الحلم
ولما غمرتني لجج الرقاد؛ وجدت ذاتي أتخطر في برية واسعة، وكان يظهر لي عن بعد غابة عظيمة ذات أشجار ضخمة عالية، بأغصان متكاثفة الأوراق ملتفة بعضها على بعض، بنوع أنه لا يمكن لأشعة الشمس أن تخترق قبابها الشاهقة إلى كبد السماء لكثرة تلبدها الشديد، وهي تفرش على الأرض بساطا ثخينا من ذلك الظل الذي لا يتقلص.
وبعد أن أجهدت المسير إلى أن تبطنت هذه الغابة، رأيت نفسي من ثم محاطا بسكوت عميق يتخلله من فترة إلى أخرى هدير مبهم يشبه دوي غدير متدفق ممزوج ببعض زمرات من وحوش الغاب، أو تغريدات من طائر السماء؛ فأخذت أتتبع هذا الصوت الذي يظهر كأنه ينعي ألم الوحدة أو يبث شكوى الفراق، ولم أزل مهتديا به إلى أصله وأنا أركض تارة وأتوقف أخرى إلى أن انتهى بي الجد إلى فسحة فسيحة واقعة في جوف تلك الغابة، ومحاطة بسياج من أعظم الأشجار، وهناك رفعت نظري فرأيت السماء حينئذ واقعة على تلك الفسحة المحاطة بذلك الشجر الهائل وقوع قبة من زجاج على عمد وقناطر من زبرجد، وإذ أطلقت نظري قليلا وجدت صخرة منفردة القيام مائلة على ناحية يتدفق من أسفلها غدير عظيم تدفقا يسابق الطير سرعة، وهو يتشعب إلى جوار تذهب متشتتة في أقطار ذلك الحرش تاركة عند انفصالها صياحا وأنينا موجعين.
وبينما كنت شاخصا في هذا المشهد البهيج، ومتأملا بما تصنعه الطبيعة من الفلتات الغريبة؛ وإذا بعاصف من الريح قد نهض من سكناته، وهب هبوبا كاد أن يقتلع جميع الغابة ويطير بها إلى أعالي الجبال الشامخة.
نفضت نواظري إذ ذاك لدى تلك الزوبعة الطائرة خوفا من لذع غبارها الثائر، ولما فتحت أجفاني رأيت عرشين منتصبين أمامي على الفور كأنهما مصاغان من الذهب الإبريز، وهما مرصعان بأفخر الأحجار الكريمة، ووضعهما كان قريبا من تلك الصخرة وذلك الغدير، وفي كل منهما لمحت شخصا جالسا وعليه من اللياقة والكمال ما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر.
أما الشخص الأول: فكان رجلا مكتسيا حلة أرجوانية تتلامع كأنوار الضحى، وفي يده اليمنى صولجان طويل، وقابض باليسرى على رقعة مطوية بغير نظام وهو معتقل سيفا ذا شفرتين، وعلى رأسه تاج مكتوب على إكليله: «يعيش ملك الحرية.» وكانت عيناه تتناثر شررا وهو عاقد الحاجبين مقطب الوجه؛ بحيث يتضح للناظر كونه منفعلا بنوبة عظيمة من الغضب لأمور تدخل في سياسته، وكان شاخصا في نقطة من الأفق يتصاعد منها دخان وقتام.
وأما الشخص الثاني: فكان امرأة، وعلى ما بان لي أنها زوجة الأول، وهذه المرأة قد كانت ذات وجه بيضي الشكل، يلوح عليه حسن بلغ أعلى درجة من سلم الجمال، بأعين تتلامع بأنوار الحور على سواد الكحل، وأجفن كأنها سكرى بخمرة الفتور ومأخوذة بسحر الغزل، وحواجب كأنها صورت بقلم رافائيل أو نقشت بإزميل ميخائيل قد جمعت بين الاقتران والزجج، جمع جبينها بين السعة والبلج، ورأسها متوج بشعر مسترسل يترامى على أقدامها كطالب شفاعة بهيئة تكل عن إحاطة تشخيصها الصناعة، وسواد يتموج بسنا الصقال اللامع كالليل الذي يخامره ضياء الفجر الساطع وهو مزنر بإكليل من الذهب والغار علامة للظفر والانتصار، وكأن وجنتيها صفحتا لجين قد اندفع إليهما نور الشفق، وكأن جيدها ومباسمها كشقيق أخذ ينفتح إذا ما الصبح انفلق، وكأن جيدها صيغ من بلور لطيف يعلو على صدر يحمل كرتي مرمر نظيف. أما معاصمها فقد كانت لدوائر الأساور مراكز ترسل أقطارا متساوية الاتصال، وكذلك أرساغ أقدامها كانت تملأ الخلخال. أما لباسها فقد كان جامعا لكل الاحتشام؛ بحيث لم يكن سوى جلباب عريض حريري النسج يحيط بجميع قوامها من العنق إلى الأقدام، مزرورا على صدرها، ومستدقا عند معاطفها المحاطة به كنطاق، ومن هناك يأخذ بالاتساع إلى أسفل بدون أن يبدي مشهد قبة عظيمة.
