما ظنك بعقوبة شهوة الحرام؟ (4)
تقريره أن بعضهم بات عند السباع في البرية ليتحقق من صحة توكله على الله! (5)
قوله: إن بعض الشيوخ كان يكسل في بدايته عن قيام الليل، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل؛ لتصير نفسه بحيث تجيبه إلى قيام الليل اختيارا! (6)
قوله في الإحياء: إذا طلب الرجل علم الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج؛ فقد ركن إلى الدنيا. (7)
قوله نقلا عن أبي حمزة البغدادي: «إني لأستحي من الله أن أدخل البادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل، لئلا يكون شبعي زادا تزودت به.» (8)
تقريره ما حكاه عن أبي حسن الدينوري أنه حج اثنتي عشر حجة وهو حاف مكشوف الرأس.
قال ابن القيم:
هذا من أعظم الجهل لما في ذلك من الأذى للرأس والرجلين، ولا تسلم الأرض من الشوك والوعر، وكأن هؤلاء الصوفية ابتكروا من عند أنفسهم شريعة سموها بالتصوف وتركوا شريعة محمد
صلى الله عليه وسلم
بجانب، فنعوذ بالله من تلبيس إبليس، فإن مثل هذه الحكايات تفسد عقائد العوام، فيظنون أن فعله من الصواب.
ويقول ابن القيم أيضا:
وإني لأتعجب من أبي حامد هذا كيف يأمر بهذه الأمور التي تخالف الشريعة! وكيف يحل لأحد أن يقوم على رأسه طوال الليل؟! وكيف يحل رمي المال في البحر فيما رواه عن الشبلي من أنه كان يرمي ما معه من الدنانير في الماء ويقول: ما أعزك عبد إلا أذله الله.
ثم يعقب ابن القيم بقوله:
كانت الزنادقة في العصر الأول يكتمون حالهم، ولم يتجاسروا على إظهار ما عندهم حتى جاءت الصوفية، فرفضوا الشريعة جهرا وتستروا بمسمى الحقيقة، وصاروا يقولون: هذا شريعة وهذا حقيقة، وهذا من أقبح الأمور؛ لأن الشريعة قد وضعها الله تعالى لصالح العباد في الدارين، فما الحقيقة بعد ذلك إلا إلقاء الشيطان في النفس، وقد تمادى هؤلاء الجهلة في غيهم حتى صار أحدهم يقول: حدثني قلبي عن ربي، وذلك تصريح بالاستغناء عن بعثة الرسل وهو كفر، وهي حكمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة، ولكن قد صار الخروج عن الشريعة كثيرا بالسكوت على هؤلاء الجهال الذي سموا أنفسهم بالصوفية.
تلك هي خلاصة التهم التي وجهت إلى الغزالي، وتلك هي خلاصة الأقوال العنيفة التي وجهها إليه خصومه.
وهذا التراث الضخم الذي تركه الغزالي، وهذه الخصومة العنيفة التي أثارها ما كان ينبغي لها أن تمر دون أن يجد خصومه في آثاره ما يمسكونه به، وما يأخذونه عليه.
ولا جدال في أن الغزالي قد أسرف على نفسه، وأسرف على قرائه بتلك السبحات الصوفية التي تدل ظواهرها على ما يخالف ظواهر الشريعة الإسلامية.
ولا جدال أيضا في أن الغزالي كان يعلم حقيقة الشرع أكثر مما يعلم خصومه، وأنه كتب ما كتبه لفئة معينة من رجال التصوف ألزموا أنفسهم بألوان من العبادات والطاعات معينة، وحالات الإلزام الشخصية الاختيارية لا اعتراض عليها ما لم تؤد إلى الضرر العام.
ولكن قراء الغزالي وخاصة الجماهير لا تستطيع أن تميز بين ما أراده الغزالي للصوفية وبين ما يكتبه للناس جميعا.
وقد دافع عن الغزالي فريق من أنصاره وأتباعه دفاعا قويا، فوضع السيد مرتضى كتابه «إتحاف السادة» فند فيه جميع تلك التهم تفنيدا لا يخلو من إسراف في الدفاع عن الغزالي، وتبرئته من كل خطأ.
