وقال: طلبتك بالتليفون منذ ساعة وعرفت الخبر، وأطرق إلى الأرض ثم قال: جئت لأعزيك.
وتلتفت حولها، كان الصراخ لا يزال يدوي في أذنيها، وعيون غريبة جاحظة تحاصرها من كل ناحية، وأخفت وجهها بين يديها وأجهشت بنشيج مكتوم، وأسندها الساعاتي وأجلسها وانطلقت بهما العربة من شارع إلى شارع، وفي الأفق البعيد كانت ذؤابة الشمس الأخيرة تنطفئ، وانتشرت في السماء أجسام رمادية مضرجة بدماء باهتة، وخرجت العربة إلى الخلاء، ولمعت رمال الصحراء تحت ضوء العربة، وتذكرت وجه أمها في الصباح حين كانت تنظر إليها قبل أن تخرج، كان في عينيها نظرة غريبة، نظرة مستجدية ضعيفة تطلب منها أن تبقى معها، لكنها لم تر هذه النظرة بوضوح كما تراها الآن، ربما رأتها وتجاهلتها بغير عمد، كثيرا ما تجاهلت نظراتها الصامتة، كثيرا ما تجاهلتها، كانت تريد أن تسرع وتخرج، لماذا كانت تسرع؟ لماذا كانت تخرج؟ إلى أين كانت تذهب؟ لماذا لم تبق معها ذلك اليوم الأخير؟ كانت وحدها، وحدها تماما، ربما نادتها ولم تجدها، ربما أرادت شيئا من الماء فلم تجد أحدا، لماذا تركتها في ذلك اليوم؟ أيمكن أن يعود ذلك اليوم مرة أخرى؟
وتدفقت الدموع في أنفها وحلقها، ففتحت فمها للهواء ولهثت، كانت العربة قد وقفت، والساعاتي إلى جوارها جالس صامت، ينظر إلى وجهها الطويل الشاحب ويتأمل عينيها الخضراوين الشاردتين، ومد يده السمينة الطرية وأمسك يدها النحيلة المرتجفة، وقال: لا تحزني يا فؤادة؛ هذه طبيعة الحياة لا توجد حياة بغير موت، وسكت لحظة ثم قال: ما فائدة الحزن؟ لا شيء إلا المرض، أنا لا أحزن أبدا. وإذا حدث لي ما يحزن فإني أفكر في الأشياء المفرحة، أو أسمع لحنا مرحا.
ومد يده إلى الراديو وأداره، وانبعث لحن راقص، وتجمدت الدموع في حلقها كالغصة، وأحست اختناق ففتحت باب العربة وخرجت إلى الصحراء، كان في الهواء برودة خفيفة شدت عضلاتها، لكن جسمها كان كالعبء الثقيل، وحركت ساقيها لتنفض عنها ذلك العبء المزمن لكنه ظل جاثما فوقها، وفتحت فمها لتصرخ وتطرد الغصة من حلقها لكن عضلات فمها كانت تنقبض وتنبسط دون أن تطرد شيئا، وهبطت الغصة إلى رقبتها، فبدأت عضلات رقبتها تنقبض وتنبسط، لكن الغصة انتقلت إلى صدرها وبطنها، وبدأت عضلات صدرها وبطنها تنقبض وتنبسط، وزحفت الغصة كالدودة إلى جميع أجزاء جسمها فأصبحت عضلاتها جميعا تنقبض وتنبسط في اهتزازات سريعة عنيفة كتشنجات الصرع، كانت تريد أن تتخلص من ذلك الشيء الحبيس في أنسجتها.
وكان اللحن يرن في الصحراء الساكنة، لم تكن تسمعه، ولكنه كان يسري في الهواء ويدخل ويخرج مع أنفاسها، كانت تلهث وتريد أن تتوقف، لكن عضلاتها أفلتت من قبضة وعيها وانطلق جسمها يهتز مع اللحن، يفرز سموم الطاقة الحبيسة ويستشعر متعة الرقص بغير وعي.
نعم؛ كانت غائبة عن الوعي، وكانت تستمتع بلذة الحركة العنيفة، لكن نقطة صغيرة في رأسها، ربما خلية واحدة من خلايا مخها، كانت لاتزال تحتفظ بوعيها، ولا تزال تعرف أنها في الصحراء، وأن الساعاتي يقف وراءها، وأنها حزينة حزنا شديدا، أمها ماتت، وفريد غائب، وفكرة البحث ضائعة، وحياتها في الوزارة فارغة.
وهزت رأسها بعنف لتفصل عنه تلك الخلية الواحدة الواعية، لكنها لم تكن تنفصل أبدا. كانت قد تماسكت وتصلبت وراحت ترتج داخل رأسها وتمزق خلايا مخها الهلامية كقطعة زلط.
وانقطع اللحن فجأة، ربما بلغ نهايته، أو ربما أطفأ الساعاتي الراديو، وسقط جسمها فوق الرمل منقطع الأنفاس مبللا بالعرق، منذ متى لم يبلل جسمها مثل هذا العرق؟ منذ زمن لم ترقص رقصة الخلاص من سياج العقل؟ منذ متى لم تسمع تيوردوراكس السجين؟ منذ متى قال كازانزاكس لا ينقض الجنون إلا الجنون؟ لكن فريد كان يقاوم الجنون، كان يقول جنون فرد واحد معناه الحبس أو الموت، ولكنه جنون الملايين. وماذا يصنع جنون الملايين يا فريد؟! كان يقول المعرفة والجوع؛ الجوع موجود ولا ينقص إلا المعرفة، لماذا لا يعرفون يا فريد؟ وكيف يعرفون يا فؤادة، وكل شيء من حولهم إما أخرس وإما يكذب؟
وفتحت عينيها، ووجدت نفسها راقدة فوق الرمل، وإلى جوارها كتلة ضخمة من اللحم لها عينان جاحظتان يطل منهما شيء كاذب يتلصص، وسمعت صوتا غليظا يقول: أبدع رقصة رأيتها، وأجمل راقصة في الوجود! وحوطها بذراعيه وملأت أنفها رائحة الحديد الصدئ، وانتشر في فمها اللعاب اللاسع المر، ورأت عينيه الجاحظتين تبرزان وتتسعان تطل منهما نظرة غريبة مخيفة، وتلفتت حولها في فزع، ولم تر إلا الصحراء والظلام. وحاولت أن تتنفس ولم تستطع، فدفعته بعيدا عنها بكل قوتها ونهضت مسرعة لتجري. وجرى وراءها.
لم يكن أمامها إلا ظلام يتسع، ومن خلفها ذلك الشبح الجاحظ العينين يطاردها، وخيل إليها أن الأرض المنبسطة أمامها تعلو وتتكور لتصبح عينين كبيرتين جاحظتين، وهي تجري بينهما في خندق طويل ضيق، وكانت السماء أيضا بكتلتها المقعرة السوداء قد أصبحت عينين كبيرتين جاحظتين تجثمان فوقها وتضغطان عليها، واصطدمت بشيء مقعر صلب وسقطت على الأرض فاقدة الوعي.
نامعلوم صفحہ