دعوة إلى الاستقلال النفسي والاعتماد على القوة الروحية وما يتبعها من تقشف ونسك. وليست المقاومة السلبية إلا جزءا من هذه الدعوة، لأن الشخص المقاوم يجب أن يقابل الحبس والمصادرة والإهانة بقلب جريء ونفس بشوش استنادا إلى ما في نفسه من مدخر القوة الروحية، واعتمادا على أن ما يقع به هو السبيل إلى خلاص الهند.
والثاني:
دعوة إلى الاستقلال الاقتصادي باتخاذ المغزل وإيثار القماش الهندي على جميع الأقمشة الأجنبية الواردة إلى الهند. وهذه الدعوة قد انتهت إلى نتيجتها المنطقية وهي مقاطعة البضائع الإنجليزية وإحراقها أحيانا. ويرمي غاندي من هذه الدعوة إلى تزويد الفلاح الهندي بعمل يعود عليه بالكسب، فيخفف عنه فاقته، ثم قطع الطريق على المستعمرين بمنع الفائدة التي تعود عليهم من رواج بضائعهم حتى تتعارض مصلحتهم التجارية مع الاستعمار.
فأما الدعوة الأولى فتكاد تكون هندية في أصلها وغايتها وتربتها، فإن روح الهند هي روح النسك. و«الفقير» هو طراز آدمي لا وجود له في أي بلاد أخرى، وهو رجل يمزج بين الفقر والشحاذة والصوفية والنسك وإيلام الجسم. وكلنا يذكر أن الناسك شخص يتكرر وروده في حكايات «كليلة ودمنة» ذلك الكتاب الهندي المعروف، وفي المزاج الهندي استعداد لهذه الدعوة ونزوع إليها، وغاندي هو قبل كل شيء ناسك، وهذا الذي أحبه في «ثورو» أو «تولستوي» أو المسيحية هو أيضا روح النسك في هؤلاء جميعا. بل هو أكثر من ناسك، لأنه لم يقنع بمسوح النساك بل ارتضى لنفسه تلك الشملة التي لا يلبسها غير الجبارية المنبوذين.
والنسك هو النظر السلبي للحياة، ونحن - المصريين - أبعد الناس عن هذا النظر، ومزاجنا هو المزاج الإيجابي، نحب الاستمتاع، ونقبل على الدنيا، ونستجيب لدواعيها بنعم وليس بلا. ومن العبث لذلك أن نطالب أمتنا بمقاومة الاستعمار بالتقشف والقناعة. وقد يجوز لنا هنا أن ننسب روح النسك الشائع في الهند الآن كله أو بعضه إلى الفاقة والقحط منذ أقدم الأزمنة إلى الآن. فقد جعلت من ضرورات العيش فضيلة، ومن الحرمان الطبيعي نسكا دينيا. ولكنا ونحن نقول ذلك نؤكد أيضا هذه الحقيقة. وهي أن في الطبيعة الإنسانية نزوعا إلى النسك وعزوفا عن المادة، وانكفاء للنفس على نفسها حين تنشد السعادة والهناء في الداخل بدلا من نشدانها لهما في الخارج. ولكن هذه الصفات أضعف وأخفى من الصفات البارزة الأخرى، أي الإقبال على الدنيا والاستجابة لدواعيها المادية.
وأما الدعوة الثانية، وهي أن يكون من وسائل مكافحة الاستعمار تحقيق الاستقلال الاقتصادي، فهذا هو الذي يجب أن نأخذه عن غاندي ونعمل به. فقد عمم هو المغزل في القرى الهندية، وأهاب بالأمة أن تتخذ الملابس الهندية، فاستحدث للهنود كرامة اقتصادية ترفع رءوسهم وتجرئهم على الإقدام والإقبال على الحياة. ومتى كفى الهندي نفسه كل شيء، لأن الطعام وفير في تلك البلاد التي تعيش بالزراعة، ومتى كفى الهندي نفسه وأصبحت نقوده لا تبرح جيبه إلى جيب الأجنبي، وأصبح قطنه لا يخرج من الحقل إلا إلى المغزل ومن المغزل إلى النول؛ لم يعد للاستعمار أي سلطان عليه. إذ ليس شيء في العالم يهدم الاستعمار مثل الصناعة الوطنية. ثم ليس هناك مجهود أصح وأسلم وأبقى مع الأيام، في مكافحة الاستعمار، من المجهود الاقتصادي. وذلك أنه متى أثرت الأمة واعتمدت على نفسها في التجارة والصناعة، أمكنها أن تعلم نفسها وأن تجعل الأجنبي غريبا في بلادها.
ولكن غاندي جعل المغزل محور الكفاح الاقتصادي في الهند، وقد أصبح المغزل رمزا لهذا الكفاح، يذكر الشاب الهندي بما يلبس ويأكل كما يذكره بالتاجر الذي يعامله والقهوة التي يقعد عليها والأثاث الذي يؤثث به بيته والجواهر والمصوغات التي تتزين بها زوجته.
ونحن نحتاج إلى مثل هذا الرمز، ولكنا لا نستطيع أن نستعمل المنزل لأن العامل المصري على شيء من اليسر يجعله لا ينتفع بالغزل اليدوي. وإذن يجب علينا أن نمسك الحبل من الطرف الآخر ونجعل النول رمزا للكفاح الاقتصادي. وقد عرفنا باختباراتنا الحديثة أن النول المصري يمكنه أن يصمد للمزاحمة أمام النول الأوربي، وأن تباع المنسوجات الصوفية والحريرية والقطنية بأثمان حسنة.
وإذن يجب علينا أن نعمم النول في القرى بين الفلاحين، رجالهم ونسائهم. بل يجب أن نعممه بين جميع نساء المدن حتى يجدن فيه سلوة تنشطهن إلى الحركة والعمل، بل كي يجدن فيه رمزا يمنعن من شراء الأطعمة والرياش والأدوات المنزلية الأجنبية.
الفصل الثالث عشر
نامعلوم صفحہ