ولا يسعنا إلا أن نكرر أن الغزالي كان يخطئ ويصيب، والشخصية الإنسانية الكاملة هي التي تخطئ وتصيب، وتلك الهنات لا تعد شيئا بجوار ما أسدى الغزالي إلى العالم الإسلامي، وإلى الفكر الإسلامي، من تراث انتفعت به الأجيال والقرون انتفاعا هداها إلى خير ورشاد وعبادة وإيمان أكثر مما هداها خصومه وحساده، بل أكثر مما هداها أي قلم آخر من الأقلام التي شرعت للهدى والإيمان.
خصومه المعاصرين
ذلك لون من ألوان خصومة القدامى للغزالي، وقد امتدت تلك الخصومة على التاريخ، ولبست ألوانا مختلفة، حتى أسلمتها الأحقاب إلى عصرنا.
فرأينا خصوما جددا فيهم عنف ولدد، أخذوا يحاكمون الغزالي إلى مبادئ العصر الحاضر ونظمه ومعارفه، وشرعوا يحكمون على روحانيته بماديتهم، فما أنصفوا أنفسهم وما أنصفوا الغزالي معهم!
قالوا عنه: إنه رجل يحمل أكفانه على عاتقه، ولا ينفك لسانه عن الدمدمة بالعقاب والحساب، والجنة والنار، والعبادة والفناء، وليس هذا من مذاهب الحياة المثلى، ولا من طرائق المجد للإنسانية التي تبغي قوة وبأسا.
وقالوا: إن الغزالي مزج الدين بالآخرة، فحشد في كلماته أنفاس الجحيم؛ ليسوق الناس بالرعب والخوف، وجمع في قلمه هبات الجنة ليدفع بالبشرية إلى الطاعة بالرغبة والتشويق، وليس في هذا فوز كبير للأخلاق، ولا فوز كبير للدين؛ لأنه مسلك بعيد كل البعد عن الإقناع العلمي والبرهان المنطقي.
وقالوا فيما قالوا أيضا: إن الغزالي أجهل الناس بقواعد العلم وفلسفة الحكماء؛ لأن العلم عنده طاعة وعبادة، فمن خشي الله فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل، وبهذا أخرج الغزالي من صفوف العلماء والحكماء أئمة الفكر والابتكار والاختراع.
وليس في هذا ما يضير الغزالي أو يمس مكانته، فقد قرأ هؤلاء النقاد كتب الغزالي كما تقرأ الكتب الحديثة، فنقدوها كما تنقد المؤلفات العصرية، ووزنوها بموازين المكتشفات العلمية الجديدة دون أن يلتفتوا إلى القرون التي تفصل بيننا وبين الغزالي، ودون أن يقارنوا بين روح عصره وطابع عصرنا، بل لعل الخطأ الأكبر أنهم نقدوه بروح العلم المادي، وهو يحمل بيمناه قلم الدين الروحي.
وما أصدق قول الغزالي في الدلالة على هذا المعنى: «مهما سمعت أمرا غريبا من أمور الدين جحده أهل الكياسة في سائر العلوم، فلا ينفرك جحودهم عن قبوله؛ إذ محال أن يظفر سالك طريق الشرق بما في الغرب.»
أجل لقد سلك الغزالي طريقا، وسلك نقاده طريقا آخر، فلم يلتقيا ولم يأتلفا ولم يتفاهما؛ لأنه محال أن يظفر سالك طريق الشرق بما في الغرب.
الغزالي رجل دين، وفيلسوف من فلاسفة الروح والقلب، فلا توزن معارفه إلا بموازين الدين، ولا يقاس تراثه إلا بالأقيسة الروحية القلبية.
ومن أراد أن يفهم الغزالي فلا بد أولا أن يتذوق سعادة الطاعة والعبادة، وسعادة الإيمان اليقيني وسعادة السلام الروحي، ولا بد أن يؤمن بأن خالق الأكوان يراقب خلجات نفسه، وخلجات قلبه ووجهات أعماله، وأنه إذا لم يكن يرى الله فإن الله يراه.
من أراد أن يتذوق الغزالي فليؤمن إيمان الغزالي، أو فليحترم تلك المثل العليا التي فني فيها الغزالي، ورصد قلبه وقلمه لها، وبدون هذا الإيمان، وبدون هذا الاحترام لن يفهم أرباب الأقلام سحر الغزالي، وعبقريته وتراثه.
مجدد القرن الخامس
عن أبي هريرة: أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.
