كما أن نظام هذه الكرة الأرضية لا يمكن قيامه بمجرد حركتها اليومية على نفسها فقط، بل يحتاج إلى الحركة الشمسية حول فلكها أيضا، هكذا الإنسان بما أنه محمول على ظهر تلك الكرة وآخذ جميع مواده ومقوماته منها، فهو تابع بجميع أطواره لأحوالها. فلا يمكنه القيام بمجرد اقتصاره على ذاته فقط؛ وذلك لعدم مقدرته على حفظ نظام حياته الشخصية، بل يحتاج إلى الدوران حول مركز المجموع الإنساني، وكما أن القوة الجاذبة التي تتبادلها جميع الأجرام السماوية لا تسمح بوقوع خلل في نظام الفلك العام، هكذا يحتاج ذلك المجموع الإنساني إلى قوة تحفظه من الوقوع في الخلل والتبديد. وإذا أخذنا نفتش على قوة مثل هذه، فلا نراها سوى في السياسة والشريعة، على أنه بذلك يوجد الإنسان محافظا على التئام شمل جمعيته.
أما ينبوع ظهور السياسة والسيادة والشرائع، فهو جار من تغلب الناس بعضهم على بعض منذ القديم، وهو الأمر الذي أنتج التملك والمملكات على وجه الأرض؛ فلا سبيل لمن يرغب الاطلاع على حقائق الحوادث البشرية وطرائق حدوثها إلا في إطلاق طيور التبصرات الدقيقة لتحوم باسطة أجنحة البحث والاستقصاء على شواجن التاريخ العام، حيثما يشتبك شجر المواقع في منحدرات الأجيال الغابرة وتهوي غدران الوقائع من شواهق القدمية العالية.
فلا ريب أنه إذا تطلبنا معرفة أصل انتماء وانقياد العالم البشري بعضه إلى بعض، وكيفية انتشار السيادة والشريعة فيه، إنما يدعونا الأمر إلى التوغل في أودية التواريخ الفسيحة. وهناك تبرز لدينا عروسة غابة الحقائق من خباء الأزمنة السالفة مقدمة لنا بين أناملها زهرة المراد، فنعلم حينئذ أن الإنسان لم يسد في أول أمره إلا على عيلته ومتعلقاتها فقط، ثم آلت به حركات الظروف إلى أن يسود ويسطو على قبيلة، ثم أفضت به تلك السيادة والسطوة إلى التسلط على شعوب مختلفة وقبائل متنوعة حيثما نودي به: يعيش الملك.
فهات بنا لنهبط بأقدام الاستقراء في أعماق القدمية الغامضة حيثما قد ابتدأت تلك الحركات وأخذت بالصعود إلى قمة التمام الأقصى، حتى إذا ما بلغنا سدرة التتبع مخترقين فلوات الأدهار المتراكمة نجد أنفسنا منتصبين على عرفات البداية؛ إذ نشاهد الإنسان القديم يهرع إلينا شاهرا حسام السيادة هكذا. إنه لما كان النوع البشري تائها في البراري وثقوب الأرض لا يجد له مقرا في بطون الأودية التي كانت تهدده بانقضاض قمم الجبال الشامخة عليه، ولا راحة في فسحات القفر الذي كان يقذفه بثوران العواصف القاصفة، ويلذعه بلهبات الهجير المستعر بين أثافي الجنادل والآكام. ولا مفر من زوابع الجو التي كانت ترشقه بمعجزاتها؛ إذ ترسل بروقها لدى أعينه فتخطفها دهشة، وتطلق صواعقها في آذانه فيرتعد جزعا، وتسكب أنواءها على هامته فيخر ساجدا لديها طالبا رحمة كأنه يطلبها من إله يستحق العبادة، كانت الأرض وقتئذ غير محروثة ولا مزروعة وعديمة كل فلاحة، ومع ذلك فقد كانت تزهو ببساطها السندسي الذي بسطته عليها يد الطبيعة تحت مضارب السحاب منسوجا من كل شجر عظيم ونبات وسيم.