وبينما كنت أنظر إليها نظر المندهش الحيران؛ مأخوذا بخمرة ذلك الجمال البديع، مضطربا بوقوع تأثيراته على قلبي الذي كنت أضغطه بيدي خوفا لئلا يطير شعاعا ؛ إذ لاح لي سطر من أحرف نارية على إكليلها الذهبي يعلن: «هكذا تحيا ملكة الحكمة.»
وإذ شرعت أتأمل بعد تلاوة تلك الأحرف في أبهة هذه الملكة المتواضعة رأيت جبينها زاهرا بأنوار النباهة والذكاء، وأعينها متقدة بأشعة التعقل والفطنة، وأصداغها منتفخة بالحزم والرشد وهي تبتسم بالبشاشة والوقار، ملتفتة إلى ذلك الملك الغضبان التفاتا يرسم شكل القمر في الليلة الإحدى عشر، ومنحنية أمامه بأيد منبسطة تستميل خاطره وتستعطف قلبه بكلام يقع في السمع وقوع الدر في الصدف، فسمعتها تقول له هكذا: نعم يجب التغاضي عن هذا الملك الظالم الذي لا يبرح مجتهدا في زرع زوان الخشونة والتوحش في حقل مملكتنا ذات التمدن والتهذيب، ولا ينبغي الإضراب عن استئصال كل أعوانه وأنصاره الذين يلبسون جلود الحملان، وينشرون ما بين خراف رعايانا كلما غفلت عنهم أعين التيقظ والانتباه، واضعين على وجوههم براقع المكر والخديعة حتى إذا ما تمكنوا من استعطافهم بقوة الاحتيال يأخذون حينئذ بإفساد ضمائرهم السليمة، مظهرين لهم شرف التعبد لملكهم وما به من الفوائد والمنافع إلى أن يطرحوهم أخيرا بأيدي ذئاب عبوديته، ولكن مع ذلك لا ينبغي معاملة ذلك الملك العنيد وأولئك الأعوان المردة إلا بما يقتضيه قانون شريعتنا العادلة؛ أي بالأناءة والحلم والتدقيق حذرا لئلا تحسب من الأجانب ظلاما أو حمقى. - كيف يمكنني أن أعامل هؤلاء القوم بما تقتضيه نواميسنا حسبما تشورين، مع أنني قد أفرغت جهدا طويلا وتكلفت تعبا ليس بيسير حتى أوقعتهم أخيرا في قبضتي؟ أفما يخشى من هربهم بواسطة الحيل والخدع إلى حيث لا نعود نظفر بهم ثانية؟ فها أنا قد اعتمدت على شنق هذا الملك الخبيث وسجن جميع حفدته وعبيده مؤبدا، تدير مملكة العبودية بكل سرعة، ولم يعد لي حاجة لما كانت تدفعه هذه الدولة من الخراج؛ لأن جميعه آت من مال الظلم. - إياك تصنع هكذا يا أيها الملك العظيم لئلا نفتح سبيل التمرد والعصيان إلى شعوب مملكتنا، وتعود الثورات الأهلية قائمة؛ لأنه معلوم لديك كم وكم من الناس يميلون طبعا إلى تلك الدولة ما عدا الذين قد مالوا إليها بقوة الفساد والغش؟ فإذا - لا سمح الله - أخذت الحروب الأهلية بالانتشاب نعدم راحتنا ونقع في وجل عظيم، فتصير المصيبة الأخيرة شرا من الأولى؛ إذ نكون كالطبيب الذي يسرع إلى سفك الدم حالا في الحميات الخبيثة بدون ملاحظة المزاج والبنية؛ فيهلك المريض بشدة انحطاط القوى الحيوية.
فأشور عليك إذن يا أيها الملك المهاب، وأرجو أن تتنازل إلى قبول مشورتي بأن تستحضر لديك ذلك الملك العنيد مع أهم أعوانه، وتضع عليهم شرائع وقوانين جديدة يسلكون بموجبها، وتشدد ذلك الوضع بالصرامة اللازمة بعد توبيخهم وتبكيتهم، ثم تجعل لكل منهم مناظرا من طرفك، وكذلك يجب أن تكون أكثر عساكرهم من جنس عساكرنا؛ كي لا يعود لهم مقدرة على مخالفة الناموس أو العصيان والتمرد، ولكي يعلموا أنك أنت هو الملك الأكبر مقدارا والأشد عزيمة والأوسع مملكة وأجنادا، وأنه بأي وقت تشاء يمكنك شن الغارة عليهم وأسرهم حسبما فعلت الآن. - قد ظهر لي الآن من كلامك يا أيتها الملكة السعيدة أنه يجب إرجاع هؤلاء الظلمة إلى مملكتهم بعد تلك الحروب التي أثرناها عليهم، وكل ذلك التعب؛ فأنا أتعجب منك! كيف مع كونك بهذا المقدار حكيمة تشيرين علي بهكذا مشورة ولا تشورين باستئصالهم عن آخرهم لكي نأمن غوائلهم ومكايدهم؟!
نامعلوم صفحہ