وكلما ازداد عدد الأبرياء الذين يتلقون الموت بصدورهم ويضحون بأنفسهم، كانت تضحيتهم أداة لخلاص الآخرين، فتقل الآلام بذلك. وكل ألم نقبله بابتهاج، تزول عنه صفته، فيستحيل إلى فرح مقيم في النفس. وذلك الرجل الذي يفر من الآلام ويخشاها يبقى في هم وغم، حتى إذا وقعت به ألفته قد أشقى - من خوف وقوعها - على الهلاك. ولكن ذلك الذي يعد نفسه في ابتهاج لقبول أي شيء ينزل به لا يحس ألما، لأن ابتهاجه يقوم لديه مقام المخدر.
وإنما أكتب هذا لأني أرى أننا لا يمكننا أن نحقق استقلالنا إلا إذا كنا على أهبة الموت ننتظره ونقدر وقوعه. ومن استعد، وتأهب، كان حريا أن ينجو من الحوادث. واعتقادي الراسخ أن التأهب يقتضي اتخاذ القماش الوطني، وإذا نحن نجحنا في الاقتصار على القماش الوطني فإن هذه الحكومة، أو أية حكومة غيرها، لا يمكنها أن تجرب فينا تجربة أخرى.
ولكن مع ذلك يجب ألا نهمل الطوارئ، فإن للسلطان سكرة تعمي وتصم، حتى لا يقدر الأقوياء أن يروا ما تحت أنفهم أو يسمعوا ما يطرق آذانهم. ولسنا نعرف إلام تنتهي هذه الحكومة التي أسكرها سلطانها، وعلى ذلك يبدو لي أنه يجب على جميع الوطنيين أن يستعدوا للموت والحبس وما إليهما.
والشجعان يلقون الموت وعلى شفاههم الابتسامات، ولكنهم مع ذلك يحترسون. فإنه ليس في هذه الحرب السلمية للاستقلال مكان للرعونة ... فإنا لا نقترح الموت أو الحبس من أجل غاية تخالف الأخلاق الحسنة، ولكن يجب أن نستعد للصعود على المشنقة ونحن نقاوم مظالم الحكومة.
كان القديس فرانسس يطوف في الغابات، ولم ينله مع ذلك أذى من الثعابين أو سائر الوحوش، بل حدث العكس، وهو أن هذه الحيوانات كانت تألفه. والآن في الهند يعيش آلاف من «الفقراء» وأصحاب الطريقة في غابات هندوستان بين الأسود والببرة والثعابين، فلا نسمع أن واحدا منهم قد قتلته هذه الحيوانات. وإني أؤمن بذلك المذهب الذي يقول إنه ما دام الإنسان لا يعتدي على الحيوان فإن هذا لا يعتدي عليه أيضا. وأعظم صفات الإنسان وأجلها هو الحب. وعبادة الله هي هباء ما لم يكن الحب أساسها. •••
إنما ننشد بالحب أن نقهر غضب الإنجليز الحاكمين وأنصارهم. علينا أن نحبهم وندعو الله أن يحبوهم بالحكمة لكي يروا ما يبدو لنا من أخطائهم. ويجب أن نرضى بأن يقتلونا، ولكن يجب ألا نقتلهم نحن. وإذا ألقوا بنا في السجون فيجب أن نرضى بهذا الحظ دون أن نحس بالكراهة ونفكر في الانتقام.
الفصل السادس والعشرون
المنبوذون في الهند
إني أعد وجود المنبوذين في الهند أكبر وصمة للديانة الهندوكية. وأنا لم أهتد إلى هذا الرأي بالاختبارات القاسية التي مرت بي وأنا في أفريقيا الجنوبية، ولا لأني كنت في بعض أيامي الماضية متشككا في الدين. وكذلك من الخطأ أن يحسب أحد، كما ظن بعضهم، أني اكتسبت هذا الرأي من دراستي للديانة المسيحية وآدابها، لأن الحقيقة أن هذا الرأي يرجع إلى ما قبل معرفتي بكتب المسيحية أو الاختلاط بالمسيحيين.
لقد كنت في الثانية عشرة أو دونها حين أضاء ذهني بهذه الحقيقة، فقد كان يأتي إلى بيتنا زبال من المنبوذين يدعى «أوكا» ينظف المراحيض، وكنت كثيرا ما أسأل أمي لماذا لا يجوز لي أن ألمسه، ولماذا أمنع من لمسه؟ وكنت إذا اتفق لي أن لمسته خطأ يطلب مني أن أتوضأ. وكنت أطيع بالطبع ما يطلب مني، ولكني كنت مع ذلك أعارض في ابتسام وأقول إن الديانة الهندوكية لا تعرف أحدا منبوذا، وأنه من المحال أن نقر هذه الحال. وكنت صبيا مطيعا أؤدي واجباتي ما دامت تتفق مع احترامي لوالدي. وكثيرا ما كنت أجادلهما في هذه المسألة حتى قلت لأمي إنها مخطئة كل الخطأ في الاعتقاد بأني أذنب عندما ألمس «أوكا».
نامعلوم صفحہ