واضطررت إلى أن تركت سكنى داري، وارتكبت والأمر لله تعالى فراق سكني وجاري، وسكنت في ظل جناح باز الله الأشيب، عليه ما يبهر العقول من النور الشعشعاني الذي يحجب ولا يحجب قدس الله تعالى سره، وأعلى في حظائر القدس ذكره، حتى إذا كان رمضان سنة الخمسين، وهي مبدأ انحلال ما عقده القضاء علي من البين المبين، أمرني النقيب إذ ذاك بالوعظ في الحضرة الغوثية، فأجبته مكرهًا لاشتغال ذهني بأمور فاتفق أن ساق حسن القضاء، لاستماع وعظي الوزير الخطير) علي رضا (فسمعه فصلًا فصلًا، وفهم أسراره بلًا بلًا، فدهش واستغرب، وعجب غاية العجب وقال في مدحي ما قال، مما يضيق عن التلفظ به فم المقال، ثم أمر بأن أذهب إليه في العيد، والنقيب السابق ملقى السمع وهو شهيد، فضاق لذلك فسيح صدره، وندم على ما مر من أمره، فلما جاءه العيد، ذهب إلى سرايه فعايدته، وشاهدت من الإكرام ما لم أكن شاهدته، وأعاد ما كان من الوظائف علي، وكان أخذها مني، ورغبها عني، فكنت أشكل برؤيته العين، وأذهب غليه في الأسبوع مرة أو مرتين، وفي عيد الأضحى نصبني خطيب الأعظمية، وشغف بي، من بين صحبي، فجعلت أذهب مع الأعيان، كل جمعة للديوان، فأكون في الأغلب المخاطب له وحدي كأن لم يكن في الديوان غيري أفندي، وفي كل ليلة أجتمع معه، وأكاد أحيي ف مسامرته ليلي أجمعه، وفي هاتيك الأثناء شرحت البرهان في إطاعة الله ظل الله تعالى السلطان، فقدمته إليه، وعرضته عليه، لؤلؤه بوقف مرجان، وبجلب رتبة تدريس الأستانة من حضرة السامعين ثم نصبني مفتي الحنفية، وكان قد وعدني بذلك يوم سمع وعظي في الحضرة الغوثية) نعم (سعى غاية السعي في إنجاز ذلك الوعد، وأصر على عدم تأخيره من يوم إلى غد، ذو الهمة التي لا تجارى، والغيرة العمرية التي لا تبارى، من جرى وادي فضله فطم على القرى، حضرة مولاي) عبد الباقي أفندي العمري (، وكان لي سلمه الله تعالى في كل أموري مساعدًا، ومتى عطلت يدي عن مصالحي كان لي يدًا وساعدًا، أدام الله تعالى حياته على رغم كل مبغض، ولم يزل ذلك الوزير يعلي لي الشأن، حتى قلدني من أيادي السلطان بنيشان، ولم يسبق ذلك لأحد من علماء البلد وذلك بعد أن وردت عدة أسئلة علمية من إيران، فأحجم عن جوابها قبلي فضلاء الزمان، وكل ذلك مفصل في ترجمتي حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين محمود) حتى (إذا أراد الله تعالى فيه إظهار سابق علمه، وأوصله بلطفه الجزيل إلى آخر أيام حكمه، وجهت إيالة مدينة السلام) إلى محمد نجيب باشا (وإلى دمشق الشام، وأمر هو بالتوجه بدله إلى دمشق، فلم يسعه إلا الامتثال وإن شق، فلما جاء النجيب جعل حاله يتلون معي تلون الحرباء، فطورًا وصال وطورًا والعياذ بالله تعالى جفاء وأنا في كلتا الحالتين أطوع له من ظله، وأسرع في امتثال أمره من خاصة أهله، وكم صمم على عزلي وما عزل، حيث دفع بصدره عدم انتهاء الأجل، فقد قدر جل شأنه وعلا، لكل شيء حتى المناصب أجلا، فلما انتهى ما قدره، وقضى به في الأزل وقرره، أطاع اللاحي فعزلني عن منصبي، ففرحت بذلك كأنه غاية مطلبي، حيث كنت مشغولًا بإتمام تفسيري روح المعاني، وكان الاشتغال بالإفتاء قاضيًا بتضييق زماني) نعم (رفع عني وقف مرجان، فأسبل علي بذلك سجف الأحزان، وقطع مني بشفرة إعراضه نياط قلبي، فصرت عثيثة أثاثي، وفويرة كتبي، حتى كدت آكل الحصير، وأشرب عليه مداد التفسير، وأرتقي هضبة عزلي، على وجه لم يحب إليه طفل عقلي، وذلك أني دعيت من قبل الدولة العلية أيدها وأبدها رب البرية، لحضور سور همايون، الذي هو بالخير مقرون، فبلاني من ذلك سرور، وضرب عليه من الكآبة سور، فأفهمني إشارة أني خرجت من البلد، أتردى بخنادق الكمد، ثم أشار علي بالاعتذار، وعرض تعذر السفر لبعد الدار، مع الاشتغال بالتفسير، والقيام بمصالح الوزير، فكتبت حسبما أشار، وكتب هو أيضًا ألا أنه أولج الليل في النهار، ومع ذا أوصل كتابي إلى حضرة شيخ الإسلام وولي النعم، الآخذ من مطايا الحق بمذود لا ومقود نعم على يد الباليون الفرنساوي، فأهوى بي لذلك إلى وخيم المهاوي، فكان ما كان، والله تعالى المستعان، فلم أر بدًا من الارتحال، خشيًا أن تغتالني غائلة العيال، وقلت لنفسي لا بد من السفر، وإن كانت قطعة من السقر، لأعرض حالي وعريض ما أنا فيه من البلية، على مراحم الدولة العلية العثمانية
1 / 12