وقد اتفق علماء التاريخ على أن مجدد المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، والمائة الثانية الإمام الشافعي، والثالثة الإمام الأشعري، والرابعة الباقلاني، والخامسة حجة الإسلام الغزالي.
والإسلام شريعة أحكمت وفصلت آياتها وبينت للناس، فالمجدد الإسلامي والمصلح الإسلامي إذن ليست رسالته أن يبتدع جديدا، أو يبتكر تكملة، أو يأتي بوحي من عنده.
وإنما تجديد الدين يراد به: تجديد النفوس الإسلامية، وتبديد الترهات والجهالات التي تكون قد تراكمت في القلوب والعقول.
والله سبحانه الذي تعهد الخلق بالرسالات هدى ونورا، كلما ضللتهم قوى الشر، وعبثت بهم أهواء النفوس، هو الذي يمن على عباده بهؤلاء الملهمين المجددين الذين يسيرون على أضواء النبوات وأشعة الرسالات.
وقد كان عصر الغزالي من العصور التي تهيأت لعبقري وثاب من عباقرة الروح والإيمان؛ ليكافح تلك المادية الدنيوية الطاغية، وتلك المذاهب الفكرية التي تسبح في ضباب من الظنون والتخمينات، تدفع إلى الفروض والإباحية كما تدفع إلى الضلال والجحيم.
وجاء الغزالي فكأن الإسلام يستقبل به عصرا جديدا، واستمعت النفوس إلى ألحانه فكأنها تستمع إلى ألحان جديدة تهبط من هدي جديد.
جدد الغزالي للناس إيمان القلوب، ذلك الإيمان الصافي المتجه إلى إله يدركه العلماء والحكماء والعامة.
وبعث الغزالي في النفوس عقائد التوحيد الخالصة معطرة بعطر كأنها هبات الجنة ونفحات النعيم، وأضفى على التفكير الإسلامي نورا من المحبة والصفاء والاطمئنان، والتوجه إلى الله توجها كاملا لا تشوبه رذيلة من رذائل الفكر، ولا نقيصة من نقائص القلب، ولا جريمة من جرائم البدن، ولا سيئة من سيئات الأذى للناس.
كان تفكيره يلتمس هديه أبدا من السماء، وكانت أعماله مطبوعة أبدا بطابع الإيمان، وكانت دعوته صريحة واضحة لا جدل فيها ولا رياء، ولا تعقيد ولا التواء، وإنما إيمان بخالق واحد ما من نجوى بين المرء وقلبه إلى وهو شاهد عليها، ولا من همسة بين صديقين إلا وهو عليم بها، وما من جارحة من جوارح البدن تعمل عملا في ضحوة النهار أم في ستار من الليل إلا وهو شاهدها ومحاسب عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وهذا الميزان الدقيق لأمور الحياة هو دستور الغزالي، وهو عماد دعوته إلى الخير والهدى والسلام.
وتراث الغزالي ليس نزوة من نزوات النفس، ولا خاطرة من خواطر العقل، فيذهب بذهاب جيل ويفنى بمرور عصر من العصور، بل هو خلاصة جهاد القلب والعقل، ووحي الروح والإلهام، وفيض ونور من النبع الخفي، نبع العباقرة الأفذاذ.
يقول الدكتور زويمر: «كل باحث في تاريخ الإسلام يلتقي بأربعة من أولئك الفطاحل العظام وهم: محمد النبي، والبخاري، والأشعري، والغزالي.»
وتلك كلمة حق، فالغزالي بلا ريب أحد الذين شيدوا هيكل الفكر الإسلامي، وأقاموا دعائمه وأسسه على الهدى ودين الحق.
ولعل الغزالي أكبر أصحاب المذاهب الفكرية وأبعدهم أثرا في التوجيهات الإسلامية، ومرجع هذا تلك القوة الخفية الكامنة في شخصيته المهمة، والتي استحوذ بها على أذهان الجماهير في عصره والقرون المتتابعة.
فالأشعري مثلا استطاع أن يبتدع مذهب الأشعرية فأحدث بتعاليمه وثبة فكرية، ولكنها وثبة بين طائفة معينة من رجال الفكر وعشاق علم الكلام، ولكن أثره لم يتعد تلك الدائرة الخاصة، ولم يتسلسل في ضمير التاريخ نورا وخلودا.
