غاندي السيرة الذاتية
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
اصناف
إن تجارب غاندي الشهيرة في المجال الجماعي والتربوي والسياسي ترتبط ارتباطا وثيقا بمساعيه للتغير على المستوى الشخصي. وبغض النظر عن الاختلاف بين تجاربه في تلك المجالات المتعددة، يرى غاندي أنه لا يمكن الفصل بينها لأنها جميعا في الأصل تجارب أخلاقية. وأنها اندمجت جميعا تحت مظلة نمط من أنماط البحث والتجريب أكثر شمولا: وهو البحث المستمر، وفقا لنشأته وخبراته، في المبادئ التي يمكن أن يتبناها أو ينبذها على المستوى الأخلاقي - مثل المعاملة الظالمة للمنبوذين في الهند. وفي الوقت ذاته، كان دائما ما يفكر في المبادئ التي يمكن أن يتقبلها من تعاليم الديانات الأخرى، مثل المسيحية والإسلام، والمبادئ التي يجب عليه التخلي عنها. وكانت كتابة «السيرة الذاتية»، أخيرا، في حد ذاتها تجربة تضمنت جميع التجارب الأخرى الخالدة في الذاكرة وأعادت تدبرها.
عند النظر إلى حياة غاندي وأهميتها لنا، ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين وبعد مرور ما يقرب من خمسة عقود على وفاته؛ نجد أنه ينبغي علينا أن نتبنى نفس الاتجاه إلى التجريب، واختبار أي التجارب يمكن أن تتجاوز الفحص الدقيق من عدمه، وأيها يمكن أن تخضع للتعديل لتتناسب مع الظروف المستحدثة. فيمكننا أن ننتقي من آرائه كما انتقى هو من آراء الآخرين. فعلى سبيل المثال، علينا أن نؤكد، أسوة به، على مبدأي الحقيقة واللاعنف المتلازمين إذا ما أخذنا منهجه في فض النزاعات والتغير الاجتماعي على محمل الجد. وذلك لا يعني أن علينا أن نتفق معه بيقين تام فيما يتعلق بآرائه الذاتية، والتي تتصف في بعض الأحيان بالمغالاة، حول الغذاء أو الحياة الجنسية أو العادات الصحية . وليس لزاما علينا أن نلتزم بالحقائق الاقتصادية التي توصل إليها، والتي تم تبسيطها وصياغتها على نحو رديء حتى في عهده. ويحق لنا ألا نأخذ بمعارضته لجميع وسائل تنظيم الأسرة وإن قبل منها العزوف عن ممارسة الجنس، وذلك ما كان هو نفسه سيفعله إذا ما عاش ليشاهد النمو السكاني غير المسبوق الذي تشهده الهند والعالم بأسره.
حتى وإن رغبنا في نبذ بعض آراء غاندي أو تعديلها، تبقى سيرته الذاتية قيمة لما أسهمت به من تقديم سبيل جديد للمقاومة الجماعية للظلم. علاوة على ذلك، يمكننا الاستفادة من ثلاثة من المبادئ العامة الأخرى التي تركها لنا، والتي ستؤدي دورا مهما في العقود القادمة لا يقل أهمية عن الدور الذي أدته في عهده. وربما كان غاندي سيقول لنا إن تلك المبادئ هي الأخرى «قديمة قدم التاريخ» مثل مبدأي الحقيقة واللاعنف اللذين سعى إلى تعزيزهما، إلا أنه يتناول تلك المبادئ في سيرته الذاتية على نحو قوي أخاذ.
إن أول تلك المبادئ يتمثل ببساطة في إيمانه القوي بأن البشر جميعا يمكنهم تخطيط حياتهم وتوجيهها وفقا للغايات الأسمى، بغض النظر عن مدى شعورهم بالضآلة أو الضعف. لقد عاش غاندي منذ طفولته مقتنعا بأن قراراته المتعلقة بأسلوب حياته ذات أهمية، وأنه يمتلك القدرة على جعلها تتوافق مع ما يراه صوابا.
أما المبدأ الثاني فيعنينا الآن أكثر من أي وقت مضى؛ نظرا لما نشهده من وحشية ترتكب ضد المدنيين باسم العرقية والدين - كما حدث في يوغسلافيا السابقة وفي العديد من دول العالم، ولا سيما الهند، مسقط رأس غاندي. إن غاندي يقدم نموذجا لشخص متعمق في ميراثه الثقافي والديني، ولا يزال معارضا تماما لجميع صور التعصب الاجتماعي والعرقي والديني. وقد أصر على أن وسائل الشر لا تفسد الغايات التي تهدف إلى تحقيقها وتحط من قيمتها فحسب، بل تحط من قدر الأشخاص الذين يلجئون إليها. إن التغلب على الرغبة الملحة في اللجوء لمثل تلك الوسائل يبلغ ذروة الصعوبة عندما يروم الإنسان إصلاح ما أفسده الظلم. ويرجع سبب «انتشار سم الكراهية في العالم» إلى ندرة الالتزام بالقاعدة السلوكية «ابغض الخطيئة وليس مقترفها» (الجزء الرابع - الفصل التاسع).
وثالث تلك المبادئ هو إصرار غاندي على ارتباط التغير الشخصي بالقدرة على إحداث تغير اجتماعي. ويحذر أيضا من عدم جدوى السعي إلى تطبيق مبادئ مثل اللاعنف والعدالة في القضايا العامة ما دام الفرد يتجاهل تطبيقها في حياته الشخصية. ومن الحكمة أن يبدأ المرء تطبيقها تدريجيا وبقدر صغير. يستطيع كل إنسان - إذا أراد - أن يخلق «مناطق سلمية» في حياته، حيث يبذل قصارى جهده بغية التخلص من العنف والزيف. وبذلك، سيمهد الفرد الطريق إلى «عالم الغد» الذي:
سيكون، ويجب أن يكون، مجتمعا يقوم على اللاعنف. وقد يبدو ذلك الهدف بعيد المنال، أو مثاليا غير عملي. لكن تحقيقه ليس مستحيلا لأنه يمكن البدء في تحقيقه من هنا والآن. يمكن للفرد أن يتبنى أسلوب حياة المستقبل - أسلوب اللاعنف - دون الاضطرار إلى انتظار تبني الآخرين له. وإذا كان الفرد يمكنه فعل ذلك، أوليس من السهل إذن أن تتمكن مجموعة من الأفراد أو أمة بأكملها من تبني ذلك الأسلوب؟
8
سيسيلا بوك
أبريل/نيسان 1993م
نامعلوم صفحہ