فبينما كان أحد أفراد هذا النوع العظيم مضطجعا على كثيب مرتفع في فلاة قفرة الأديم تحت سماء وضيئة الأثير رائقة النسيم، محفوفا بنسائه وبنيه؛ وإذا بنسمة هبت عليه عند انتصاب عمود الصباح، منطوية على نفحات زهور متنوعة الأطياب، وحاملة صرخات المواشي التي كانت تسبح رب الفلق، فأرشدت لحظاته الزائغة إلى أفق شاسع يترعرع بجلباب خضل الاخضرار، ويترقرق تحت مساحب ذيول الغمام ومساقط أنداء الفجر.
فعندما بدا لديه ذلك المشهد الناضر وثب على قدميه في الحال، وصاح بلفيف عيلته المقرون وهو باسط يد الإيماء قائلا: أما تنظرون ذلك الأفق البعيد الذي يتبين لنا من خلال البزوغ كيف هو بهج المنظر وحسن المظهر؟! قوموا بنا لنذهب إليه ونتجسسه عله يكون صالحا لإقامتنا؛ فنتخلص من هذه الأرض الممحلة وتعب تلك الحياة التائهة، ونتمتع برغيد العيش. فما أتم كلامه إلا ورأى أقدام جميع تبعته تهرول أمامه إلى المحل الموما إليه.
ولم يزل هذا المهاجر يطوي أديم الثرى حاديا رحل رفاقه، آخذا هدير الحيوانات دليلا إلى حيث المناخ، حتى انتهى به المسير أخيرا إلى بقعة رحبة الأرجاء؛ فوقف للحين واستوقف وأطلق نظرات التأمل ليرى جليا ما كان يلحظه عن بعد خفيا، وإذا هو منتصب في غوط قد كسته العناية بوشاح الجمال العجيب، وكللته الطبيعة وأنوار الفصل الرطيب؛ فهناك كانت الشمس تسبل أشعة ضحاها على طلعة ذلك الروض الأزهر فيزدهي بألوان أجنحة الطاووس. هناك كانت الأنداء تتراقص على ثغور الزهر الأنور فتمثل تراقص الحبب في أفواه الكئوس. هناك كان الجو الصافي يتعطر بأنفاس السحر فتهب نسماته ناشرة على الدنيا أطياب البشرى. هناك كانت عرائس الربيع ينثرن من رءوسهن لآلئ النور على حدائق الرياض، ويرسلن نظراتهن الصاحية إلى آفاق الأرجاء الغراء، هناك كانت رءوس أشجار الخمائل تحرق بنيران أنوار المشرق، وأقدامها الثابتة تغرق في مسيل الماء المتدفق، وقدود أغصانها تترنح تحت عقود الزهور لدى خطرات الرياح، وصفحات أوراقها تتلامع بطفحات النور تلامع الأسنة والصفاح. هناك كانت الأطيار تصدح باختلاف الألحان، هناك كانت المواشي تسرح متنوعة الأبدان.
فلما شاهد هذا الإنسان سمو تلك البقعة الزاهرة، وكيف أن الطبيعة قد توجتها بكل أكاليل الجمال، وسكبت عليها مياه البهجة والازدهار، والتفت إلى جمهور ذريته وقال: هو ذا مدبر العالم ومديره قد أرشدنا إلى مقر الراحة في مكان خضرة حيث لا بكا ولا تنهد؛ فهلموا لنمكث ها هنا تحت هذه الأفياء الممتدة بين الزهور والينابيع، ونستريح مما قاسيناه من النصب والوصب في تلك البرية الجدباء. فأحنى كل منهم رأسه امتثالا وساروا جميعا تحت إيعاز إشارته إلى حيث المحط. فكان حلولهم تحت ظلال دوحة لا تلتفحها لفحة الرمضاء، ولا تخترقها أشعة البيضاء.
ولما استروح الكل ريح الارتياح، وطفحت على شفاههم تبسمات الأفراح، جعلوا يتبادلون أحاديث البارحة، ويتذكرون كل غادية ورائحة. أما ربهم فقد كان شاخصا في الأفق حيثما كانت تتراقص بنات الصباح ذوات الأكاليل الذهبية أمام ملكة الشرق الراكبة على عجلة نارية، ومندهشا بما كانت الأنوار ترسمه على وجه الطبيعة ذات الحلل السندسية، وكأن لسان حاله يقول:
هو ذا الصباح بدا وبالأنوار
نامعلوم صفحہ