أما الغزالي فكان أشبه بزعماء الجماهير وقادة الشعوب، كان تأثيره السحري عاما شاملا مستحوذا على عقول الطبقات كافة، بل لعل تأثيره على الطبقات الوسطى وما دونها أشد أثرا وأبعد مدى.
ومن أسرار تلك الهيمنة أن سلطان الغزالي مبعثه القلب والعاطفة، والمبادئ إذا مزجت بالقلوب والعواطف ثبتت وخلدت على الحوادث والعصور، فقد مزج الغزالي العقائد بالعبادات، ومزج أصول الشريعة بالتصوف، وأطلق في الناس بخورا مخدرا ساحرا، يدعو إلى إيمان بسيط سليم خال من التعقيد، مجرد من التخمينات والافتراضات، إيمان استسلام وعبادة وفناء في الله ومحبة.
يقول العلامة ماكدولاند: «إن الغزالي لم يكن كشافا، ولا أول من ركب الطريق واهتدى إلى النجد، ولكنه كان رجلا كبير الشخصية شديد التأثير النفسي، نهج سبيلا مطروقة فجعلها مشرعا عاما ومحجة واضحة، وهذا من فضل شخصيته وقوة خليقته.»
ونستطيع أن نضيف إلى قوة التأثير النفسي وقوة الشخصية القوة العلمية العظمى التي تفوق بها الغزالي، تلك القوة التي جعلته نسيج وحده بين عباقرة الفكر في عصره.
أو كما يقول الأستاذ الأكبر المراغي في الدلالة على تعدد جوانب العظمة في تلك العبقرية:
إذا ذكر ابن سينا أو الفارابي خطر بالبال فيلسوفان عظيمان، وإذا ذكر ابن العربي خطر بالبال رجل صوفي له في التصوف آراء لها خطورتها، وإذا ذكر البخاري ومسلم وأحمد خطر بالبال رجال لهم أقدارهم في الحفظ والصدق والأمانة والدقة ومعرفة الرجال، أما إذا ذكر الغزالي فقد تشعبت النواحي، ولم يخطر بالبال رجل واحد، بل خطر بالبال رجال متعددون، لكل واحد قدرته وقيمته.
يخطر بالبال الغزالي الأصولي الماهر، والغزالي الفقيه الحر، والغزالي المتكلم إمام أهل السنة وحامي حماها، والغزالي الاجتماعي الخبير بأحوال العالم وخفيات الضمائر ومكنونات القلوب ، والغزالي الفيلسوف أو الذي ناهض الفلسفة، وكشف عما فيها من زخرف وزيف، والغزالي المربي، والغزالي الصوفي الزاهد، وإن شئت فقل: إنه يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عصره.
تلك هي شخصية الغزالي، شخصية كاملة القوى العلمية على تشعبها وتعددها، كاملة الحرارة الروحية والإيمان القلبي، وبفضل تلك الشخصية أضفى عليه العالم الإسلامي لقبه الخالد: حجة الإسلام.
حجة الإسلام
جاء الغزالي والفلسفة تناهض الدين وتواثبه، والمذاهب العقلية تتصارع وتبرع في الجدل والاستخراج، وتبتعد عن الروح والقلب، وجمهرة المسلمين في حيرة، ورجل الشارع متعب القلب، متعب الروح، لا يعرف كيف يهتدي، ولا يعرف كيف يطمئن بين تلك التيارات.
فحطم الغزالي الفلسفة، وصرع المذاهب، ثم أتى إلى الجمهرة الإسلامية فخاطب منها القلب والروح، وأدخل السلام والهدوء إلى القلوب والأرواح.
وأعاد للإسلام شبابه في القلوب، وحجته في العقول، ومكانته في الأرواح والعبادات.
هدم الغزالي الفلسفة القديمة ليقيم الدين ويعلي بنيانه، ثم عاد بالناس من الجري وراء النظريات والجدليات واختلاف المذاهب إلى روح الإسلام وجوهره الصافي، ومثله العليا الداعية إلى الإيمان والسلام.
علم الناس أن الحياة محبة؛ محبة لله في جلاله، ومحبة للأنبياء جميعهم، ومحبة للبشرية كافة، ومحبة للخير على تعدد ألوانه، ومساعدة عليه بالنفس والمال، ودفع للأذى عن كل روح أيا كان لونها أو دينها.
نامعلوم صفحہ